لَمَّا ملك الفرنجُ مدينة صور طمعوا وقَوِيَت نفوسهم، وتيقَّنوا الاستيلاءَ على بلاد الشام، واستكثروا من الجموع، ثم وصل إليهم دبيس بن صدقة، صاحب الحلة، فأطمعهم طمعًا ثانيًا، لا سيما في حلب، وقال لهم: إن أهلها شيعة، وهم يميلون إليَّ لأجل المذهب، فمتى رأوني سلموا البلد إلي، وبذل لهم على مساعدته بذولًا كثيرة، وقال: إنني أكون هاهنا نائبًا عنكم ومطيعًا لكم، فساروا معه إليها وحصروها، وقاتلوا قتالًا شديدًا، ووطَّنوا نفوسهم على المقام الطويل، وأنهم لا يفارقونها حتى يملكوها، وبَنَوا البيوت لأجل البرد والحر، فلما رأى أهلها ذلك ضَعُفت نفوسهم، وخافوا الهلاك، وظهر لهم من صاحِبِهم تمرتاش الوهنُ والعجزُ، وقَلَّت الأقوات عندهم، فلما رأوا ما دفعوا إليه من هذه الأسباب أعملوا الرأي في طريق يتخلَّصون به، فرأوا أنه ليس لهم غيرُ قسيم الدولة البرسقي، صاحب الموصل، فأرسلوا إليه يستنجدونه ويسألونه المجيءَ إليهم ليسلِّموا البلد إليه. فجمع عساكره وقصدهم، وأرسل إلى من بالبلد، وهو في الطريق، يقول: إنني لا أقدر على الوصول إليكم، والفرنج يقاتلونَكم، إلَّا إذا سلمتم القلعة إلى نوَّابي، وصار أصحابي فيها، فإنني لا أدري ما يُقَدِّرُه الله تعالى إذا أنا لقيتُ الفرنج، فإن انهزمنا منهم وليست حلب بيدِ أصحابي حتى أحتمي أنا وعسكري بها، لم يبقَ منا أحد، وحينئذ تؤخَذُ حلب وغيرها، فأجابوه إلى ذلك، وسلَّموا القلعة إلى نوابه، فلما استقروا فيها، واستولوا عليها، سار في العساكر التي معه، فلما أشرف عليها رحل الفرنجُ عنها، وهو يراهم، فأراد مَن في مقدمة عسكره أن يحمِلَ عليهم، فمنَعَهم هو بنفسه، وقال: قد كُفِينا شَرَّهم، وحَفِظْنا بلدنا منهم، والمصلحةُ تركُهم حتى يتقرَّر أمر حلب ونُصلِحَ حالها، ونُكثر ذخائرها، ثم حينئذ نقصِدُهم ونقاتِلُهم. فلما رحل الفرنجُ خرج أهل حلب ولقُوه، وفرحوا به، وأقام عندهم حتى أصلح الأمورَ وقَرَّرها.