الموسوعة التاريخية


العام الهجري : 721 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1321
تفاصيل الحدث:

كان عَقيبَ هَدمِ الكنائِسِ وقوعُ الحريق بالقاهرة ومصر، فابتدأ يومَ السبت خامس عشر جمادى الأولى، وتواتَرَ إلى آخره، بدأ الحريقُ في رَبعٍ من أوقاف المارستان المنصوري، واشتد الأمرُ، والأمراءُ تُطفِئُه إلى عصر يوم الأحد، فوقع الصوتُ قبل المغرب بالحريقِ في حارة الديلم بزُقاق العريسة، قريب من دار كريم الدين الكبير، ودخل الليلُ واشتد هبوب الرياح، فسَرَت النار في عِدَّة أماكن، وبعث كريمُ الدين بولده علم الدين عبد الله إلى السلطان يُعَرِّفُه، فبعث عِدَّةً من الأمراء والمماليك لإطفائِه خوفًا على الحواصِلِ السلطانية ثم تفاقم الأمرُ، واحتاج أقسنقر شاد العمائر إلى جمع سائرِ السائقينَ والأمراء، ونزلت الحُجَّاب وغيرهم، والنار تَعظُمُ طُولَ نهار الأحد، وباتوا على ذلك، وأصبحوا يوم الاثنينِ والنار تُتلِفُ ما تمُرُّ به، والهَدٌّ واقع في الدور التي تجاور الحريق خشيةً مِن تعَلُّقِ النار فيها وسَرَيانها في جميع دور القاهرة، فلما كانت ليلة الثلاثاء خرج أمر الحريقِ عن القُدرة البَشَرية، وخرجت ريحٌ عاصِفةٌ ألقت النخيلَ وغَرَّقت المراكب، ونَشَرت النار، فنزل النائب بسائر الأمراء وجميعِ مَن في القلعة وجميعِ أهل القاهرة، ونُقِل الماءُ على جمال الأمراء، ولحِقَه الأمير بكتمر الساقي وأُخرِجَت جمالُ القرى السلطانية، ومُنِعَت أبواب القاهرة أن يخرج منها سقاء، ونُقِلَت المياه من المدارس والحمَّامات والآبار، وجُمِعَت سائر البنائين والنجارين، فهُدَّت الدور من أسفلِها والنار تحرِقُ في سقوفها، وعَمَل الأمراء الألوف وعِدَّتُهم أربعة وعشرون أميرًا بأنفُسِهم في إطفاء الحريقِ، بحيث صار من باب زويلة إلى حارة الروم بحرًا، ثم خَمِدَت النار وعاد الأمراء، فوقع الصياحُ في ليلة الأربعاء بربع الملك الظاهِرِ خارج باب زويلة وبقيسارية الفقراء، وهبَّت الرياح مع ذلك، فرَكِبَ الحُجَّاب والوالي وعملوا في إطفائها إلى بعد الظهر من يوم الأربعاء وهدموا دورًا كثيرةً مِمَّا حوله، فما كاد أن يفرغ العَمَلُ من إطفاء النار حتى وقعت النارُ في بيت الأمير سلار بخط القصرين، فأقبلوا إليه وإذا بالنار ابتدأت من أعلى البادهنج- المنفذ الذي يجيء منه الريح- وكان ارتفاعُه من الأرض زيادة على مائة ذراع- بذراع العمل- ورأوا فيه نِفطًا قد عُمِلَ فيه فتيلة كبيرة، فما زالوا بالنار حتى أُطفِئَت، من غير أن يكون لها أثرٌ كبير، ونُودِيَ بأن يُعمَلَ بجانِبِ كُلِّ حانوت بالقاهرةِ ومصرَ زيرُ ودن ملآن ماء، وكذلك بسائر الحارات والأزقَّة، فلما كانت ليلة الخميس: وقع الحريق بحارة الروم