الموسوعة التاريخية


العام الهجري : 460 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1068
تفاصيل الحدث:

يومَ النِّصفِ من جُمادى الآخرة قُرِئَ الاعتقادُ القادريُّ الذي فيه مَذهبُ أَهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، والإنكارُ على أَهلِ البِدَعِ، وقَرأَ أبو مُسلمٍ الكجيُّ البخاريُّ المُحَدِّثُ كِتابَ ((التَّوحيدِ)) لابنِ خُزيمةَ على الجَماعةِ الحاضرين، وذُكِرَ بمَحضرٍ مِن الوَزيرِ ابنِ جَهيرٍ وجَماعةِ الفُقهاءِ وأَهلِ الكَلامِ، واعتَرَفوا بالمُوافَقةِ، ثم قُرِئَ الاعتِقادُ القادريُّ على الشَّريفِ أبي جَعفرِ بن المُقتدِي بالله ببابِ البَصرةِ، وذلك لِسَماعِه له مِن مُصَنِّفِه الخَليفَةِ القادرِ بالله.

العام الهجري : 461 العام الميلادي : 1068
تفاصيل الحدث:

هو الصَّدرُ الأَنبلُ الرَّئيسُ القُدوةُ أبو منصورٍ عبدُ المَلِكِ بن محمدِ بن يُوسُفَ البغداديُّ، سِبْطُ الإمامِ أبي الحسينِ أحمدَ بن عبدِ الله السوسنجردي, وُلِدَ سنةَ 395هـ وكان يُلقَّب بالشَّيخِ الأَجَلِّ، كان أَوْحَدَ زَمانِه في الأمرِ بالمَعروفِ والنهيِ عن المُنكرِ، والمُبادَرةِ إلى فِعلِ الخَيراتِ، واصطِناعِ الأَيادي عند أَهلِها، مِن أَهلِ السُّنَّةِ، مع شِدَّةِ القِيامِ على أَهلِ البِدَعِ ولَعْنِهِم، قال الخَطيبُ البغداديُّ: كان أَوْحَدَ وَقتِه في فِعلِ الخَيرِ، وافتِقادِ المَستُورِينَ بالبِرِّ، ودَوامِ الصَّدقَةِ، والإفضالِ على أَهلِ العِلمِ، والقِيامِ بأُمورِهم والتَّحَمُّلِ لِمُؤَنِهِم، والاهتمامِ بما عادَ مِن مَصالِحِهم، والنُّصرَةِ لأَهلِ السُّنَّةِ، والقَمعِ لأَهلِ البِدَعِ" تُوفِّي عن خمسٍ وسِتِّين سنةً، وكان يومُ مَوتِه يومًا مَشهودًا، حَضرَهُ خَلْقٌ لا يَعلمُ عَددَهم إلَّا الله عز وجل. قال أبي النرسي: "لم أرَ خَلْقًا قَطُّ مِثلَ مَن حَضرَ جَنازَتَه" دُفِنَ بمَقبَرَةِ بابِ حَربٍ إلى جَنْبِ جَدِّهِ لأُمِّهِ أبي الحُسينِ ابن السوسنجردي. قال الذهبيُّ: "كان ذا جاهٍ عَريضٍ واتِّصالٍ بالخَليفَةِ, وأَرَّخَ له ابنُ خيرون، وقال: دُفِنَ عند جَدِّهِ لأُمِّهِ، وحَضرَهُ جَميعُ الأَعيانِ، وكان صالحًا، عَظيمَ الصَّدقَةِ، مُتعصِّبًا للسُّنَّةِ، قد كَفَى عامَّةَ العُلماءِ والصُّلَحاءِ".

