فسدت طبيعةُ الانكشاريين وتغَيَّرت أخلاقهم، وتبدلَّت مهمَّتُهم، وأصبحوا مصدرًا للبلاءِ للدولة والشعوب التابعة لها، وصاروا يتدخَّلون في شؤونِ الدولة وتعَلَّقت أفئدتُهم بشهوةِ السلطة وانغمَسوا في الملذات والمحرمات، وشق عليهم أن ينفِروا في برودة الشتاءِ، وفرضوا العطايا السلطانية، ومالوا إلى النَّهبِ والسلب حين غَزوا البلاد، وتركوا الغاية التي من أجلِها وُجِدوا، وغَرَقوا في شرب الخمور، وأصبحت الهزائِمُ تأتي من قِبَلهم بسبب تَركِهم للشريعة والعقيدة والمبادئ، وبُعدِهم عن أسباب النصر الحقيقية، وقاموا بخَلعِ وقَتلِ السلاطين، فجمع السلطانُ مجموعة من أعيان الدولة وكبار ضبَّاط الانكشارية في بيتِ المفتي، ثم أفتى المفتي بجوازِ العمل للقضاء على المتمَرِّدين. وقد أعلن الموافقةَ كُلُّ من حضر من ضباط الانكشارية مِن حيث الظاهِرُ، وأبطنوا خلافَ ذلك، ولما شعروا بقُربِ ضياع امتيازاتهِم وبوضع حدٍّ لتصرُّفاتهم، أخذوا يستعدون للثورة، واستجاب لهم بعضُ العوام. وفي 8 ذي القعدة عام 1241هـ بدأ بعضُ الانكشاريين بالتحَرُّش بالجنود أثناء أدائِهم تدريباتهم، ثم بدؤوا في عصيانهم، فجمع السلطان العلماءَ وأخبرهم بنيَّةِ المتمردين فشَجَّعوه على استئصالهم، فأصدر الأوامر للمدفعية حتى تستعِدَّ لقتالهم ملوِّحًا باللين والتساهل في الوقتِ نفسِه؛ خوفًا من تزايُدِ لهيب شرورهم. وفي صباح 9 ذي القعدة تقَدَّم السلطان ووراءه جنودُ المدفعية وتَبِعَهم العلماء والطلبة إلى ساحة (آت ميداني) حيث اجتمع العصاةُ هناك يثيرون الشَّغبَ، وقيل: إن السلطانَ سار معه شيخ الإسلام قاضي زادة طاهر أفندي والصدر الأعظم سليم باشا أمام الجُموعِ التي كانت تزيد على 60.000 نفسٍ، ثم أحاطت المدفعية بالميدانِ واحتَلَّت المرتفعات ووجَّهت قذائِفَها على الانكشارية، فحاولوا الهجومَ على المدافع ولكِنَّها صَبَّت حمَمَها فوق رؤوسهم، فاحتَمَوا بثكناتهم هروبًا من الموت، فأحرقت وهدمت فوقَهم وكذلك تكايا البكتاشية، وبذلك انتصر عليهم. وفي اليوم التالي صدر مرسومٌ سلطاني قضى بإلغاء فِئَتِهم وملابسهم واصطلاحاتهم وأسمائهم من جميعِ بلاد الدولة، وقتل من بقي منهم هاربًا إلى الولاياتِ أو نفيه، ثم قلَّد حسين باشا الذي كانت له اليدُ الطولى في إبادتهم قائدًا عامًّا (سرعسكر) وبدأ بعدها نظامُ الجيش الجديد، ثم أصبح السلطان محمود بعد ذلك حرًّا في تطوير جيشه، فترَسَّم خطى الحضارة الغربية، فاستبدل الطربوش الرومي بالعمامة، وتزيَّا بالزيِّ الأوروبي، وأمر أن يكونَ هو الزيَّ الرسميَّ لكُلِّ موظَّفي الدولة؛ العسكريين منهم والمدنيين، وأسَّس وسامًا دعاه وسامَ الافتخارِ، فكان أوَّلَ من فعل ذلك من سلاطين آلِ عثمان، وما قام به السلطان محمود من استبدال الطربوش بالعِمامةِ وفرْض اللِّباس الأوروبي على كافَّةِ المجموعات العسكرية: يدُلُّ على شعورهِ العميق بالهزيمة النفسيَّة.