وبخارج القاهرة، وتمادى الحالُ كذلك، ولا تخلو ساعة من وقوعِ الحريق بموضع من القاهرة ومصر، وامتنع والي القاهرةِ والأمير بيبرس الحاجب من النَّومِ، فشاع بين الناس أنَّ الحريق من جهة النصارى لَمَّا أنكاهم هدم الكنائس ونهبها، وصارت النيرانُ توجَدُ تارة في منابر الجوامِعِ وتارة في حيطان المدارسِ والمساجد، ووُجِدَت النار بالمدرسة المنصورية، فزاد قلقُ النَّاسِ وكَثُر خوفهم، وزاد استعدادُهم بادِّخار الآلات المملوءة ماء في أسطُحِ الدور وغيرها، وأكثر ما كانت النارُ توجد في العلو، فتقع في زروب الأسطح والبادهنجانات، ويُوجَدُ النِّفطُ قد لُفَّ في الخِرَق المبَلَّلة بالزيت والقطران، فلما كانت ليلةُ الجمعة الحادي عشر جمادى الأولى قُبِضَ على راهِبَينِ خرجا من المدرسة الكهاريَّة بالقاهرة، وقد أضرما النارَ بها، وأُحضِرا إلى الأمير علم الدين سنجر الخازن والي القاهرة، فشَمَّ منهما رائحة الكبريت والزيت، فأحضرهما من الغدِ إلى السلطان، فأمر بعقوبتِهما حتى يعترفا، فلما نزل الأميرُ علم الدين بهما وجد العامَّةَ قد قبضت على نصرانيٍّ مِن داخل باب جامِعِ الظاهر بالحُسَينية، ومعه كعكة خِرَق بها نفط وقطران، وقد وضعها بجانِبِ المنبر، فلما فاح الدخانُ أنكروه, ووجدوا النصرانيَّ وهو خارج والأثَرُ في يديه، فعُوقِبَ قبل صاحبيه، فاعترف النصرانيُّ أنَّ جماعة من النصارى قد اجتمعوا وعَمِلوا النفط، وفَرَّقوه على جماعة ليَدورُوا به على المواضع، ثم عاقَبَ الأمير علم الدين الراهبينِ، فأقرا أنَّهما من دير البغل، وأنهما هما اللذانِ أحرقا سائر الأماكن التي تقَدَّمَ ذِكرُها، وذلك أنَّه لَمَّا مر بالكنائس ما كان، حَنِقَ النصارى من ذلك وأقاموا النياحةَ عليها، واتَّفَقوا على نكاية المسلمين، وعملوا النفطَ وحَشَوه بالفتائِلِ وعَمِلوها في سهامٍ ورَموا بها، فكانت الفتيلة إذا خرجت من السَّهمِ تقَعُ على مسافة مائة ذراع، فلما أنفقوا ذلك فَرَّقوه في جماعة، فصاروا يدورون في القاهرة بالليل، وحيث وجدوا فرصة انتهزوها وألقَوا الفتيلةَ، حتى كان ما كان، فطالع الأميرُ علم الدين السلطانَ بذلك، واتَّفَق وصول كريم الدين الكبير ناظر الخاص من الإسكندريَّة، فعَرَّفه السلطان ما وقع من القَبضِ على النصارى، فقال البطرق: هؤلاء سُفَهاءُ قد فعلوا كما فَعَل سُفَهاؤُكم، والحُكمُ للسلطان، وأقام البطركُ ساعةً، وقام فرَكِبَ بغلةً كان قد رُسِمَ له منذ أيام بركوبِها، فشَقَّ ذلك على الناس، وهَمُّوا به لولا الخوف ممن حوله من المماليك، فلما رَكِب كريم الدين من الغد صاحت العامَّةُ به: "ما يحِلُّ لك يا قاضي تحامي للنصارى، وقد أخربوا بيوت المسلمين، وتُركِبُهم البغال، فانتكى كريمُ الدين منهم نكايةً بالغةً، وأخذَ يُهَوِّنُ من أمر النصارى الممسوكين ويَذكُرُ أنَّهم سفهاء، وعرف السلطان ما كان من أمْرِ البُطرُقِ، وأنه اعتُنيَ به، فأمر السلطانُ الواليَ بعقوبة النصارى، فأقروا على أربعة عشر راهبًا بدير البغل، فقُبِضَ عليهم من الدير، وعُمِلَت حفيرةٌ كبيرة بشارع الصليبة، وأُحرِقَ فيها أربعة منهم في يوم الجمعة، وقد اجتمع من الناس عالمٌ عظيم، فاشتدت العامَّةُ عند ذلك على النصارى، وأهانوهم وسَلَبوهم ثيابَهم، وألقَوهم من الدوابِّ إلى الأرض، وركب السلطانُ إلى الميدان يوم السبت الثاني عشر من جمادى الآخر، وقد اجتمع عالمٌ عظيم، وصاحوا: "نصر اللهُ الإسلامَ، انصر دينَ محمَّد بن عبد الله"، فلما استقَرَّ السلطان بالميدان حتى أَحضَرَ له الخازنُ والي القاهرة نصرانيَّينِ قد قُبِضَ عليهما، فأُحرِقا خارجَ الميدان، وخرج كريم الدين الكبير من الميدان وعليه التشريفُ، فصاحت به العامة: "كم تحامي للنصارى"، وسَبُّوه ورموه بالحجارة، فعاد إلى الميدان، فشَقَّ ذلك على السلطان، واستشار الأمراءَ في أمر العامة، فأشار عليه الأميرُ جمال الدين أقوش نائِبُ الكرك بعزل الكُتَّاب النَّصارى، فإنَّ النَّاسَ قد أبغضوهم، فلم يُرضِه ذلك، وتقَدَّمَ السلطان إلى ألماس الحاجب أن يَخرُجَ في أربعة أمراء ويضَعَ السَّيفَ في العامَّةِ حتى ينتهيَ إلى باب زويلة، ويمُرَّ إلى باب النصرِ وهو كذلك ولا يرفَع السَّيفَ عن أحد، وأمرَ والي القاهرة أن يتوجَّهَ إلى بابِ اللوق والبحر، ويَقبِضَ من وجده، ويحمِلَهم إلى القلعة، وعَيَّن لذلك مماليكَ تَخرُجُ من الميدان، فبادر كريمُ الدين وسأل السلطانَ العَفوَ، فقَبِلَ شَفاعتَه، ورسم بالقبضِ على العامَّةِ مِن غَيرِ قَتلِهم، وكان الخبَرُ قد طار، ففَرَّت العامَّةُ حتى الغلمان، وصار الأميرُ لا يجِدُ مَن يُركِبُه، وانتشر ذلك، فغُلِّقَت جميعُ أسواق القاهرة، فما وصل الأمر إلى باب زويلة حتى لم يجِدوا أحدًا، وشَقُّوا القاهرةَ إلى باب النصر، فكانت ساعةً لم يمُرَّ بالناس أعظَمُ منها، ومَرَّ الوالي إلى باب اللوق وبولاق وباب البحر، وقبض كثيرًا من الكلابزة- من يتولَّى تربية الكلاب وبَيعَها- والنواتية –الملَّاحين- وأراذل العامَّة، بحيث صار كلُّ من رآه أخَذَه، وجفَل الناسُ مِن الخوف، وعَدوا في المراكب إلى بر الجيزة، فلما عاد السلطانُ إلى القلعة لم يجد أحدًا في طريقه، وأحضر إليه الوالي بمن قبض عليه وهم نحو المائتين، فرسم أن يُصلَبوا، وأفرد جماعةً للشَّنقِ وجماعةً للتوسيطِ، وجماعةً لقطع الأيدي، فصاحوا: "يا خوند- يا سيد- ما يحِلُّ لك، فما نحن الغُرَماء"، وتباكوا فَرَّقَ لهم بكتمر الساقي، وقام معه الأمراءُ، وما زالوا بالسلطان حتى رسم بصَلبِ جماعةٍ منهم على الخَشَبِ من باب زويلة إلى سوقِ الخَيلِ، وأن يُعَلَّقوا بأيديهم، فأصبحوا يومَ الأحدِ صفًّا واحدًا من بابِ زويلة إلى سوقِ الخيل تحت القلعة، فتوجَّعَ لهم الناس، وكان منهم كثيرٌ مِن بياض الناس، ولم تُفتَح القاهرة، وخاف كريم الدين على نفسِه، ولم يَسلُكْ من باب زويلة، وصَعِدَ القلعة من خارج السور، فإذا السلطانُ قد قَدَّم الكلابزة وأخَذَ في قطع أيديهم، فكشف كريم الدين رأسَه وقَبَّل الأرض، وباس رِجلَ السُّلطانِ، وسأله العفو، فأجابه السلطانُ بمساعدة الأمير بكتمر، وأمَرَ بهم فقُيِّدوا وأُخرِجوا للعَمَلِ في الحفير بالجيزة، ومات ممَّن قُطِعَ يَدَه رَجُلان، وأُمِرَ بحَطِّ من عُلِّقَ على الخَشَب، فللحالِ وقع الصوتُ بحريقِ أماكِنَ بجوار جامع ابن طولون، وبوقوعِ الحريق في القلعةِ، وفي بيت الأحمدي بحارة بهاء الدين من القاهرة، وبفُندق طرنطاي خارج باب البحر، فدُهِشَ السلطان، وكان هذا الفندق برسم تجارِ الزيت الوارد من الشام، فعَمَّت النار كلَّ ما فيه حتى العُمُد الرُّخام، وكانت ستة عشر عمودًا، طولُ كل منها ستة أذرع، ودوره نحو ذراعين، فصارت كلُّها جيرًا، وقُبِضَ فيه على ثلاثة نصارى معهم فتائِلُ النفط، اعتَرَفوا أنهم فعلوا ذلك، فخاف السلطانُ الفتنةَ ورجع إلى مداراتِهم، وتقَدَّم إلى الحاجِبِ بأن يخرُجَ وينادي: "من وجد نصرانيًّا فدَمُه ومالُه حلالٌ"، فلما سمعوا النداءَ صرخوا صوتًا واحدًا: "نصرك الله يا ناصِرَ دين الإسلام"، فارتجَّت الأرض، ونودِيَ عَقيبَ ذلك بالقاهرة ومصر: "من وُجِدَ من النصارى بعمامةٍ بَيضاءَ حَلَّ دمه، ومن وُجِدَ من النصارى راكبًا باستواءٍ حَلَّ دمه" وكُتِبَ مرسومٌ بلُبس النصارى العمائِمَ الزرق، وألَّا يركبوا فَرَسًا ولا بغلًا، وأن يركبوا الحميرَ عَرضًا، ولا يدخلوا الحَمَّام إلَّا بجَرَس في أعناقهم، ولا يتزَيَّوا بزيِّ المسلمين هم ونساؤُهم وأولادهم، ورُسِمَ للأمراء بإخراج النصارى من دواوينِهم ومن دواوين السلطان، وكُتِبَ بذلك إلى سائر الأعمال، وغُلِّقَت الكنائس والأديرة، وتجرَّأت العامة على النصارى، بحيث إذا وجدوهم ضربوهم وعَرَّوهم ثيابَهم، فلم يتجاسَرْ نصرانيٌّ أن يخرُجَ من بيته، ولم يُتحَدَّثْ في أمرِ اليهودِ، فكان النصرانيُّ إذا طرأ له أمرٌ يتزيَّا بزيِّ اليهودِ، ويلبَس عمامة صفراءَ يكتريها من يهوديٍّ ليخرُجَ في حاجتِه! واحتاج عِدَّةٌ من النصارى إلى إظهارِهم الإسلام، فأسلم السني ابن ست بهجة في يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الآخرة، وخُلِعَ عليه، وأسلم كثيرٌ منهم، واعترف بعضُهم على راهب بدير الخندق أنه كان يُنفِقُ المالَ في عَمَل النفطِ للحريق ومعه أربعة، فأُخِذوا وسُمِّروا.