لمَّا خَرجَ طُغرلبك من بغداد خَلْفَ أَخيهِ إبراهيمَ ينال استَغلَّ الفُرصةَ البساسيري، فلمَّا كان يومُ الأحدِ الثامن من ذي القعدة جاء إلى بغداد ومعه الرَّاياتُ البِيضُ المِصريَّةُ العُبيدِيَّةُ، وعلى رَأسِه أَعلامٌ مَكتوبٌ عليها اسمُ المُستَنصِر بالله أبو تَميمٍ مَعَدُّ، أَميرُ المؤمنين، فتَلقَّاهُ أَهلُ الكَرخِ الرَّافِضَةُ وسَألوهُ أن يَجتازَ من عندهم، فدَخلَ الكَرخَ وخَرجَ إلى مشرعةِ الزَّاويا، فخَيَّمَ بها والنَّاسُ إذ ذاك في مَجاعةٍ وضُرٍّ شَديدٍ، ونَزلَ قُريشُ بن بَدران وهو شَريكُ البساسيري في هذه الفِتنةِ، في نحوٍ مِن مائتي فارسٍ على مشرعةِ بابِ البَصرةِ، وكان البساسيري قد جَمعَ العَيَّارِينَ وأَطمَعَهُم في نَهبِ دارِ الخِلافةِ، ونَهَبَ أَهلُ الكَرخِ مِن الشِّيعةِ دُورَ أَهلِ السُّنَّةِ ببابِ البَصرةِ، ونُهِبَت دارُ قاضي القُضاة الدَّامغاني، وتملك وهلك أَكثرُ السِّجِلَّاتِ والكُتبِ الحُكمِيَّة، وبِيعَت للعطَّارِين، ونُهِبَت دُورُ المُتعلِّقِين بخِدمةِ الخَليفةِ، وأَعادَت الرَّوافضُ الأذانَ بحيَّ على خَيرِ العَملِ، وأُذِّنَ به في سائرِ نواحي بغداد في الجُمُعاتِ والجَماعاتِ وخُطِبَ ببغداد للمُستَنصِر العُبيدي على مَنابِرِها، وضُربَت له السِّكَّةُ على الذَّهَبِ والفِضَّةِ، وحُوصِرَت دارُ الخِلافةِ، فدافَع الوزيرُ أبو القاسم بن المسلمة المُلَقَّب برَئيسِ الرُّؤساءِ، بمن معه من المُستَخدِمين دون دارِ الخِلافةِ, فلم يُفِد ذلك شيئًا، فرَكِبَ الخَليفةُ بالسَّوادِ والبُردَةِ، وعلى رَأسِه اللِّواءُ وبِيَدِه سَيفٌ مُصَلَّتٌ، وحولَه زُمرةٌ مِن العبَّاسيِّين والجواري حاسِراتٌ عن وُجوهِهنَّ، ناشِراتٌ شُعورِهِنَّ، ومَعهُنَّ المصاحِفُ على رُؤوسِ الرِّماحِ، وبين يَديهِ الخَدَمُ بالسُّيوفِ، ثم إنَّ الخَليفةَ أَخذَ ذِمامًا من أَميرِ العَربِ قُريشٍ لِيَمنَعهُ وأَهلَهُ ووَزيرَهُ ابن المسلمة، فأَمَّنَهُ على ذلك كُلِّه، وأَنزلَه في خَيمةٍ، فلامَهُ البساسيري على ذلك، وقال: قد عَلِمتَ ما كان وقعَ الاتفاقُ عليه بيني وبينك، من أنَّك لا تَبُتَّ برَأيٍ دُوني، ولا أنا دُونكَ، ومهما مَلكْنَا بيني وبينك. ثم إن البساسيري أخذَ القاسمَ بن مَسلمةَ فوَبَّخَهُ تَوبيخًا مُفضِحًا، ولامَهُ لَومًا شَديدًا ثم ضَربهُ ضَربًا مُبرِحًا، واعتَقلهُ مُهانًا عنده، ونَهبَت العامَّةُ دارَ الخِلافةِ، ثم اتَّفقَ رأيُ البساسيري وقُريشٍ على أن يُسَيِّروا الخليفةَ إلى أَميرِ حَديثَةِ عانَة، وهو مهارش بن مجلي النَّدوي، وهو مِن بني عَمِّ قُريشِ بن بدران، وكان رجلًا فيه دِينٌ وله مُروءةٌ، فلمَّا بلغ ذلك الخَليفةَ دَخلَ على قُريشٍ أن لا يخرج من بغداد فلم يَفِد ذلك شيئًا، وسَيَّرَهُ مع أَصحابِهما في هَودَج إلى حَديثَةِ عانَة، فكان عند مهارش حَولًا كامِلًا، وليس معه أَحدٌ من أَهلِه، وأما البساسيري، وما اعتَمدَهُ في بغداد، فإنَّه رَكِبَ يومَ عيدِ الأضحى وأَلبَس الخُطباءَ والمُؤذِّنينَ البَياضَ، وكذلك أَصحابَه، وعلى رَأسِه الأَلوِيَةُ العُبيديَّة المِصريَّة، وخَطَب للمُستَنصِر العُبيدي المِصري، وانتَقَم البساسيري من أَعيانِ أَهلِ بغداد انتِقامًا عَظيًما، وغَرَّقَ خَلْقًا ممن كان يُعادِيه، وبَسَطَ على آخرين الأرزاقَ ممن كان يُحبُّه ويُواليه، وأَظهرَ العَدلَ، ثم إنَّه عَلَّقَ ابنَ المسلمة رَئيسَ الرُّؤساءِ بِكَلُّوبٍ في شِدْقَيْهِ، ورُفِعَ إلى الخَشبةِ، إلى أن مات.