كان المستنصِرُ بالله أبو القاسِمِ أحمَدُ بن أمير المؤمنين الظاهِر مُعتقَلًا ببغداد فأُطلِقَ، وكان مع جماعةِ الأعراب بأرض العراق، ثم قصَدَ الظاهر بيبرس حين بلغه تسلطُنَه بمصر، فقدم إليه بصحبته جماعةٌ مِن أمراء الأعراب عشرةٌ منهم الأمير ناصر الدين مهنا في ثامن رجب من هذه السنة، فخرج السلطانُ الظاهر ومعه الوزير والشهود والمؤذنون فتلَقَّوه وكان يومًا مشهودًا، وخرج أهلُ التوراة بتوراتهم، والنصارى بإنجيلهم، ودخل مِن باب النصر في أبهةٍ عظيمة، فلما كان يوم الاثنين ثالث عشر رجب جلس السلطان والخليفة بالإيوان بقلعةِ الجبل، والوزيرُ والقاضي والأمراء على طبقاتهم، وأثبت نَسَب الخليفة المستنصر بالله على الحاكِم تاج الدين بن الأعز، وهذا الخليفةُ هو أخو المستنصر باني المستنصريَّة، وعم المستعصِم بالله، فبويع بالخلافةِ بمصرَ، بايعه المَلِك الظاهر والقاضي والوزير والأمراء، وركب في دست الخلافةِ بديار مصر والأمراء بين يديه والناسُ حَولَه، وشَقَّ القاهرة في ذلك اليوم، وهو الخليفة الثامن والثلاثون من خلفاء بني العباس، بينه وبين العباس أربعة وعشرون أبًا، قال عز الدين بن عبد السلام: لما أخَذْنا في بيعة المستنصر باللهِ، قلت للملك الظاهر: بايِعْه، فقال: ما أُحسِنُ، لكن بايِعْه أنت أوَّلًا وأنا بعدك، فكان أوَّلَ من بايعه القاضي تاج الدين لما ثَبت نَسَبه، ثم السلطان ثم الشيخ عز الدين بن عبد السلام، ثم الأمراء والدولة، وخطب له على المنابر، وضُرِبَ اسمُه على السكة وكان مَنصِبُ الخلافة قد شغر منذ ثلاثِ سنين ونصف؛ لأنَّ المستعصم بالله قُتِلَ في أول سنة ست وخمسين وستمائة، وبويع هذا في يوم الاثنين في ثالث عشر رجب من هذه السنة، وقد أُنزل الخليفةُ المستنصر بالله وحَشَمُه في البرج الكبير بقلعة الجبل، فلما كان يوم سابع رجب ركب في السواد وجاء إلى الجامِعِ بالقلعة فصَعِدَ المنبر وخطب خطبةً ذكر فيها شَرَفَ بني العباس، ثم استفتح فقرأ صدرًا من سورة الأنعام، ثم صلى على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ثم ترضى عن الصحابةِ ودعا للسلطان الظاهر، ثم نزل فصلى بالنَّاسِ فاستحسنوا ذلك منه، وكان وقتًا حسنًا ويومًا مشهودًا، ثم لما كان يوم الاثنين الرابع من شعبان، ركب الخليفةُ والسلطان والوزير والقضاة والأمراء وأهل الحَل والعَقدِ إلى خيمة عظيمةٍ قد ضُرِبَت ظاهِرَ القاهرةِ فجلسوا فيها، فأُلبِسَ الخليفةُ السلطان بيده خلعةً سوداء، وطوقًا في عنقه، وقيدًا في رجليه وهما من ذهب، ثمَّ إن الخليفة طلب من السلطان أن يجَهِّزَه إلى بغداد، فرتَّبَ السلطان له جندًا هائلة وأقام له من كل ما ينبغي للخلفاء والملوك، ثم سار السلطانُ بصحبته قاصدين دمشق فدخلوا دمشقَ يوم الاثنين سابع ذي القعدة، وكان يومًا مشهودًا، وصلَّيَا الجمعة بجامع دمشق، وكان دخولُ الخليفة من باب البريد، ودخل السلطانُ من باب الزيارة، وكان يومًا مشهودًا أيضًا، ثم جهَّزَ السلطان بيبرس الخليفةَ المستنصر بالله إلى بغداد ومعه أولاد صاحِبِ الموصل, وأنفق عليه وعليهم وعلى من استقَلَّ معه من الجيش الذين يَرِدونَ عنه من الذَّهَب العين ألف ألف دينار، وأطلق له وزاده، فجزاه الله خيرًا.