لما رأى صلاح الدين أنَّ الفِرنجَ قد لزموا يافا ولم يفارِقوها، وشَرَعوا في عمارتها. رحَلَ مِن مَنزله إلى النطرون ثالث عشر رمضان، وخيَّمَ به، فراسله ملكُ الإنكليز يطلُبُ المهادنة، فكانت الرسُلُ تتردَّدُ إلى المَلِك العادل أبي بكر بن أيوب، أخي صلاح الدين، فاستقَرَّت القاعدة أنَّ مَلِكَ الإنكليز يزوجُ أختَه من العادل، ويكون القُدسُ وما بأيدي المسلمين من بلاد الساحِلِ للعادل، وتكون عكَّا وما بيد الفرنج من البلاد لأخت ملكِ الإنكليز، مضافًا إلى مملكةٍ كانت لها داخِلَ البحر قد وَرِثَتها مِن زَوجِها، وأن يرضى الداوية بما يقع الاتفاقُ عليه، فعرض العادل ذلك على صلاح الدين، فأجاب إليه، فلما ظهر الخبَرُ اجتمع القسيِّسون والأساقفة والرهبان إلى أخت ملك الإنكليز، وأنكروا عليها، فامتنعت من الإجابة، وقيل كان المانِعُ منه غير ذلك، ولم يتِمَّ بينهما صلح، وكان ملك الإنكليز يفعَلُ ذلك خديعةً ومكرًا، ثم إن الفرنج أظهروا العزمَ على قصد بيت المقدس، فسار صلاحُ الدين إلى الرملة، جريدة -الجريدة خَيْلٌ لا رَجَّالةَ فيها- وترك الأثقالَ بالنطرون، وقَرُب من الفرنج، وبقي عشرين يومًا ينتَظِرُهم، فلم يبرحوا، فكان بين الطائفتين، مُدَّة المُقام، عدة وقعات، انتصر فيها كلها المسلمون على الفرنج، وعاد صلاح الدين إلى النطرون، ورحل الفرنجُ من يافا إلى الرملة ثالث ذي القعدة، على عَزمِ قَصدِ بيت المقدس، فقَرُب بَعضُهم من بعضٍ، فعَظُم الخَطبُ واشتَدَّ الحذر، فكان كلَّ ساعة يقع الصوتُ في العسكرين بالنَّفيرِ، فلقوا من ذلك شدَّةً شديدة، وأقبل الشتاءُ وحالت الأوحال والأمطارُ بينهما.