سيَّرَ نور الدين محمود بن زنكي عسكرًا كثيرًا إلى مصر، وجعل عليهم الأميرَ أسد الدين شيركوه بن شاذي، وهو مُقَدَّم عسكره، وأكبَرُ أمراء دولته، وأشجعُهم، وكان سبب إرسال هذا الجيش أنَّ شاور السعديَّ- وزيرَ العاضد لدين الله العُبَيدي، صاحِبِ مِصرَ- نازعه في الوزارة ضرغام، وغَلَبَ عليها، فهرب شاور منه إلى الشام، ملتجئًا إلى نور الدينِ ومُستجيرًا به، فأكرَمَ مثواه، وأحسَنَ إليه، وأنعم عليه، وكان وصولُه في ربيع الأول من هذه السنة، وطلب منه إرسالَ العساكر معه إلى مصر؛ ليعود إلى منصبه، ويكون لنور الدين ثلث دخل البلادِ بعد إقطاعات العسكَرِ، ويكون شيركوه مُقيمًا بعساكِرِه في مصر، ويتَصَرَّف هو بأمر نور الدين واختياره، ثمَّ قَوَّى عزمه على إرسال الجيوش، فتقدم بتجهيزِها وإزالة عِلَلِها، وكان هوى أسد الدين في ذلك، وعنده من الشجاعة وقُوَّةِ النفس ما لا يبالي بمخافة، فتجهز، وساروا جميعًا وشاوِر في صحبتهم، في جمادى الأولى، وتقدم نورُ الدين إلى شيركوه أن يعيدَ شاوِر إلى مَنصِبِه، وينتقم له ممَّن نازعه فيه، وسار نور الدين إلى طرفِ بلاد الفرنج مما يلي دمشق بعساكره؛ ليمنع الفرنج من التعرُّض لأسد الدين ومن معه، فكان قصارى الفرنج حِفظُ بلادهم من نور الدين، ووصل أسدُ الدين ومَن معه من العساكر إلى مدينة بلبيس، فخرج إليهم ناصر الدين أخو ضرغام بعسكَرِ المصريين ولَقِيَهم، فانهزم وعاد إلى القاهرة مهزومًا، ووصل أسدُ الدين فنزل على القاهرة أواخِرَ جمادى الآخرة، فخرج ضرغام من القاهرة آخر الشهر، فقُتل عند مشهد السيدة نفيسة، وبَقِيَ يومين، ثم حُمِل ودُفِن بالقرافة، وقُتل أخوه فارس، وخُلع على شاور مُستهَلَّ رجب، وأعيد إلى الوزارة، وتمكَّن منها، وأقام أسد الدين بظاهر القاهرة، فغدر به شاوِر، وعاد عمَّا كان قرَّره لنور الدين من البلاد المصرية، ولأسد الدين أيضًا، وأرسلَ إليه يأمُرُه بالعود إلى الشام، فأعاد الجوابَ بالامتناع، وطلب ما كان قد استقَرَّ بينهم، فلم يُجِبْه شاوِر إليه، فلما رأى ذلك أرسَلَ نُوَّابَه فتسلموا مدينة بلبيس، وحكَمَ على البلاد الشرقية، فأرسل شاوِر إلى الفرنج يستمِدُّهم ويخوِّفُهم من نور الدينِ إن مَلَك مصر، وكان الفرنجُ قد أيقنوا بالهلاكِ إن تَمَّ مِلكُ نور الدين لمصر، فلما أرسل شاوِر يطلب منهم أن يساعِدوه على إخراجِ أسد الدين من البلاد جاءهم فَرَجٌ لم يحتَسِبوه، وسارعوا إلى تلبية دعوته ونُصرتِه، وطمعوا في ملك الديار المصرية، وكان قد بذل لهم مالًا على المَسيرِ إليه، وتجهَّزوا وساروا، فلما بلغ نور الدين ذلك سار بعساكِرِه إلى أطراف بلادِهم ليمتنعوا عن المسيرِ، فلم يمنَعْهم ذلك؛ لعِلمِهم أن الخطرَ في مُقامِهم إذا ملك أسدُ الدين مصر، أشدُّ، فتركوا في بلادِهم من يحفَظُها، وسار مَلِكُ القدس في الباقين إلى مصر، وكان قد وصل إلى الساحل جمعٌ كثير من الفرنج في البحرِ لزيارة البيت المقدس، فاستعان بهم الفرنجُ الساحلية، فأعانوهم، فسار بعضُهم معهم، وأقام بعضُهم في البلاد لحفظها، فلما قارب الفرنجُ مصر فارقها أسد الدين، وقصد مدينة بلبيس، فأقام بها هو وعسكَرُه، وجعلها له ظهرًا يتحصَّنُ به، فاجتمعت العساكرُ المصرية والفرنج، ونازلوا أسدَ الدين شيركوه بمدينة بلبيس، وحصروه بها ثلاثةَ أشهر، وهو ممتنعٌ بها مع أنَّ سورَها قصير جدًّا، وليس لها خندق، ولا فصيل يحميها، وهو يغاديهم القتالَ ويُراوِحُهم، فلم يبلغوا منه غرضًا، ولا نالوا منه شيئًا، فبينما هم كذلك إذ أتاهم الخبَرُ بهزيمة الفرنج على حارم، ومِلكُ نور الدين حارم، ومسيره إلى بانياس، فحينئذ سُقِطَ في أيديهم، وأرادوا العودةَ إلى بلادهم؛ ليحفظوها، فراسلوا أسدَ الدين في الصُّلحِ والعود إلى الشام، ومفارقة مِصرَ، وتسليم ما بيده منها إلى المصريِّين، فأجابهم إلى ذلك؛ لأنه لم يعلم ما فعله نورُ الدين بالشام بالفرنج، ولأنَّ الأقوات والذخائر قَلَّت عليهم، وخرج من بلبيس في ذي الحجة.