العام الهجري : 461 العام الميلادي : 1068
تفاصيل الحدث:

بَدأَت الدَّولةُ الفاطِمِيَّةُ بمصر يُصيبُها الضَّعفُ بسَببِ عِدَّةِ أُمورٍ كان مِن أَهمِّها حُصولُ الشِّقاقِ بين التُّركِ والعَبيدِ، وحُصولُ الاقتِتالِ بينهم، وفي هذه السَّنَةِ خَرجَ ناصرُ الدولةِ بن حمدان من عند الوزيرِ أبي عبدِ الله الماشلي وَزيرِ المُستَنصِر بمصر فوَثبَ عليه رَجلٌ صَيْرَفِيٌّ وضَربَه بسِكِّينٍ؛ فأُمسِكَ الصَّيرفيُّ وشُنِقَ في الحالِ، وحُمِلَ ناصرُ الدولةِ بن حمدان إلى دارِه جَريحًا، فعُولِجَ فبَرِئَ بعدَ مُدَّةٍ. فقِيلَ: إن المُستَنصِر ووالدَتَهُ كانا دَسَّا الصَّيرفِيَّ عليه، وفي هذه الأيامِ اضمَحلَّ أَمرُ المُستَنصِر بالدِّيارِ المِصريَّة لِتَشاغُلِه باللَّهوِ والشُّربِ والطَّرَبِ. فلمَّا عُوفِيَ ابنُ حمدان اتَّفقَ مع مُقدَّمِي المَشارِقَة، مثل سنان الدولةِ وسُلطانِ الجُيوشِ وغَيرِهما، فرَكِبوا وحَصَروا القاهرةَ، فاستَنجدَ المُستَنصِر وأُمُّهُ بأَهلِ مصر، وذَكَّرَهم بحُقوقِه عليهم، ووَعدَهم بالإحسانِ؛ فقاموا معه ونَهَبوا دُورَ أَصحابِ ابن حمدان وقاتَلوهُم. فخاف ابنُ حمدان وأَصحابُه، ودَخَلوا تحتَ طاعةِ المُستَنصِر، بعدَ أُمورٍ كَثيرةٍ صَدرَت بين الفَريقَينِ.

العام الهجري : 461 الشهر القمري : جمادى الآخرة العام الميلادي : 1069
تفاصيل الحدث:

هو المُعتَضِدُ بالله أبو عَمرٍو عَبَّادُ بن الظَّافرِ المُؤَيَّدِ بالله أبي القاسمِ محمد قاضي إشبيلية بن أبي الوَليدِ إسماعيلَ بن قُريشِ بن عَبَّادِ بن عَمرِو بن أَسلمَ بن عَمرِو بن عَطَّافِ بن نُعيمٍ، اللخميُّ، مِن وَلَدِ النُّعمانِ بن المُنذِر اللخميِّ، آخر مُلوكِ الحِيرَةِ, لمَّا تُوفِّي محمدٌ القاضي سَنةَ 433هـ قامَ مَقامَه وَلَدُه عَبَّادٌ، قال أبو الحسنِ عليُّ بن بَسَّامٍ في حَقِّهِ: " ثم أَفضَى الأَمرُ إلى عَبَّادٍ ابنِه سَنةَ ثلاثٍ وثلاثين, وتَسمَّى أَوَّلًا بِفَخرِ الدولةِ ثم المُعتَضِد، قُطْبُ رَحَى الفِتنَةِ، ومُنتَهى غايةِ المِحْنَةِ، مِن رَجُلٍ لم يَثبُت له قائمٌ ولا حَصيدٌ، ولا سَلَّمَ عليه قَريبٌ ولا بَعيدٌ، جَبَّارٌ، أَبرمَ الأُمورَ وهو مُتناقِض، وأسد فرس الطلى وهو رابض، مُتهَوِّرٌ تَتحاماهُ الدُّهاةُ، وجَبَّارٌ لا تَأمَنُه الكماو، مُتَعَسِّفٌ اهتدى، ومنبت قطع فما أَبقَى، ثارَ والناسُ حَرْبٌ، وكل شيءٍ عليه إلب، فكَفَى أَقرانَه وهُم غيرُ واحدٍ، وضبط شانه بين قائمٍ وقاعد، حتى طالت يَدُه، واتَّسعَ بَلدُه، وكَثُرَ عَديدُه وعَدَدُه؛ افتَتحَ أَمرَهُ بِقَتلِ وَزيرِ أَبيهِ حبيب المذكور، طَعنةً في ثَغرِ الأيامِ، مَلَكَ بها كَفَّهُ، وجَبَّارًا مِن جَبابِرَةِ الأنامِ، شُرِّدَ به مَن خَلْفَه، فاستمر يَفرِي ويُخلِق، وأَخَذَ يَجمَعُ ويُفَرِّق، له في كل ناحيةٍ مَيدان، وعلى كل رابِيَةٍ خُوان، حَرْبُه سُمٌّ لا يُبطِئ، وسَهْمٌ لا يُخطِئ، وسِلْمُه شَرٌّ غيرُ مَأمون، ومَتاعٌ إلى أدنى حين". ولم يَزل المُعتَضِدُ في عِزِّ سُلطانِه واغتِنامِ مَسارِّهِ، حتى أَصابَتهُ عِلَّةُ الذَّبْحَة، فلم تَطُل مُدَّتُها، وتُوفِّي يومَ الاثنينِ غُرَّةَ جُمادى الآخرة، ودُفِنَ ثاني يوم بمَدينةِ إشبيلية، وقام بالمَملَكةِ بَعدَه وَلَدُه المُعتَمِدُ على الله أبو القاسمِ محمدٌ.

