لما فرغ الفرنجُ من إصلاح أمْرِ عكا، ساروا مستهلَّ شعبان نحو حيفا مع شاطئ البحر لا يفارِقونَه، فلما سمع صلاح الدين برحيلِهم نادى في عسكره بالرحيلِ، فضايقوا الفرنج في مسيرِهم، وأرسلوا عليهم مِن السهام ما كاد يحجُبُ الشمس، ووقعوا على ساقةِ الفرنج، فقتلوا منها جماعةً، وأسَروا جماعةً، وأرسل الأفضَلُ بن صلاح الدين إلى والِدِه يستَمِدُّه ويُعَرِّفُه الحال، فأمر صلاح الدين العساكِرَ بالمسير إليه، فاعتذروا بأنَّهم ما ركبوا بأُهبةِ الحَربِ، وإنما كانوا على عَزمِ المسيرِ لا غير، فبَطَل المددُ وعاد مَلِك الإنكليز إلى ساقة الفرنج، فحماها، وجَمَعَهم، وساروا حتى أتوا حيفا، فنَزَلوا بها، ونزل المسلمونَ لِيُقيموا في قرية بالقرب من الفرنج، وأحضر الفرنجُ مِن عكا عِوَض من قُتِلَ منهم وأُسِرَ ذلك اليوم، وعِوَضَ ما هلك من الخيل، ثم ساروا إلى قيسارية، والمسلمون يسايرونَهم ويتخَطَّفون منهم مَن قَدَروا عليه فيَقتُلونه، لأن صلاح الدين كان قد أقسم أنَّه لا يظفَرُ بأحدٍ منهم إلا قَتَلَه بمن قَتَلوا بعكا، فلما قاربوا قيسارية لاصقهم المسلمون، وقاتلوهم أشدَّ قتال، فنالوا منهم نيلًا كثيرًا، ونزل الفرنجُ بها، وبات المسلمون قريبًا منهم، فلما نزلوا خرجَ من الفرنج جماعةٌ فأبعدوا عن جماعتِهم، فأوقع بهم المسلمون الذين كانوا في اليزك – المقَدِّمة- فقتلوا منهم وأسروا، ثم ساروا من قيساريَّة إلى أرسوف، وكان المسلمونَ قد سبقوهم إليها، ولم يُمكِنْهم مسايرة الفرنج لضِيقِ الطريق، فلما وصل الفرنجُ إليهم حمل المسلمون عليهم حملة منكرة وألحقوهم بالبحر، ودخله بعضُهم فقُتِل منهم كثير، فلما رأى الفرنجُ ذلك اجتمعوا، وحملت الخيَّالة على المسلمين حملةَ رجل واحد، فوَلَّوا منهزمين، فلما انهزم المسلمون عنهم قُتِلَ خلق كثير، والتجأ المنهزمون إلى القلب، وفيه صلاحُ الدين، وكان بالقُربِ من المسلمين روضةٌ كثيرة الشجر، فدخلوها وظَنَّها الفرنج مكيدةً، فعادوا، وزال عنهم ما كانوا فيه من الضِّيقِ، ثم سار الفرنجُ إلى يافا فنزلوها، ولم يكُنْ بها أحد من المسلمين، فملكوها، وسار صلاحُ الدين عنهم إلى الرملة، واجتمع بأثقالِه بها، وجمع الأمراء واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا عليه بتخريبِ عسقلان، فأمر بتخريبِها، فخُرِّبَت تاسع عشر شعبان، وأُلقِيَت حجارتها في البحر، وهَلَك فيها من الأموال والذخائر التي للسُّلطانِ والرعية ما لا يُمكِنُ حَصرُه، وعفى أثَرَها حتى لا يبقى للفرنجِ في قَصدِها مَطمَعٌ، ولَمَّا سمع الفرنج بتخريبها أقاموا مكانَهم ولم يسيروا إليها، فلما خَرِبَت عسقلان رحل صلاح الدين عنها ثاني شهرِ رمضان، ومضى إلى الرملة فخَرَّبَ حِصنَها وخَرَّب كنيسة لد، ثم سار صلاح الدين إلى القدس بعد تخريبِ الرملة، فاعتَبَرَه وما فيه من سلاحٍ وذخائر، وقرَّرَ قواعِدَه وأسبابه، وما يُحتاج إليه، وعاد إلى المخيم ثامن رمضان، وفي هذه الأيام خرج ملك الإنكليز من يافا، ومعه نفرٌ من الفرنج من معسكرهم، فوقع به نفرٌ من المسلمين، فقاتلوهم قتالًا شديدًا، وكاد ملك الإنكليز يؤسَرُ، ففداه بعضُ أصحابه بنَفسِه، فتخلَّصَ المَلِكُ وأُسِرَ ذلك الرجُل.