بعد اغتيالِ سيف الدين قطز حار الأمراءُ فيما بينهم فيمن يوَلُّون المُلك، وصار كل واحد منهم يخشى غائلة ذلك، وأن يصيبه ما أصاب غيرَه سريعًا، فاتفقت كلمتُهم على أن بايعوا بيبرس البندقداري، ولم يكن هو مِن أكابِرِ المقَدَّمين، ولكن أرادوا أن يجرِّبوا فيه، ولقَّبَوه الملك الظاهِرَ، فجلس على سريرِ المملكة وحكمه، ودقت البشائِرُ وضُرِبَت الطبول والبوقات, وزعقت الشاووشية بين يديه، وكان يومًا مشهودًا ثم دخل مصرَ والعساكرُ في خدمته، فدخل قلعةَ الجبل وجلَسَ على كرسِيِّها، فحكَمَ وعدل، وقطع ووصل، وولَّى وعزل، وكان شهمًا شجاعًا, وكان أولًا لَقَّب نفسه بالملك القاهر، فقال له الوزير: إن هذا اللَّقَب لا يُفلِحُ من يلَقَّب به، تلقَّبَ به القاهرَ بن المعتمد فلم تطل أيامه حتى خُلِعَ وسُمِلَت عيناه، ولقب به القاهِرُ صاحب الموصل فسُمَّ فمات، فعدل عنه حينئذ إلى الملك الظاهر، ثم شرع في مَسكِ من يرى في نفسه رئاسةً مِن أكابر الأمراء حتى مهَّد المُلكَ لنَفسِه، ويُذكَرُ أن مولد بيبرس كان بصحراء القِبجاق, والقبجاق قبيلة عظيمة في الترك، وهو بكسر القاف وسكون الباء ثانية الحروف، أما بيبرس بسكون الياء المثناة من تحتها ثم فتح الباء الموحدة وسكون الراء والسين المهملتين ومعناه باللغة التركية: أمير فهد. أُخذ بيبرس من بلادِه وبِيعَ بدمشق للعِمادِ الصائغ، ثم اشتراه الأميرُ علاء الدين أيدكين الصالحي البندقداري وبه سمي البندقداري، ثم صادره منه المَلِكُ الصالح نجم الدين الأيوبي ثم أعتَقَه وجعله من جملةِ مماليكِه، وقَدَّمَه على طائفة الجمدارية- الجمدار حامِلُ ملابس السلطانِ- لِما رأى من فِطنتِه وذكائِه.