انتهت الحربُ العالمية الأولى وخرجت إنجلترا ومن معها منتَشِين بالنصر، وكانت تُمنِّي المصريين بمنحِهم الاستقلالَ فورَ انتصارهم في الحرب، ولما كان الاحتلالُ مكَلِّفًا أكثر من إبقاء الدولة تابعةً لها بوضع أناسٍ يُخضِعون إدارتها، فتحصُلُ على ما تريد دون خسائرَ بشرية ولا خسائِرَ اقتصادية، فأظهرت اللِّينَ وأبدت الاستعدادَ لفكرة الاستقلالِ، وهيَّأت أشخاصًا مناسبين لها لهذا العمل الجديد، فأوحت لسعد زغلول بالتحرُّكِ، فدعا لاجتماع في صفر تمخَّض عن المطالبة بالاستقلال وتشكيلِ وفدٍ للسَّفَر إلى باريس لعرض القضية على مؤتمر الصُّلحِ، وتشكَّل الوفدُ مِن سعد زغلول، وعلي الشعراوي، وعبد العزيز فهمي، ولكِنَّ الأمر لا بدَّ له من ضجةٍ وضوءٍ ليبدوَ طبيعيًّا، فقامت إنجلترا بمنع الوفدِ مِن السفر وقبضت على سعد زغلول وغيره، ونُفيَ إلى مالطة فأصبح بطلًا وطنيًّا!! وقامت المظاهرات، ومنها المظاهرة النسائية المشهورة في ميدان التحرير، التي قادتها هدى شعراوي، وخلعت فيها الحجابَ وأحرقت صفية فهمي -زوجة سعد زغلول- حجابَها، وفعل بعضُ الساذجات المغفَّلات مثلَهنَّ، وكأن الحجابَ فرضته إنجلترا حتى يكون هذا مظهرًا من التنديد بالاستعمارِ!!! وقامت المظاهراتُ بالتخريب والتدمير بلا هدفٍ ولا مبرِّرٍ، ليس إلا التقليد الأعمى، فهم يدمرون بلادَهم هم لا بلادَ العدو، بل وسمِّيَ هذا الميدان فيما بعد "ميدان التحرير"!! واستقالت الوزارةُ واندلعت الثورةُ في أرجاء مصر، واعترفت أمريكا بالحماية الإنجليزية على مصر، ثم رُفِع الحظر على السفر، وأطلق سراح المنفيين في مالطة، فتألَّف وفدٌ جديد ضمَّ سعد زغلول، وعلي الشعراوي، وسينوت حنا، وجورج خياط، وغيرهم، وفي 11 رجب 1337هـ / 11 نيسان 1919م غادر الوفد البلادَ ووصل باريس، وبدأ الاتصال بالمسؤولين في مؤتمر الصلح، غير أن الأمور كانت مرتبةً وجاهزة كما يريد الصليبيون، وحدثت اضطراباتٌ بمصر، واتفقت كلمة شعب مصر أن الرأي للمفاوِضين في باريس ولهم القرار، ورفَضَ أيٌّ منهم المفاوضةَ داخل مصر َبغياب الوفد المصري، فسافرت لجنةُ ملنر التي جاءت إلى مصر للمفاوضة إلى لندن، ودعت المفاوضين للسفر من باريس إلى لندن للمفاوضة معهم، وتبيَّن أن أعضاء الوفد متفاوتون في درجة رضوخِهم للمفاوضات وشروطها، فرجع البعض لمصر وبقي البعض، منهم سعد زغلول، وبقيت الأمورُ بين أخذٍ وردٍّ، وكل ذلك إنجلترا تصِرُّ على إبقاء حامية إنجليزية في مصر، وفشلت المباحثات. ثم جرى اتفاقٌ بين المعتمد البريطاني في القاهرة وبين عبد الخالق ثروت، وعدلي يكن، وإسماعيل صدقي، وذلك في 14 جمادى الأولى 1340هـ / 12 كانون الثاني 1922م، نص الاتفاق على تأليف وزارة برئاسة عبد الخالق ثروت؛ شريطة موافقة الحكومة البريطانية على نقاطٍ، منها إلغاء الحماية والاعتراف بمصر مستقلةً، وإلغاء الأحكام العسكرية، وحماية المصالح الأجنبية وغيرها.