خرج السلطان الملك الناصر فرج من دمشق بعساكره في يوم الاثنين سادس المحرم، ونزل برزة، ثم رحل منها يريد محاربة الأمراء الخارجين عليه: نوروز الحافظي، وشيخ المحمودي، ونزل حسيا بالقرب من حمص، فبلغه رحيل القوم من قارا إلى جهة بعلبك، فترك أثقاله بحسيا وساق على أثرهم إلى بعلبك، فوجدهم قد توجهوا إلى البقاع، فقصدهم، فمضوا نحو الصبيبة، فتبعهم حتى نزلوا باللجون، فساق السلطان خلفهم وهو سكران لا يعقِل، فما وصل إلى اللجون حتى تقطعت عساكره عنه من شدة السَّوق، ولم يبقَ معه غير من ثَبَت على سوقه، وهم أقل ممن تأخَّر، وكان قد وصل وقت العصر من يوم الاثنين ثالث عشر المحرم، فوجد الأمراء قد نزلوا باللجون وأراحوا، وفي ظنهم أنه يتمهَّلُ ليلته ويلقاهم من الغد، فإذا جنَّهم الليل ساروا بأجمعهم من وادي عارة إلى جهة الرملة، وسلكوا البرية عائدين إلى حلب، وليس في عزمهم أن يقاتلوه أبدًا، لا سيما الأمير شيخ المحمودي فإنه لا يريد ملاقاته بوجه من الوجوه، فحال وصول الملك الناصر إلى اللجون أشار عليه الأتابك دمرداش المحمدي أن يريح خيلَه وعساكره تلك الليلة، ويقاتلهم من الغد، فأجابه السلطان بأنهم يفرُّون الليلة، فقال له دمرداش: إلى أين بقُوا يتوجهون يا مولانا السلطان بعد وقوع العين في العين؟ يا مولانا السلطان مماليكك في جهد وتعب من السَّوق، والخيول كَلَّت، والعساكر منقطعة، فلم يلتفت إلى كلامِه، وحرَّك فرسه ودقَّ بزخمته على طبله، وسار نحو القوم، وحمل عليهم بنفسِه من فوره حال وصولِه، فارتضمت طائفة من مماليكه في وحلٍ كان هناك، ثم قبل اللقاء خرج الأمير قجق أحد أمراء الألوف بطلبه من مماليكه وعسكره، وذهب إلى الأمراء، وتداول ذلك مع المماليك الظاهرية واحدًا بعد واحد، والملك الناصر لا يلتفت إليهم، ويشجِّع من بقي معه حتى التقاهم وصدمهم صدمةً هائلة، وتقهقر عسكره مع قلتهم، فانهزم السلطان عند ذلك، بعد أن قاتل بنفسه، وساق يريد دمشق -وكان الرأي توجهه إلى مصر- وتبعه سودون الجلب، وقرقماس ابن أخي دمرداش، ففاتهما الملك الناصر ومضى إلى دمشق، وأحاط القوم بالخليفة المستعين بالله، وفتح الدين فتح الله كاتب السر، وناظر الجيش بدر الدين حسن بن نصر الله، وناظر الخاص ابن أبي شاكر، واستولوا على جميع أثقال الملك الناصر وأمرائه، وامتدت أيدي أصحاب الأمراء إلى النهب والأسر في أصحاب الملك الناصر، وما غربت الشمس حتى انتصر الأمراء وقَوِيَ أمرهم، وباتوا تلك الليلة بمخيماتهم، وهي ليلة الثلاثاء، وأصبح الأمراء وليس فيهم من يرجع إليه، بل كل واحد منهم يقول: أنا رئيس القوم وكبيرهم، وأما الملك الناصر فإنه لما انكسر سار نحو دمشق حتى دخلها ليلة الأربعاء في ثلاثة نفر، ونزل بالقلعة واستدعى القضاة والأعيان ووعدهم بكل خير، وحثَّهم على نصرته والقيام معه، فانقادوا له، فأخذ في تدبير أموره، وتلاحقت به عساكره شيئًا بعد شيء في العاشر من محرم، ثم أحضر السلطان الأموال وصبها وأتاه الناس من كل فج من التركمان والعربان والعشير وغيرهم، فكتب أسماءهم وأنفق عليهم وقوَّاهم بالسلاح، وأنزل كل طائفة منهم بموضع يحفظه، فكان عدة من استخدمه من المشاة زيادةً على ألف رجل، وحَصَّن القلعة بالمجانيق والمدافع الكبار، وأتقن تحصين القلعة؛ بحيث إنه لم يبق سبيلٌ للتوصل إليها بوجه من الوجوه واستمر ذلك إلى بكرة يوم السبت ثامن عشر المحرم، فنزل الأمراء على قبة يلبغا خارج دمشق، فندب السلطان عسكرًا فتوجهوا إلى القبيبات، فبرز لهم سودون المحمدي، وسودون الجلب، واقتتلوا حتى تقهقر السلطانية منهم مرتين، ثم انصرف الفريقان، وفي يوم الأحد تاسع عشر المحرم