العام الهجري : 461 الشهر القمري : شعبان العام الميلادي : 1069
تفاصيل الحدث:

في لَيلةِ النِّصفِ من شعبان كان حَريقُ جامعِ دِمشق، وكان سَببُه أنَّ غِلمانَ الفاطِميِّين والعَبَّاسِيِّين اختَصَموا فأُلقِيَت نارٌ بِدارِ المُلْكِ، وهي الخَضراءُ المُتاخِمَةِ للجامعِ مِن جِهَةِ القِبلَةِ، فاحتَرقَت، وسَرَى الحَريقُ إلى الجامعِ فسَقطَت سُقُوفُه وتَناثَرت فُصوصُه المُذَهَّبَةُ، وتَغيَّرَت مَعالِمُه، وتَقَلَّعَت الفُسَيْفِساءُ التي كانت في أَرضِه، وعلى جُدرانِه، وتَبدَّلَت بِضِدِّها، وقد كانت سُقوفُه مُذهَّبَةً كُلَّها، والجَمَلُونات مِن فَوقِها، وجُدرانُه مُذَهَّبَة مُلَوَّنَة مُصَوَّرٌ فيها جَميعُ بلادِ الدنيا، بحيث إنَّ الإنسانَ إذا أراد أن يَتَفرَّج في إقليمٍ أو بَلدٍ وَجدَه في الجامعِ مُصَوَّرًا كهَيئَتِه، فلا يُسافِر إليه ولا يُعنَى في طَلَبِه، فقد وَجدَهُ من قرب الكعبة ومكة فوق المحراب والبلاد كلها شَرقًا وغَربًا، كلُّ إقليمٍ في مكانٍ لائقٍ به، ومُصَوَّر فيه كل شَجرةٍ مُثمِرةٍ وغيرِ مُثمِرة، مصور مشكل في بُلدانِه وأَوطانِه، والسُّتورُ مُرخاةٌ على أَبوابِه النافذةِ إلى الصَّحْنِ، وعلى أُصولِ الحِيطانِ إلى مِقدارِ الثُّلُثِ منها سُتورٌ، وباقي الجُدرانِ بالفُصوصِ المُلوَّنَة، وأَرضُه كُلُّها بالفُصوصِ، ليس فيها بَلاطٌ، بحيث إنَّه لم يكن في الدنيا بِناءٌ أَحسنَ منه، لا قُصورَ المُلوكِ ولا غَيرَها، ثم لمَّا وَقعَ هذا الحَريقُ فيه تَبدَّلَ الحالُ الكاملُ بِضِدِّهِ، وصارت أَرضُه طِينًا في زَمنِ الشِّتاءِ، وغُبارًا في زَمنِ الصَّيفِ، مَحفورةً مَهجورةً، ولم يَزَل كذلك حتى بُلِّطَ في زَمنِ المَلِكِ العادلِ بن أيوبَ، أخي صَلاحِ الدين الأيوبي.

العام الهجري : 462 العام الميلادي : 1069
تفاصيل الحدث:

أَقبلَ مَلِكُ الرُّومِ مِن القُسطنطينِيَّة في عَسكرٍ كَثيفٍ إلى الشامِ، ونَزلَ على مَدينةِ منبج بسوريا ونَهبَها وقَتلَ أَهلَها، وهَزمَ محمودَ بن صالحِ بن مرداس، وبني كِلابٍ، وابنَ حسَّان الطائيَّ، ومَن معهما مِن جُموعِ العَربِ، ثم إنَّ مَلِكَ الرُّومِ ارتَحلَ وعادَ إلى بِلادِه، ولم يُمكِنهُ المَقامُ لِشِدَّةِ الجُوعِ.

