هو شيخ الإسلام العلامة ذو التصانيف المفيدة والفتاوى السديدة، قاضي قضاة المسلمين شهاب الدين أبو السرور أحمد بن عمر بن محمد بن عبد الرحمن بن القاضي يوسف بن محمد بن علي بن محمد بن حسان بن الملك سيف بن ذي يزن المذحجي السيفي المرادي الشهير بالمُزَجد الشافعي الزبيدي، وكان من العلماء المشهورين وبقية الفقهاء، واحد المحقِّقين المعتمدين المرجوع إليهم في النوازل المعضلة والحوادث المشكلة، وكان على الغاية من التمكن في مراتب العلوم الإسلامية من الأصول والفروع وعلوم الأدب، وهو الذي أفتى بجواز شرب البنِّ والقهوة، وقد كان الخلاف بجواز شربها منتشرًا في عدد من الأمصار. ولد المُزَجد سنة 847 بجهة قرية الزبيدية، ونشأ بها وحفظ جامع المختصرات، ثم انتقل إلى بيت الفقيه بن عجيل فأخذ فيها على شيخ الإسلام إبراهيم بن أبي القاسم جغمان, ثم ارتحل إلى زبيد واشتغل فيها على عدد من أهل العلم، فحصَّل الفقه والأصول والحديث والحساب والفرائض, وبرع في علوم كثيرة لكنَّه تميز في الفقه حتى كان فيه أوحدَ وقته، ومن مصنفاته المشهورة في الفقه: العباب والمحيط بمعظم نصوص الشافعي والأصحاب، وهو كاسمه, وهو على أسلوب الرَّوْض جمع في مسائل الروض ومسائل التجريد، وهو كتاب عظيم جامع لأكثر أقوال الإمام الشافعي وأصحابه وأبحاث المتأخرين منهم على الغاية من جزالة اللفظ وحسن التقسيم، ولقد اشتهر هذا الكتاب في الآفاق ووقع على حسنِه ونفاسته الإجماع والاتفاق، وكثر اعتناءُ الناس بشأنه وانتفاع الطلبة به واغتباطهم ببيانه، واعتناء غير واحد من علماء الإسلام بشرحه، كالعارف شيخ الإسلام أبي الحسن البكري؛ فإنه شرحه بشرحين: صغير وكبير, ومنها تجريدُ الزوائد وتقريب الفرائد في مجلدين، جمع فيه الفروع الزائدة على الروضة غالبًا، وكتاب تحفة الطلاب ومنظومة الإرشاد في خمسة آلاف وثمانمائة وأربعين بيتًا, وزاد على الإرشاد كثيرًا من المسائل والقيود، ونظم أوائله إلى الرهن في مدة طويلة ثم مكث نحو خمس عشرة سنة، ثم شرع في تتمته فكمله في أقل من سنة، وله غير ذلك، وتفقه به خلائق كثيرون من أكابر الأعيان واختلاف أجناس الطلبة من جهات شتى، وله شِعرٌ حَسن، ومنه في الحصن الحصين، وكان ينظِم في اليوم الواحد نحو ثمانين بيتًا مع القيود والاحترازات، وله مرثية عظيمة في شيخه عمر الفتى. قال حفيدُه شيخ الإسلام قاضي قضاة الأنام أبو الفتح بن حسين المزجد: كان جدي شرَحَ جامع المختصرات للنسائي في ست مجلدات، ثم لما رآه لم يستوفِ ما حواه الجامع المذكور من الجَمع والخلاف، ألقاه في الماء فأعدمه، والله المستعان. قال علامة العصر ومفتيه أحمد بن عبد الرحمن الناشري: "كان القاضي شهاب الدين المزجد إذا سئم من القراءة والمطالعة، استدعى بمقامات الحريري، فيطالع فيها ويسمِّيها طبق الحلوى" ووليَ قضاء عدن ثم قضاء زبيد، وباشر ذلك بعفَّة وديانة، وطالت مدته فيها. وحكي: "أنه لما جاء زبيد وأُتيَ إليه بمعلومها، قال: جئنا من عدن إلى عدم. وكأنه- والله أعلم- كان غير راض بهذه المرتبة لِما فيها من الخطر العظيم؛ وذلك لكمال ورعه واحتياطه في دينه واستحقاره لزهرة الدنيا ومنصبها، وكان على جانب عظيم من الدين، حتى قال بعضهم في عصره: لو جاز أن يبعث الله نبيًّا في عصرنا، لكان أحمد المزجد هو ذلك النبي!" قال النماري: "لما دخلت عليه وشرعتُ في قراءة العباب لديه، أخذتني من دهشته الهيبةُ والعظمة ما منعني استيفاءَ ما كنت آلَفُه من الانبساط في حال القراءة، ففهم ذلك مني وأخذ يباسطني بذكرِ بلدي وأنَّ منها الشاعر الفلاني الذي قال في قصيدته ما هو كيت وكيت، حتى زال عني ذلك الدَّهشُ وثابَتْ إليَّ نفسي, وكانت أوقات شيخنا مرتبة: يجعل أواخر الليل وأول النهار لدرس القرآن، ثم يشتغل بما له من أوراد، ثم بالتفسير، ثم بالفقه، ثم يخرج إلى الحُكم إلى وقت الظهر، ثم يَقيل، ثم يشتغل بالإحياء للغزالي ونحوه من كتب الرقائق، وفي آخر النهار ينظر في التاريخ إلى أن يخرج لمجلس الحُكم بعد صلاة العصر؛ لأنه كان يجلس للحكم في اليوم مرتين" وقد انتفع به الناس، وأخذ عنه الطلبة واستمر على عظمته ووجاهته حتى مات في دولة الأروام- جمع رومي- قال محي الدين العيدروس: "ومناقب المزجد كثيرة وترجمته طويلة، وقد أفردها بالتصنيف حفيدُه القاضي أبو الفتح بن الحسين المزجد في جزء لطيف سمَّاه: منية الأحباب في مناقب صاحب العباب، وإذا تأملتَ ما أسلفناه عنه من الأخبار الجميلة والسِّيَر الحميدة، علمتَ أنَّه من العلماء الأخيار الأبرار، ولا ينافي ذلك ما كان متلبسًا به من القضاء ونحوه؛ فقد ابتلى بمثل ذلك غيرُ واحد من العلماء الصلحاء، كشيخ الإسلام تقي الدين السبكي، وشيخ الإسلام زكريا الأنصاري" كان لشهاب الدين المزجد أربعة أولاد: علي، والحسن، والحسين، وعبد الرحمن، وكل منهم أفتى في حياة أبيه، ومات منهم اثنان في حياة أبيهما، وهما عبد الرحمن وحسن، ورثاهما وحزن عليهما. توفي شهاب الدين فجر يوم الأحد شهر ربيع الآخر من هذه السنة ببلدة زبيد، وصُلِّي عليه بجامعها الكبير ودُفن بباب سهام، وقبره قبلي تربة الشيخ علي أفلح، ولم يخلف بعده مثله- رحمه الله تعالى ونفعنا بسره وسر علومه- ورثاه جماعة من أكابر العلماء والأدباء من تلامذته ومعاصريه، وعظُمَ الأسفُ عليه.