هو أبو المعالي محمد بن الملك العادل، الملقب بالملك الكامل ناصر الدين، ولد سنة 576، وكان أكبر أولاد العادل بعد مودود، وإليه أوصى العادل لعلمه بشأنه وكمال عقله، وتوفُّر معرفته، ملك مصر ثلاثينَ سنة، وكانت الطرقاتُ في زمانه آمنة، والرعايا متناصفة، لا يتجاسَرُ أحد أن يظلم أحدًا، وكانت له اليد البيضاء في رد ثغرِ دمياط إلى المسلمين بعد أن استحوذ عليه الفرنج، فرابطهم أربعَ سنين حتى استنقذه منهم، وكان يومُ أخْذِه له واسترجاعه إياه يومًا مشهودًا، مع أنه هو من سلم القدسَ مرة أخرى للفرنج بصلحٍ معهم. قال ابن خلكان: "رأيت الكامل والأشرف، وكانا يركبان معًا ويلعبان بالكرةِ في الميدان الأخضر الكبير كلَّ يوم، ولقد كنت أرى من تأدب كل واحد منهما مع الآخر شيئًا كثيرًا، ثمَّ وقعت بينهما وحشة، وخرج الأشرفُ عن طاعة الكامل، ووافقَته الملوكُ بأسرها على الخروج على الملك الكامل، ولم يبقَ مع الملك الكامل سوى ابن أخيه الملك الناصر صاحبِ الكرك؛ فإنه توجه إلى خدمته بالديار المصرية. فتحالفوا وتحزَّبوا واتفقوا وعزموا على الخروج على الملك الكامل" لما استراح خاطرُ الملك الكامل من جهة الفرنج تفرَّغ للأمراء الذين كانوا متحاملين عليه فنفاهم عن البلاد، وبدَّد شملهم وشَرَّدَهم، ثم دخل إلى القاهرة, وشرع في عمارة البلاد وبنى بها دار حديث ورتَّب لها وقفًا جيدًا، واستخرج الأموال من جهاتها، وكان سلطانًا عظيم القدر جميل الذكر محبًّا للعلماء متمسكًا بالسنة النبوية، حسن الاعتقاد معاشرًا لأرباب الفضائل، حازمًا في أموره، لا يضع الشيءَ إلا في موضعه من غير إسراف ولا إقتار، وكانت تبيت عنده كل ليلة جمعة جماعة من الفضلاء، ويشاركهم في مباحثاتهم، ويسألهم عن المواضع المشكلة من كل فنٍّ، وهو معهم كواحد منهم. في سنة 629 قصد آمد، وأخذها مع حصن كيفا من الملك المسعود ركن الدين مودود بن الملك الصالح, قال ابن خلكان: "لقد رأيتُه بدمشق في سنة 633 عند رجوعه من بلاد الشرق واستنقاذه إياها من يد علاء الدين بن كيخسرو السلجوقي صاحب بلاد الروم، في خدمته يومئذ بضعةَ عشر ملكًا، منهم أخوه الملك الأشرف. ولم يزَلْ في علو شأنه وعظم سلطانه إلى أن مَرِضَ بعد أخذ دمشق ولم يركَبْ بعدها", وقد تملك الكامل دمشق سنة 635 مدة شهرين بعد وفاة الأشرف صاحبها، ثم أخذته أمراض مختلفة، من ذلك سعال وإسهال ونزلة في حلقه، ونقرس في رجليه، فاتفق موتُه في بيت صغير من دار القصبة، وهو البيت الذي توفِّيَ فيه عمه الملك الناصر صلاح الدين، ولم يكن عند الكامل أحد عند موته من شدة هيبته، بل دخلوا فوجدوه ميتًا، وقيل: بل حدث له زكام، فدخل في ابتدائه إلى الحمام، وصبَّ على رأسه الماء الحار، فاندفعت المراد إلى معدته، فتورم وعرضت له حمى، فنهاه الأطباء عن القيء، وحذروه منه، فاتفق أنه تقيأ لوقته، في آخر نهار الأربعاء حادي عشر شهر رجب، وكانت وفاته في ليلة الخميس الثاني والعشرين من رجب من هذه السنة، ودفن بالقلعة حتى كملت تربته التي بالحائط الشمالي من الجامع، فنقل إليها ليلة الجمعة الحادي والعشرين من رمضان من هذه السنة، وكان قد عهد لولده العادل- وكان صغيرًا- بالديار المصرية، وبالبلاد الدمشقية، ولولده الصالح أيوب ببلاد الجزيرة، فأمضى الأمراء ذلك، فأما دمشق فاختلف الأمراء بها.