العام الهجري : 462 العام الميلادي : 1069
تفاصيل الحدث:

أبو بكرِ بن عُمرَ بن تكلاكين اللَّمتوني، أَميرُ المُلَثَّمِين، وهو ابنُ عَمِّ يُوسفَ بنِ تاشفين أَميرِ المُرابطين، كان في أَرضِ فرغانة، خَلَفَ أَخاهُ يحيى بن عُمرَ في زَعامةِ صنهاجة وتَقَلَّدَ أُمورَ الحَربِ، اتَّفقَ له مِن النَّاموسِ ما لم يَتَّفِق لِغيرهِ مِن المُلوكِ، كان يَركَبُ معه إذا سار لِقِتالِ عَدُوٍّ خمسُمائةِ ألفِ مُقاتلٍ، كان يعتقد طاعته، لمَّا قَدِمَ عبدُالله بن ياسين للصحراء لصحراء أفريقية لِدَعوةِ قَبائلِها وتَعليمِهم أُمورَ دِينِهم وإقامةِ شَرعِ الله فيهم؛ فلمَّا قَدِمَ على لتمونة لمتونة قَبيلةِ يُوسفَ بنِ تاشفين, فأَكرَموه، وفيهم أبو بكرِ بن عُمرَ، فذَكَر لهم قواعدَ الإسلامِ، وفَهَّمَهُم، فقالوا: أمَّا الصلاةُ والزَّكاةُ فقَريبٌ، وأمَّا مَن قَتَلَ يُقتَل، ومَن سَرقَ يُقطَع، ومَن زَنَى يُجلَد، فلا نَلتَزِمُه، فذَهَبَا في تلك الصحارى المُتَّصِلَةِ بإقليمِ السُّودانِ حتى انتَهَيَا إلى جدالة، قَبيلةِ جوهر، فاستجابَ بَعضُهم، فقال ابنُ ياسين للذين أَطاعُوه: قد وَجَبَ عليكم أن تُقاتِلوا هؤلاء الجاحِدين، وقد تَحَزَّبُوا لكم، فانْصُبوا رايةً وأَميرًا. قال جوهر: فأنت أَميرُنا. قال: لا، أنا حامِلُ أَمانةِ الشَّرعِ؛ بل أنت الأميرُ. قال: لو فعلتُ لَتَسَلَّطَت قَبيلَتِي، وعاثُوا. قال: فهذا أبو بكر بن عُمرَ رَأسُ لَمتونَة، فسِرْ إليهِ وعرض واعرض عليه الأَمرَ، فبايَعُوا أبا بكرٍ، ولَقَّبُوه أَميرَ المُسلمين، وقام معه طائفةٌ مِن قَومهِ وطائفةٌ مِن جدالة، وحَرَّضَهم ابنُ ياسين على الجِهادِ، وسَمَّاهُم المُرابِطين، فثارت عليهم القَبائلُ، فاستَمالَهم أبو بكرٍ، وكَثُرَ جَمعُه، وبَقِيَ أَشرارٌ، فتَحَيَّلُوا عليهم حتى زَرَبوهُم في مكانٍ، وحَصَرُوهُم، فهَلَكوا جُوعًا، وضَعُفُوا، فقَتَلوهُم، وقَوِيَ أَمرُ أبي بكر بن عُمرَ وظَهرَ، ودانت له الصحراءُ، ونَشأَ حول ابنِ ياسين جَماعةٌ فُقهاءُ وصُلَحاءُ، وظَهرَ الإسلامُ هناك، وكان مع هذا يُقيمُ الحُدودَ ويَحفظُ مَحارِمَ الإسلامِ، ويَحوطُ الدِّينَ ويَسيرُ في الناسِ سِيرَةً شَرعِيَّةً، مع صِحَّةِ اعتِقادِه ودِينِه، ومُوالاةِ الدولةِ العبَّاسِيَّةِ، في سَنةِ 453هـ قام أبو بكر بن عُمرَ بِتَوْلِيَةِ ابنِ عَمِّهِ يُوسف بن تاشفين شُؤونَ المُرابِطين، وتَوَجَّهَ هو إلى الجنوبِ على رَأسِ جَيشٍ مُختَرِقًا بِلادَ سجلماسة ثم قَصدَ بِلادَ السُّودانِ السِّنغالَ مُتَوَغِّلًا فيها ناشِرًا للإسلامِ إلى أن أَصابَتهُ نُشَّابَةٌ في بَعضِ غَزَواتِه في حَلْقِه فقَتَلَتْهُ وهُم في قِتالٍ مع السُّودانِ السِّنغالِ.

