لَمَّا رحل صلاحُ الدين مِن قلعةِ الشغر سار إلى قلعة برزية، وكانت قد وُصِفَت له، وهي تقابِلُ حِصنَ أفامية، وتناصِفُها في أعمالها، وبينهما بحيرةٌ تجتَمِعُ مِن ماءِ النهر العاصي وعيونٌ تتفَجَّرُ من جبل برزية وغيره، وكان أهلُها أضَرَّ شَيءٍ على المسلمين؛ يقطعونَ الطَّريقَ، ويبالِغونَ في الأذى، فلمَّا وصل إليها نزل شرقيَّها في الرابع والعشرين من جمادى الآخرة، ثم رَكِبَ من الغدِ وطاف عليها لينظُرَ مَوضِعًا يقاتِلُها منه، فلم يجِدْ إلَّا من جهةٍ، فنزله المسلمون ونصبوا عليه المجانيق، ونصب أهلُ القلعة عليها منجنيقًا بِطُولها، فلما رأى صلاح الدين أنهم لن ينتَفِعوا بالمنجنيق لارتفاعِ القلعة، عزمَ على الزَّحفِ ومكاثرةِ أهلِها بجُموعِه، فقسَّم عسكَرَه ثلاثة أقسام: يزحَفُ قِسمٌ، فإذا تَعِبوا وكلُّوا عادوا وزحف القِسمُ الثاني، فإذا تَعِبوا وضَجِروا عادوا وزحفَ القِسمُ الثَّالِثُ، ثم يدور الدورَ مَرَّةً بعد أخرى حتى يتعَبَ الفِرنجُ ويَنصَبوا، فإنَّهم لم يكن عندهم من الكثرةِ ما يتقَسَّمونَ كذلك، فإذا تَعِبوا وأعيَوا سَلَّموا القلعةَ، فلما كان الغدُ- وهو السابع والعشرون من جمادى الآخرة- تقَدَّم أحَدُ الأقسامِ، وخرج الفرنجُ مِن حصنهم، فقاتَلَهم على فصيلِهم، ورماهم المسلِمونَ بالسهام، ومَشَوا إليهم حتى قَرُبوا إلى الجبل، فلما قاربوا الفرنجَ عَجَزوا عن الدنوِّ منهم لخشونةِ المرتقى، وتسَلَّط الفرنجُ عليهم؛ لعُلوِّ مكانِهم، بالنشابِ والحجارةِ، فلمَّا تَعِبَ هذا القِسمُ انحدروا، وصَعِدَ القسم الثاني، وكانوا جلوسًا ينتظرونَهم، فقاتلوهم إلى قريبِ الظُّهرِ، ثمَّ تَعِبوا ورجعوا، فلما رآهم صلاح الدين قد عادوا تقَدَّم إليهم يردُّهم، وصاح في القسمِ الثالث، وهم جلوسٌ ينتظرون نوبَتَهم، فوثبوا مُلَبِّين، وساعدوا إخوانَهم، وزحفوا معهم، فجاء الفرنجُ ما لا قِبَلَ لهم به، وكان أصحابُ عماد الدين قد استراحوا، فقاموا أيضًا معهم، فحينئذٍ اشتَدَّ الأمرُ على الفرنجِ، وبلغت القلوبُ الحناجِرَ، وكانوا قد اشتَدَّ تَعَبُهم ونَصَبُهم، فظهر عجزُهم عن القتال، وضَعفُهم عن حَملِ السلاحِ؛ لشدَّةِ الحرِّ والقتال، فخالطهم المسلمونَ، فعاد الفرنجُ يدخلون الحِصنَ، فدخل المسلمون معهم، فملكوا الحِصنَ عَنوةً وقَهرًا، ودخل الفرنجُ القلة التي للحصن، وأحاط بها المسلمون، وأرادوا نَقبَها، وكان الفرنجُ قد رفعوا مَن عندهم من أسرى المسلمينَ إلى سطحِ القلة، وأرجلهم في القيود والخشب المنقوب، فلمَّا سَمِعوا تكبير المسلمين في نواحي القلعة كبَّروا في سطحِ القلة، وظنَّ الفِرنجُ أنَّ المسلمينَ قد صعدوا على السطحِ، فاستسلموا وألقوا بأيديهم إلى الأسرِ، فملكها المسلمونَ عَنوةً، ونَهَبوا ما فيها، وأسَرُوا وسَبَوا من فيها، وأخذوا صاحِبَها وأهلَها، وألقى المسلمونَ النار في بعض بيوتِهم فاحترقت، وأمَّا صاحِبُ برزية، فإنَّه أُسِرَ هو وامرأتُه وأولاده، فأطلقهم صلاحُ الدين.