ارتحل الأمراء عن قبة يلبغا، ونزلوا غربي دمشق من جهة الميدان، ووقفوا من جهة القلعة إلى خارج البلد، فتراموا بالنشاب نهارهم وبالنفط، فاحترق ما عند باب الفراديس من الأسواق، فلما كان الغد من يوم الاثنين عشرين محرم اجتمع الأمراء للحصار، فوقفوا شرقي البلد وقبليه، ثم كروا راجعين ونزلوا ناحية القنوات إلى يوم الأربعاء الثاني والعشرين، ووقع القتال من شرقي البلد، ونزل الأمير نوروز بدار الطعم، وامتدت أصحابه إلى العقيبة، ونزل طائفة بالصالحية والمزة، ونزل الأمير شيخ بدار غرس الدين خليل تجاه جامع كريم الدين الذي بطرف القبيبات ومعه الخليفة وكاتب السر فتح الله، ونزل بكتمر جلق وقرقماس المدعو بسيدي الكبير في جماعة من جهة بساتين معين الدين ومنعوا الميرة عن الملك الناصر، وقطعوا نهر دمشق، ففُقد الماء من البلد، وتعطلت الحمَّامات، وغُلِّقت الأسواق، واشتدَّ الأمر على أهل دمشق، واقتتلوا قتالًا شديدًا، وتراموا بالسهام والنفوط، فاحترق عدة حوانيت بدمشق، وكثرت الجراحات في أصحاب الأمراء من الشاميين، وأنكاهم السلطانية بالرمي من أعلى السور، وعَظُم الأمر، وكلُّوا من القتال، ثم بلغ الأمير شيخ المحمودي أن الملك الناصر عزم على إحراق ناحية قصر حجاج حتى يصير فضاءً ثم يركب بنفسه ويواقع القوم هناك بمن يأتيه من التركمان وبمن عنده، فبادر الأمير شيخ وركب بعد صلاة الجمعة بأمير المؤمنين ومعه العساكر، وسار من طريق القبيبات ونزل بأرض الثابتية، وقاتل الملك الناصر في ذلك اليوم أشد قتال إلى أن مضى من الليل جانب، وكثر من الشاميين الرمي بالنفط عليهم، فاحترق سوق خان السلطان وما حوله، وحملت السلطانية على الشيخية حملةً عظيمة هزموهم فيها، وتفرقوا فِرَقًا، وثبت الأمير شيخ في جماعة قليلة بعدما كان انهزم هو أيضًا إلى قريب الشويكة، ثم تكاثر الشيخية وانضم عليهم جماعة من الأمراء، فحمل الأمير شيخ بنفسه بهم حملة واحدة أخذ فيها القنوات، ففرَّ من كان هناك من التركمان والرماة وغيرهم، وكان الأتابك دمرداش المحمدي نازلًا عند باب الميدان تجاه القلعة، فلما بلغه ذلك ركب وتوجه إلى الملك الناصر وهو جالس تحت القبة فوق باب النصر، وسأله أن يندب معه طائفة كبيرة من المماليك السلطانية؛ ليتوجه بهم إلى قتال الأمير شيخ؛ فإنه قد وصل إلى طرف القنوات، وسهل أخذه على السلطان، فنادى الملك الناصر لمن هناك من المماليك وغيرهم بالتوجه مع دمرداش، فلم يجِبْه منهم أحد، ثم كرر السلطان عليهم الأمر غيرَ مرة حتى أجابه بعضهم جوابًا فيه جفاء وخشونة ألفاظ، معناه أنهم ملوا من طولِ القتال، وضَجِروا من شدة الحصار، وبينما هم في ذلك إذ اختبط العسكر السلطاني وكثر الصراخ فيهم بأن الأمير نوروزًا قد كبسهم، فسارعوا بأجمعهم وعبروا من باب النصر إلى داخل مدينة دمشق، وتفرَّقوا في خرائبها بحيث إنه لم يبقَ بين يدي السلطان أحد، فولى دمرداش عائدًا إلى موضعه، وقد ملك الأمير شيخ وأصحابه الميدان والإسطبل، فبعث دمرداش إلى السلطان مع بعض ثقاته بأن الأمر قد فات، وأن أمر العدو قوي، وأمر السلطان أخذ في إدبار، والرأي أن يلحق السلطان بحلب ما دام في الأمر سعة، فلما سمع الملك الناصر ذلك قام من مجلسه وترك الشمعة تتقد حتى لا يقع الطمع فيه بأنه ولى، ويوهم الناس أنه ثابت مقيم على القتال، ثم دخل إلى حَرَمِه وجهَّز ماله، وأطال في تعبئة ماله وقماشه، فلم يخرج حتى مضى أكثر الليل، والأتابك دمرداش واقف ينتظره، فلما رأى دمرداش أن الملك الناصر لا يوافقه على الخروج إلى حلب، خرج هو بخواصه ونجا بنفسه، وسار إلى حلب وترك السلطان، ثم خامر الأمير سنقر الرومي على