العام الهجري : 462 العام الميلادي : 1069
تفاصيل الحدث:

كان بمصر غَلاءٌ شَديدٌ، ومَجاعةٌ عَظيمةٌ حتى أَكلَ الناسُ بَعضُهم بَعضًا، وفارَقوا الدِّيارَ المِصريَّة، فوَرَدَ بغدادَ منهم خَلْقٌ كَثيرٌ هَرَبًا مِن الجوعِ، ووَرَدَ التُّجَّارُ، ومعهم ثِيابُ صاحبِ مصر وآلاتُه، نُهِبَت مِن الجوعِ، وكان فيها أشياءُ كَثيرةٌ كانت قد نُهِبَت من دارِ الخِلافةِ وقتَ القَبضِ على الطائعِ لله سنة 381هـ، وممَّا نُهِبَ أيضًا في فِتنةِ البساسيري وخَرَجَ من خَزائنِهم ثمانون ألف قِطعةِ بِلَّوْر كِبار، وخمسة وسبعون ألف قِطعةٍ من الدِّيباج، وعشرون ألف سَيفٍ مُحَلًّى، وغيرُ ذلك كثيرٌ ممَّا يَتَعَجَّبُ المرءُ مِن سَماعِه لِكَثرَتِه وعِظَمِه، وكُلُّه كان في قُصورِ المُستَنصِر، وأَكلَ أهلُ مصر الجِيَفَ والمَيْتَةَ والكِلابَ، فكان يُباع الكَلبُ بخَمسةِ دنانير، وماتت الفِيَلَةُ فأُكِلَت مَيتَتُه، وأُفْنِيَت الدَّوابُّ فلم يَبقَ لصاحبِ مصر سوى ثلاثةُ أَفراس، بعدَ أن كان له العددُ الكثيرُ من الخَيْلِ والدَّوابِّ، ونَزلَ الوزيرُ يومًا عن بَغلتِه فغَفَلَ الغُلامُ عنها لِضَعْفِه من الجوعِ فأَخذَها ثلاثةُ نَفَرٍ فذَبَحوها وأَكلوها فأُخِذُوا فصُلِبُوا فما أَصبَحوا إلَّا وعِظامُهم بادِيَةٌ، قد أَخذَ الناسُ لُحومَهم فأَكَلوها، وظُهِرَ على رَجُلٍ يَقتُل الصِّبيانَ والنِّساءَ ويَدفِن رُؤوسَهم وأَطرافَهم، ويَبيع لُحومَهم، فقُتِلَ وأُكِلَ لَحمُه، وكانت الأعرابُ يَقدَمون بالطعامِ يَبيعونَه في ظاهرِ البلدِ، لا يَتجاسرون يَدخلون لِئلَّا يُخطَف ويُنهَب منهم، وكان لا يَجسُر أَحدٌ أن يَدفِن مَيِّتَهُ نهارًا، وإنَّما يَدفِنه ليلًا خُفيةً، لِئلَّا يُنبَش فيُؤكَل، وبِيعَت ثِيابُ النِّساءِ والرِّجالِ وغيرُ ذلك بأَرخصِ ثَمَنٍ، وكذلك الأملاكُ وغيرُها.

