لَمَّا فَرَغ صلاحُ الدين مِن أمر عَسقلان وما جاورها من البلاد، أرسل إلى مِصرَ؛ لطَلَبِ الأسطول الذي بها في جمَع ٍمن المُقاتِلة، ومُقَدَّمُهم حسامُ الدين لؤلؤ الحاجب، فأقاموا في البَحرِ يقطعون الطريقَ على الفرنجِ، كُلَّما رأوا لهم مركبًا غَنِموه، وشانيًا أخَذوه، فحين وصلَ الأسطول وخلا سِرُّه من تلك الناحية سار عن عسقلان إلى بيت المقدس، وكان به البُطرُك المعظَّم عندهم، وهو أعظَمُ شأنًا من مَلِكِهم، وبه أيضًا باليان بن بيرزان، صاحِبُ الرملة، وكانت مرتبتُه عندهم تقارِبُ مرتبة الملك، وبه أيضًا مَن خَلَص من فُرسانِهم مِن حِطِّين، وقد جمعوا وحشدوا، واجتمع أهل تلك النواحي- عسقلان وغيرها- فاجتمع به كثيرٌ مِن الخلق، وحَصَّنوه ونَصَبوا المجانيقَ على أسواره، ولَمَّا قرب صلاحُ الدين وساروا حتى نزلوا على القُدسِ مُنتصَفَ رجب، فلما نَزَلوا عليه رأى المُسلِمون على سُورِه من الرجال ما هالهم، وسَمِعوا لأهله من الجَلَبةِ والضَّجيجِ مِن وسط المدينة ما استدَلُّوا به على كثرة الجمع، وبقي صلاحُ الدين خمسةَ أيام يطوف حولَ المدينة لينظُرَ مِن أين يقاتلُه؛ لأنَّه في غاية الحَصانةِ والامتناعِ، فلم يجِدْ عليه موضِعَ قتالٍ إلَّا من جهة الشَّمالِ نحو باب عمودا، وكنيسة صهيون، فانتقل إلى هذه الناحيةِ في العشرين من رجب ونزلها، ونصَبَ تلك الليلة المجانيقَ، فأصبح من الغَدِ وقد فُرِغَ مِن نصبها، ورمى بها، ونَصَب الفرنجُ على سور البلد مجانيقَ ورَمَوا بها، وقوتلوا أشَدَّ قتال رآه أحَدٌ مِن الناس، وكان خيَّالة الفرنج كلَّ يوم يخرجون إلى ظاهِرِ البلد يقاتِلونَ ويُبارِزونَ، فيُقتَلُ من الفريقين، ثم وصل المسلمون إلى الخندق، فجاوزوه والتصقوا بالسور فنَقَبوه، وزحف الرماةُ يحمونَهم، والمجانيقُ تُوالي الرميَّ لتكشِفَ الفرنجَ عن الأسوار ليتمَكَّنَ المسلمون من النَّقبِ، فلمَّا نقَبوه حَشَوه بما جرت به العادةُ، فلما رأى الفرنج شِدَّةَ قتال المسلمين، وتحكُّمَ المجانيق بالرمي المتدارِك، وتمكُّن النقَّابين من النَّقبِ، وأنهم قد أشرَفوا على الهلاكِ- اجتَمعَ مُقَدَّموهم يتشاورون فيما يأتونَ ويَذَرونَ، فاتَّفَق رأيُهم على طَلَبِ الأمان، وتسليم ِبيتِ المَقدِسِ إلى صلاحِ الدين، فأرسلوا جماعةً مِن كُبَرائِهم وأعيانِهم في طلب الأمان، فلمَّا ذكروا ذلك للسلطان امتنَعَ من إجابتِهم، وقال: لا أفعَلُ بكم إلَّا كما فعلتُم بأهلِه حين ملَكْتُموه سنة 491؛ مِن القَتلِ والسَّبيِ وجزاءُ السِّيِّئةِ بمِثلِها. فلما رجع الرسُلُ خائبين محرومين، أرسل باليان بن بيرزان وطلَبَ الأمان لنَفسِه ليَحضُرَ عند صلاح الدين في هذا الأمرِ وتحريره، فأُجيبَ إلى ذلك، وحضر عنده، ورَغِبَ في الأمان، وسأل فيه، فلم يُجِبْه إلى ذلك، واستعطَفَه فلم يَعطِفْ عليه، واسترَحَمه فلم يرحَمْه، فلمَّا أيِسَ مِن ذلك هدَّد بقَتلِ أنفُسِهم وتخريبِ المسجِدِ والصَّخرةِ وكُلِّ شَيءٍ، فاستشار صلاحُ الدين أصحابَه، فأجمعوا على إجابتِهم إلى الأمان، وألَّا يُخرَجوا ويُحمَلوا على ركوبِ ما لا يُدرى عاقبةُ الأمر فيه عن أيِّ شَيءٍ تنجلي، ونحسَبُ أنَّهم أسارى بأيدينا، فنبيعُهم نفوسَهم بما يستقِرُّ بيننا وبينهم، فأجاب صلاحُ الدين حينئذ إلى بذلِ الأمان للفرنج، فاستقَرَّ أن يَزِنَ الرجُلُ عشرةَ دنانير يستوي فيه الغنيُّ والفقير، ويَزِن الطفلُ من الذكور والبنات دينارين، وتَزِن المرأة خمسة دنانير، فمن أدَّى ذلك إلى أربعين يومًا فقد نجا، ومن انقَضَت الأربعونَ يومًا عنه ولم يؤَدِّ ما عليه فقد صار مملوكًا، فبذل باليان بن بيرزان عن الفُقَراء ثلاثين ألف دينار، فأُجيبَ إلى ذلك، وسُلِّمَت المدينةُ يوم الجمعة السابع والعشرين من رجَبٍ، وكان يومًا مشهودًا، ورَفَّت الأعلامُ الإسلاميَّةُ على أسوارِها، وكان على رأسِ قُبَّة الصخرةِ صَليبٌ كبيرٌ مُذهَبٌ. فلما دخل المسلمونَ البلد يومَ الجمعة تسَلَّقَ جماعةٌ منهم إلى أعلى القبة ليقلَعوا الصليبَ، فلمَّا فعلوا وسقط صاح النَّاسُ كُلُّهم صوتًا واحدًا من البَلَدِ ومِن ظاهِرِه، المُسلِمونَ والفرنج: أمَّا المسلمون فكَبَّرُوا فرحًا، وأمَّا الفرنجُ فصاحوا تفجُّعًا وتوجُّعًا، فلما ملك البلد وفارقه الكُفَّارُ، أمر صلاح الدين بإعادة الأبنيةِ إلى حالها القديمِ، وأمر بتطهيرِ المسجِدِ والصخرةِ مِن الأقذارِ والأنجاسِ، ففُعِلَ ذلك أجمَعُ، ولما كان الجمعة الأخرى، رابع شعبان، صلى المسلمونَ فيه الجمعة، ومعهم صلاحُ الدين، وصلَّى في قبة صلاح الدين خَطيبًا وإمامًا برَسمِ الصَّلواتِ الخمس، وأمَرَ أن يُعمَلَ له مِنبَرٌ، فقيل له: إنَّ نور الدين محمودًا كان قد عَمِلَ بحَلَبٍ مِنبَرًا أمَرَ الصُّناعَ بالمبالغة في تحسينِه وإتقانه، وقال: هذا قد عَمِلْناه ليُنصَب ببيتِ المَقدِسِ! فعَمِلَه النجَّارون في عِدَّةِ سنين لم يُعمَلْ في الإسلام مثله، فأمر بإحضارِه، فحُمِلَ من حَلَب ونُصِبَ بالقدس، وكان بين عَمَلِ المنبر وحَملِه ما يزيد على عشرينَ سنة، وكان هذا من كراماتِ نور الدين وحُسنِ مقاصِدِه! رحمه الله، ولَمَّا فرغ صلاح الدين من صلاة الجمعةِ تقَدَّمَ بعِمارةِ المسجد الأقصى واستنفاد الوُسعِ في تحسينِه وترصيفِه، وتدقيقِ نُقوشِه، فأحضَروا من الرُّخامِ الذي لا يُوجَدُ مِثلُه، ومِن الفص المُذهَب القسطنطيني وغير ذلك مما يحتاجون إليه، قد ادخر على طول السنين، فشَرَعوا في عمارته، ومحَوا ما كان في تلك الأبنية من الصُّورِ، فعاد الإسلامُ هناك غضًّا طريًّا، وهذه المَكرُمةُ مِن فتح بيتِ المَقدِسِ لم يفعَلْها بعدَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ- رضي الله عنه- غيرُ صلاحِ الدين- رحمه الله- وكَفَاه ذلك فَخرًا وشَرَفًا!