الملك الناصر، وأتى أمير المؤمنين وبطل طبول السلطان والرماة، ثم خرج الملك الناصر من حرمه بماله، وأمر غلمانه فحُمِلت الأموال على البغال ليسير بهم إلى حلب، فعارضه الأمير أرغون من بشبغا الأمير آخور الكبير وغيره، ورغبوه في الإقامة بدمشق، وقالوا له: الجماعة مماليك أبيك لا يوصلون إليك سوءًا أبدًا، ولا زالوا به حتى طلع الفجر، فعند ذلك ركب الملك الناصر بهم، ودار على سور المدينة فلم يجد أحدًا ممن كان أعدَّه للرمي، فعاد ووقف على فرسه ساعة، ثم طلع إلى القلعة والتجأ بها بمن معه -وقد أشحنها- وترك مدينة دمشق، وبلغ أمير المؤمنين والأمراء ذلك، فركب الأمير شيخ بمن معه إلى باب النصر، وركب نوروز بمن معه إلى نحو باب توما، ونصب الأمير شيخ السلالم حتى طلع بعض أصحابه، ونزل إلى مدينة دمشق وفتح باب النصر، وأحرق باب الجابية، ودخل شيخ من باب النصر، وأخذ مدينة دمشق، ونزل بدار السعادة، وذلك في يوم السبت تاسع صفر، بعدما قاتل الملك الناصر نحو العشرين يومًا، قُتِل فيها من الطائفتين خلائق لا تُحصى، ووقع النهب في أموال السلطان وعساكره، وامتدت أيدي الشيخية وغيرهم إلى النهب، فما عفوا ولا كفُّوا، وركب أمير المؤمنين ونزل بدار في طرف ظواهر دمشق، وتحول الأمير شيخ إلى الإسطبل، وأنزل الأمير بكتمر جلق بدار السعادة، كونه قد ولي نيابة دمشق قبل تاريخه، هذا والسلطانية ترمي عليهم من أعلى القلعة بالسهام والنفوط يومهم كله، وباتوا ليلة الأحد على ذلك، فلما كان يوم الأحد عاشر صفر بعث الملك الناصر بالأمير أسندمر أمير آخور في الصلح، وتردد بينهم غير مرة حتى انعقد الصلح بينهم، وحلف الأمراء جميعهم وكُتِبت نسخة اليمين، ووضعوا خطوطهم في النسخة المذكورة، وكتب أمير المؤمنين أيضًا خطه فيها، وصعد بها أسندمر إلى القلعة ومعه الأمير ناصر الدين محمد بن مبارك شاه الطازي أخو الخليفة المستعين بالله لأمه، ودخلا على الملك الناصر وكلماه في ذلك، وطال الكلام بينهم، فلم يعجب الملك الناصر ذلك، وترددت الرسل بينهم غير مرة بغير طائل، وأمر الملك الناصر أصحابه بالرمي عليهم، فعاد الرمي من أعلى القلعة بالمدافع والسهام، وركب الأمراء واحتاطوا بالقلعة، فأرسل الملك الناصر يسأل بالكف عنه، فضايقوا القلعة خشية أن يفر السلطان منها إلى جهة حلب، ومشت الرسل أيضًا بينهم ثانيًا، وأضر الملك الناصر التضييق والغلبة إلى أن أذعن إلى الصلح، وحلفوا له ألا يوصلوا إليه مكروهًا، ويؤمِّنوه على نفسه، وأن يستمِرَّ الخليفة سلطانًا، وقيل غير ذلك: وهو أنه ينزل إليهم، ويتشاور الأمراء فيمن يكون سلطانًا، فإن طلبه المماليك فهو سلطان على حاله، وإن لم يطلبوه فيكون الخليفة، ويكون هو مخلوعًا يسكن بعض الثغور محتفظًا به، ومحصول الحكاية أنه نزل إليهم في ليلة الاثنين حادي عشر صفر، ومعه أولاده يحملهم ويحملون معه، وهو ماشٍ من باب القلعة إلى الإسطبل والناس تنظُره، وكان الأمير شيخ نازلًا بالإسطبل، فعندما عاينه الأمير شيخ قام إليه وتلقَّاه وقبَّل الأرض بين يديه، وأجلسه بصدر المجلس، وجلس بالبعدِ عنه وسكَّن روعه، ثم تركه بعد ساعة وانصرف عنه، فأقام الملك الناصر بمكانه إلى يوم الثلاثاء ثاني صفر، فجمع الأمراء والفقهاء والعلماء المصريون والشاميون بدار السعادة بين يدي أمير المؤمنين وقد تحول إليها وسكنها، وتكلموا في أمر الملك الناصر والمحضر المكتب في حقه، فأفتوا بإراقة دمه شرعًا، فأخذ في ليلة الأربعاء من الإسطبل، وطلع به إلى قلعة دمشق، وحبسوه بها في موضع وحدَه، وقد ضُيِّق عليه وأُفرِدَ من خَدَمِه، فأقام على ذلك إلى أن قُتِلَ ليلة السبت سادس عشر صفر.