العام الهجري : 462 العام الميلادي : 1069
تفاصيل الحدث:

وَرَدَ رسولُ صاحبِ مكَّةَ محمدِ بن أبي هاشمٍ، ومعه وَلَدُه، إلى السُّلطانِ ألب أرسلان، يُخبِرُه بإقامةِ الخُطبةِ للخَليفةِ القائمِ بأَمرِ الله وللسُّلطانِ بمكَّةَ، وإِسقاطِ خُطبَةِ الفاطميِّ صاحبِ مصر، وتَرْكِ الأَذانِ بِحَيَّ على خَيرِ العَملِ، فأَعطاهُ السُّلطانُ ثلاثينَ ألف دِينارٍ، وخِلَعًا نَفيسَةً، وأَجرَى له كلَّ سَنَةٍ عَشرةَ آلاف دِينارٍ، وقال: إذا فَعلَ أَميرُ المَدينَةِ مهنأ كذلك، أَعطَيناهُ عشرينَ ألف دِينارٍ، وكلَّ سَنةٍ خَمسةَ آلاف دِينارٍ. فلم يَلتَفِت المُستَنصِر لذلك لِشُغلِه بِنَفسِه ورَعِيَّتِه مِن عِظَمِ الغَلاءِ والجوعِ، عِلمًا بأنه في هذه السَّنَةِ ضاقت النَّفَقَةُ على أَميرِ مكَّةَ فأَخذَ الذَّهَبَ من أَستارِ الكَعبةِ والمِيزابِ وبابِ الكَعبةِ، فضَرَبَ ذلك دَراهِمَ ودَنانيرَ، وكذا فَعلَ صاحبُ المَدينةِ بالقَناديلِ التي في المَسجدِ النَّبَوِيِّ.

العام الهجري : 462 العام الميلادي : 1069
تفاصيل الحدث:

قام يحيى المأمون بن إسماعيل بن ذي النون أَميرُ طُليطلة بالمَسيرِ إلى قُرطُبة للاستِيلاءِ عليها، فاستَنجدَ أَميرُها عبدُالملك بن جَهور بالمُعتَمِد بن عبَّادٍ الذي أَرسلَ إليه جَيشًا للنَّجدَةِ فاحتَلَّ قُرطُبة واعتَقلَ عبدَالملك بن جَهور ووَالِدَهُ وأَخاهُ ونَفاهُم إلى جَزيرةِ شلطيش، ووَلَّى ابنَه سِراجَ الدَّولةِ حاكِمًا على قُرطُبة فأنهى بذلك دَولةَ الجَهوريِّينَ على قُرطُبة التي دامت قَريبًا من خمسٍ وثلاثين سَنةً.

العام الهجري : 463 الشهر القمري : ربيع الآخر العام الميلادي : 1071
تفاصيل الحدث:

هو الإمامُ، العَلَّامةُ، حافظُ المَغرِب، شيخُ الإسلامِ، أبو عُمرَ يُوسُف بنُ عبدِ الله بن محمدِ بن عبدِ البَرِّ بن عاصمٍ النمريُّ، الأَندَلُسيُّ، القُرطُبيُّ, فَقِيهٌ مالكيٌّ مَشهورٌ، صاحبُ التَّصانيفِ المَلِيحَةِ الهائِلَة، منها ((التمهيد))، و((الاستذكار)) و((الاستيعاب))، وغير ذلك، مِن كِبارِ حُفَّاظِ الحَديثِ، يُقالُ عنه: حافِظُ المَغرِب، وُلِدَ سَنةَ 368هـ. طَلَبَ العِلمَ بعدَ 390هـ وأَدرَكَ الكِبارَ، وطال عُمرُه، وعَلَا سَنَدُه، وتَكاثَر عليه الطَّلَبَةُ، وجَمَعَ وصَنَّفَ، ووَثَّقَ وضَعَّفَ، وسارت بِتَصانيفِه الرُّكبانُ، وخَضَعَ لِعِلمِه عُلماءُ الزَّمانِ، وَفَاتَهُ السَّماعُ مِن أَبيهِ الإمامِ أبي محمدٍ، فإنه ماتَ قديمًا في سَنةِ 380هـ قبل أن يَبدأ ابنُه أبو عُمرَ في الطَّلَبِ، وله رِحلاتٌ طَويلةٌ في طَلَبِ العِلمِ. قال الحُميديُّ: "أبو عُمرَ فَقِيهٌ حافظٌ مُكْثِرٌ، عالِمٌ بالقِراءاتِ وبالخِلافِ، وبِعُلومِ الحَديثِ والرِّجالِ، قَديمُ السَّماعِ، يَميلُ في الفِقْهِ إلى أَقوالِ الشافعيِّ".قال الذهبيُّ: "كان إمامًا دَيِّنًا، ثِقَةً، مُتْقِنًا، عَلَّامةً، مُتَبَحِّرًا، صاحبَ سُنَّةٍ واتِّباعٍ، وكان أَوَّلًا أَثَرِيًّا ظاهِرِيًّا فيما قِيلَ، ثم تَحوَّل مالِكيًّا مع مَيْلٍ بَيِّنٍ إلى فِقهِ الشافعيِّ في مَسائلَ، ولا يُنكَر له ذلك، فإنه ممَّن بَلَغَ رُتبةَ الأئمَّةِ المُجتهِدين، ومَن نَظرَ في مُصنَّفاتِه، بانَ له مَنزِلَتُه مِن سِعَةِ العِلمِ، وقُوَّةِ الفَهمِ، وسَيَلانِ الذِّهنِ, وكان مُوَفَّقًا في التَّأليفِ، مُعانًا عليه، ونَفَعَ الله بِتَواليفِه، وكان مع تَقَدُّمِه في عِلمِ الأَثَرِ وبَصَرِه بالفِقهِ ومعاني الحَديثِ له بَسْطَةٌ كَبيرةٌ في عِلمِ النَّسَبِ والخَبَرِ, وكان حافِظَ المَغربِ في زَمانِه, وذَكَرَ جَماعةٌ أنه وَلِيَ قَضاءَ الأشبونة وشنترين". تُوفِّيَ في شاطبة عن 95 عامًا.

