كان وصولُ نبأ سقوط مملكةِ بيت المقدس إلى أوروبا كنتيجةٍ لمعركة حطين صاعِقًا لنصارى أوربا. فإنَّ البابا أوربان الثامن ما إن علم بما حدث حتى توفي من وقْعِ الصدمة. ودعا خليفَتَه البابا غريغوريوس الثامن بمنشور باباوي إلى حملةٍ صليبية جديدة، وأمَرَهم بالصيام كلَّ أسبوع في يوم الجمعة على امتدادِ خمس سنوات، كما أمَرَهم بالامتناع كليًّا في هذه الحقبة من الزَّمَنِ عن أكل اللحم مرَّتينِ في الأسبوع، والدعوة إلى المشاركة في حربٍ صليبية لاسترداد بيت المقدس, وقد قام بهذه الدعوة ببالغِ الهِمَّة الكاردينال إنريكو من ألبانو، وبعد شهرين حلَّ البابا كليمنت الثالث مكانَ غريغوريوس، واستكمل المهمَّةَ، وقام الكاردينالات بالتطوافِ مَشيًا على الأقدام في عموم فرنسا وإنجلترا وألمانيا. فجهَّزَ نصارى أوروبا ثلاثَ حملات ألمانية وإنكليزية وفرنسية، كل ذلك لمحاولة استرداد بيت المقدس، وصَلَت الحملتان الإنكليزية والفرنسية بحرًا سنة 586 إلى عكا، وساهمت في الحصار البحري، وكان فيهم ريتشارد المعروف بقلب الأسد، أما الحملة الألمانية فكان مَلِكُهم فريدريك الأول بربروسا، أوَّل من تحرك من ملوك أوربا لنصرة بيت المقدس وجمع عساكِرَه وسار للجهاد بزعمه. تحركت القوات الألمانية قبل غيرِها وهم من أكثر الحَمَلات عددًا، وأشدِّهم بأسًا، فكان طريقُهم على القسطنطينية، فأرسل ملكُ الروم بها إلى صلاح الدين يُعَرِّفُه الخبر ويَعِدُ أنَّه لا يمَكِّنُه من العبور في بلاده، فلما وصل ملك الألمان إلى القسطنطينية عجَزَ مَلِكُها عن منعه من العبورِ لكثرة جموعه، لكنَّه منع عنهم الميرة، ولم يمكِّنْ أحدًا من رعيَّتِه من حمل ما يريدونَه إليهم، فضاقت بهم الأزوادُ والأقوات، وساروا حتى عَبَروا خليجَ القسطنطينية، وصاروا على أرضِ بلاد الإسلام، وهي مملكةُ الملك قلج أرسلان ابن مسعود بن سليمان بن قتلمش بن سلجق. فلما وصلوا إلى أوائلها ثار بهم التركمانُ الأوج، فما زالوا يسايرونَهم ويَقتُلونَ مَن انفرد ويَسرِقونَ ما قدروا عليه، وكان الزمانُ شتاء والبرد يكونُ في تلك البلاد شديدًا، والثلجُ متراكمًا، فأهلكهم البردُ والجوع والتُّركمانُ، فقَلَّ عَدَدُهم، فلما قاربوا مدينة قونية خرج إليهم المَلِك قطب الدين ملكشاه بن قلج أرسلان ليمنَعَهم، فلم يكُن له بهم قوَّة، فعاد إلى قونية، فلما عاد عنهم قطب الدين أسرعوا السير في أثَرِه، فنازلوا قونية، وأرسلوا إلى قلج أرسلان هديةً وقالوا له: ما قصَدْنا بلادَك ولا أردناها، وإنما قصَدْنا بيت المقدس، وطلبوا منه أن يأذن لرعيَّتِه في إخراجِ ما يحتاجون إليه مِن قُوتٍ وغيره، فأذِنَ في ذلك، فأتاهم ما يريدون، فشَبِعوا، وتزوَّدوا، وساروا، وسار ملك الألمان حتى أتى بلاد الأرمن وصاحِبُها لافون بن اصطفانة بن ليون، فأمَدَّهم بالأقوات والعلوفات، وحَكَّمَهم في بلاده، وأظهر الطاعةَ لهم، ثم ساروا نحو أنطاكية، وكان في طريقِهم نهر، فنزلوا عنده، ودخل مَلِكُهم إليه ليغتسل، فغَرِقَ في مكانٍ منه لا يبلغ الماءُ وسَطَ الرجُل، وكفى اللهُ شَرَّه، وكان معه ولدٌ له، فصار ملكًا بعده، وسار إلى أنطاكية، فاختلف أصحابُه عليه، فأحب بعضُهم العود إلى بلاده، فتخَلَّفَ عنه، وبعضُهم مال إلى تمليكِ أخٍ له، فعاد أيضًا، وسار فيمن صَحَّت نيتُه له، فعَرَّضَهم، وكانوا نيفًا وأربعين ألفًا، ووقَعَ فيهم الوباءُ والموت، فوصلوا إلى أنطاكية وكأنهم قد نُبِشوا من القبورِ، فتبَرَّمَ بهم صاحبُها، وحَسَّنَ لهم المسير إلى الفرنج الذين على عكَّا، فساروا على جبلة ولاذقية وغيرهما من البلاد التي ملكها المسلمونَ، وخرج أهلُ حلب وغيرها إليهم، وأخذوا منهم خلقًا كثيرًا، ومات أكثَرُ مَن أُخِذَ، فبلغوا طرابلس، وأقاموا بها أيامًا، فكَثُرَ فيهم الموت، فلم يبقَ منهم إلا نحو ألف رجل، فركبوا في البحر إلى الفرنجِ الذين على عكا، ولَمَّا وصولوا رأوا ما نالهم في طريقِهم وما هم فيه من الاختلافِ عادوا إلى بلادهم، فغرقت بهم المراكِبُ ولم ينجُ منهم أحدٌ.