بعد أن انتهى تيمورلنك من سيواس توجه إلى جهة حلب فوصل إلى عينتاب، ووصل إلى بهنسا وأخذها بعد أن حصرها، ثم نزل على بزاعة ظاهر حلب، فبرز نائب طرابلس بسبعمائة فارس إلى جيش تيمورلنك وهم نحو ثلاثة آلاف، وترامى الجمعان بالنشاب، ثم اقتتلوا، وأُخِذ من التتار أربعة، وعاد كل من الفريقين إلى موضعه فوسط الأربعة على أبواب مدينة حلب، وأما دمشق فإن أهلها بدؤوا يتجهزون والقضاة تحرِّضُ الناس على الجهاد ضدَّ تيمورلنك، وأما عساكر مصر فبدأت كذلك بالتجهز، قال تقي الدين المقريزي: "لما نزل تيمورلنك على عينتاب بعث إلى دمرداش نائب حلب يعده باستمراره في نيابة حلب، ويأمره بمسك الأمير سودن نائب الشام، فلما قدم عليه الرسول بذلك أحضره إلى نواب ممالك الشام، وقد حضروا إلى حلب وهم: سودن نائب دمشق، وشيخ المحمودي نائب طرابلس، ودقماق نائب حماة، وألطنبغا العثماني نائب صفد، وعمر بن الطحان نائب غزة بعساكرها، فاجتمع منهم بحلب نحو ثلاثة آلاف فارس منهم عسكر دمشق ثمانمائة فارس، إلا أن الأهواء مختلفة، والآراء مفلولة، والعزائم محلولة، والأمر مدبَّر، فبلغ رسول تيمورلنك الرسالة دمرداش، فأنكر مَسْكَ سودن نائب دمشق، فقال له الرسول: إن الأمير - يعني تيمورلنك- لم يأت إلا بمكاتبتك إليه، وأنت تستدعيه أن ينزل على حلب، وأعلمته أن البلاد ليس بها أحد يدفع عنها، فحنق منه دمرداش وقام إليه وضربه، ثم أمر به فضُرِبَت رقبته، ويقال: إن كلام هذا الرسول كان من تنميق تيمورلنك ومَكْرِه، ليفَرِّقَ بذلك بين العساكر" ونزل تيمورلنك على جبلان خارج حلب يوم الخميس تاسع ربيع الأول، وزحف يوم الجمعة، وأحاط بسور حلب، وكانت بين الحلبيين وبينه في هذين اليومين حروب، فلما أشرقت الشمس يوم السبت الحادي عشر خرج نواب الشام بالعساكر وعامة أهل حلب إلى ظاهر المدينة وعبُّوا للقتال، ووقف سودن نائب دمشق في الميمنة، ودمرداش في الميسرة، وبقية النواب في القلب، وقدموا أمامهم عامة أهل حلب، فزحف تيمورلنك بجيوش قد سدَّت الفضاء، فثبت الأمير شيخ المحمودي نائب طرابلس، وقاتل -هو وسودن نائب دمشق- قتالًا عظيمًا، وبرز الأمير عز الدين أزدمر أخو أينال اليوسفي، وولده يشبك ابن أزدمر في عدة من الفرسان، وأبلوا بلاء عظيمًا، وظهر عن أزدمر وولده من الإقدام ما تعجَّب منه كل أحد، وقاتلا قتالًا عظيمًا، فقُتل أزدمر وفُقد خبره، وثخنت جراحات يشبك، وصار في رأسه فقط زيادة على ثلاثين ضربة بالسيف سوى ما في بدنه، فسقط بين القتلى، ثم أُخِذ وحمل إلى تيمورلنك ولم يمضِ غير ساعة حتى ولَّت العساكر تريد المدينة، وركب أصحاب تيمورلنك أقفيتَهم، فهلك تحت حوافر الخيل من الناس عدد لا يدخل تحت حصر؛ فإن أهل حلب خرجوا حتى النساء والصبيان، وازدحم الناسُ مع ذلك في دخولهم من أبواب المدينة، وداس بعضُهم بعضًا، حتى صارت الرمم طول قامة، والناس تمشي من فوقها، وتعلَّق نواب المماليك بقلعة حلب، ودخل معهم كثيرٌ من الناس، وكانوا قبل ذلك قد نَقَلوا إلى القلعة سائر أموال الناس بحلب، واقتحمت عساكر تيمورلنك المدينةَ وأشعلوا بها النيران، وجالوا بها ينهبون ويأسرون ويقتلون، واجتمع بالجامع وبقية المساجد نساءُ البلد، فمال أصحاب تيمورلنك عليهنَّ وربطوهن بالحبال، ووضعوا السيف في الأطفال فقتلوهم بأجمعِهم، وأتت النار على عامة المدينة فأحرقتها، وصارت الأبكار تُفتَضَّ من غير تستُّرٍ ولا احتشام! بل يأخذ الواحد الواحدة ويعلوها في المسجد والجامع، بحضرة الجم الغفير من أصحابه، ومن أهل حلب، فيراها أبوها وأخوها ولا يقدِرُ أن يدفع عنها؛ لِشُغلِه بنفسِه، وفَحُش القتل، وامتلأ الجامع والطرقات برمم القتلى، واستمر هذا الخطب من صحوة نهار السبت إلى يوم الثلاثاء، والقلعة قد نقب عليها من عدة أماكن، ورُدِم خندقها، ولم يبقَ إلا أن تؤخذ، فطلب النواب الأمان، ونزل دمرداش إلى تيمورلنك فخلع عليه ودفع إليه أمانًا، وخِلَعًا للنواب، وبعث معه عدَّةً وافرة إلى النواب، فأخرجوهم ممن معهم، وجعلوا كل اثنين في قيد وأحضروا إليه، فقرعهم ووبَّخهم، ودفع كل واحد منهم إلى من يحتفظ به، وسيقت إليه نساء حلب سبايا، وأُحضرت إليه الأموال ففرَّقها على أمرائه، واستمرَّ بحلب شهرًا، والنهب في القرى لا يبطل، مع قطع الأشجار وهدم البيوت، وجافت حلب وظواهرها من القتلى، بحيث صارت الأرض منهم فراشًا، لا يجِدُ أحد مكانًا يمشي عليه إلا وتحت رجليه رمةُ قتيل، وعُمِل من الرؤوس منابر عدة مرتفعة في السماء نحو عشرة أذرع في دور عشرين ذراعًا، حُرِز ما فيها من رؤوس بني آدم، فكان زيادة على عشرين ألف رأس! وجعلت الوجوه بارزة يراها من يمرُّ بها، ثم رحل تيمورلنك عنها، وهي خاوية على عروشها، خالية من ساكنها وأنيسها، قد تعطلت من الأذان، وإقامة الصلوات، وأصبحت مُظلِمةً بالحريق، مُوحِشةٌ قَفراءُ مُغبرة، لا يأويها إلا الرخم، ثم بعد أن رحل الجيش عنها سائرًا إلى جهة دمشق ورد الخبر أن أحمد بن رمضان التركماني، وابن صاحب الباز، وأولاد شهري، ساروا وأخذوا حلب، وقتلوا من بها من أصحاب تيمورلنك وهم زيادة على ثلاثة آلاف فارس.