كان تسليم غرناطة للملك فرديناند ملك أراغون والملكة إيزابيلا ملكة قشتالة بناء على معاهدة، لكن فرديناند وزوجته لم يَفيَا بهذه العهود، بل أصدرت إيزابيلا قانونًا يقضي بإجبار المسلمين على التنصر وتحريم إقامة شعائرهم الدينية، وتأمر كذلك بإحراق الكتب الإسلامية في غرناطة, وبعد أن نقض فرديناند شروط تسليم غرناطة شرطًا شرطًا بدا بدعوة المسلمين إلى التنصر وأكرههم عليه فدخلوا في دينه كرهًا وصارت الأندلس كلها نصرانية، ولم يبق من يقول فيها لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم جهارًا إلا من يقولها في نفسه وفي قلبه أو خفيةً من الناس!! وجعلت النواقيس بدل الأذان في مساجدِها والصور والصلبان بعد ذكر الله تعالى وتلاوة القرآن، فكم فيها من عينٍ باكية! وكم فيها من قلب حزين! وكم فيها من الضعفاء والمعدومين لم يقدروا على الهجرة واللحوق بإخوانهم المسلمين! قلوبهم تشتعل نارًا ودموعهم تسيل سيلًا غزيرًا مدرارًا، وينظرون أولادهم وبناتهم يعبدون الصلبان ويسجدون للأوثان ويأكلون الخنزير والميتات ويشربون الخمر التي هي أم الخبائث والمنكرات فلا يقدرون على منعهم ولا على نهيهم ولا على زجرهم! ومن فعل ذلك عوقب أشد العقاب، فيا لها من فاجعة ما أمرَّها ومصيبةٍ ما أعظمَها وأضرَّها وطامَّةٍ ما أكبَرَها! عسى الله أن يجعل لهم من أمرهم فرجًا ومخرجًا، إنه على كل شيء قدير. وقد كان بعض أهل الأندلس قد امتنعوا من التنصر وأرادوا أن يدافعوا عن أنفسهم كأهل قرى ونجر والبشرة وأندراش وبلفيق، فجمع الملك فرديناند عليهم جموعه وأحاط بهم من كل مكان حتى أخذهم عنوة بعد قتال شديد فأخذ أموالهم وقتل رجالهم وسبى نساءهم وصبيانهم ونصَّرهم واستعبدهم إلا أن أناسًا في غربي الأندلس امتنعوا من التنصر وانحازوا إلى جبل منيع وعر فاجتمعوا فيه بعيالهم وأموالهم، وتحصنوا فيه فجمع عليهم الملك فرديناند جموعه وطمع في الوصول إليهم كما فعل بغيرهم، فلما دنا منهم وأراد قتالهم خيب الله سعيه ورده على عَقِبه ونصرهم عليه بعد أكثر من ثلاثة وعشرين معركة، فقتلوا من جنده خلقًا كثيرًا من رجال وفرسان! فلما رأى أنه لا يقدر عليهم طلب منهم أن يعطيهم الأمان ويجوزهم لعدوة الغرب مؤمَّنين فأنعموا له بذلك إلا أنه لم يسَرِّح لهم شيئًا من متاعهم غير الثياب التي كانت عليهم وجوَّزهم لعدوة الغرب كما شرطوا عليه، ولم يطمع أحد بعد ذلك أن يقوم بدعوة الإسلام، وعمَّ الكفرُ جميع القرى والبلدان وانطفأ من الأندلس نور الإسلام والإيمان، فعلى هذا فليبك الباكون، ولينتحب المنتحبون، كما انتحب شاعر الأندلس أبو البقاء الرندي (ت684) في قصيدته المشهورة التي رثا فيه الأندلس بعد سقوط قرطبة سنة 633 ومدن كبرى كإشبيلية وبلنسية وغيرها بيد الفرنج، والتي مطلعها: (لكل شيء إذا ما تم نقصانُ * فلا يغرَّ بطيبِ العيشِ إنسانُ)، فإنا لله وإنا إليه راجعون! كان ذلك في الكتاب مسطورًا، وكان أمر الله قدَرًا مقدورًا، لا مردَّ لأمره ولا معقِّبَ لحكمِه، وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!!