العام الهجري : 463 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1071
تفاصيل الحدث:

قَصَدَ أتسز بن أوق الخوارزميُّ -وهو من أُمراءِ السُّلطانِ ملكشاه السلجوقي- بِلادَ الشامِ، فجَمعَ الأَتراكَ وسار إلى فِلسطين، ففَتحَ مَدينةَ الرَّمْلَةَ، وسار منها إلى بَيتِ المَقدِس وحَصرَه، وفيه عَساكرُ المِصريِّين التابِعينَ للدولةِ الفاطِميَّة، ففَتَحَهُ، ومَلَكَ ما يُجاوِرُهُما من البِلادِ، ما عدا عَسقلان، وقَصَدَ دِمشقَ فحَصرَها، وتابَعَ النَّهْبَ لِأَعمالِها حتى خَرَّبَها، وقَطعَ الميرةَ عنها، فضاقَ الأَمرُ بالناسِ، فصَبَروا، ولم يُمَكِّنُوه مِن مُلْكِ البلدِ، فعاد عنه، وأَدامَ قَصْدَ أَعمالِه وتَخريبها حتى قَلَّتِ الأَقواتُ عندهم.

العام الهجري : 463 الشهر القمري : جمادى الأولى العام الميلادي : 1071
تفاصيل الحدث:

بَعثَ ناصرُ الدولةِ حُسينُ بن حمدان الفقيه أبا جَعفرٍ محمدَ بن أحمدَ بن البُخاريِّ رَسولًا منه إلى السُّلطانِ ألب أرسلان، مَلِكِ العِراقِ، يَسألهُ أن يُسَيِّرَ إليه العَساكرَ لِيُقيمَ الدَّعوةَ العبَّاسيَّةَ بدِيارِ مصر، وتكون مصر له. فتَجَهَّزَ ألب أرسلان مِن خُراسان في عِساكرَ عَظيمةٍ، وبَعثَ إلى محمودِ بن ثمال بن صالحِ بن مرداس، صاحبِ حَلَب، أن يَقطعَ دَعوةَ المُستَنصِر ويُقيمَ الدَّعوةَ العبَّاسيَّة، فقُطِعَت دَعوةُ المُستَنصِر من حَلَب ولم تَعُد بعدَ ذلك. وانتهى ألب أرسلان إلى حَلَب في جُمادى الأُولى سَنةَ 463هـ وحاصَرَها شَهرًا، فخَرجَ إليه صاحبُها محمودُ بن ثمال بن صالحِ بن مرداس، فأَكرَمه وأَقَرَّهُ على وِلايَتِه. وأَخذَ يُريدُ المَسيرَ إلى دِمشقَ لِيَمُرَّ منها إلى مصر، وإذا بالخَبَرِ قد طَرَقَهُ أنَّ مُتَمَلِّكَ الرُّومِ قد قَطعَ بِلادَ أرمينية يُريدُ أَخْذَ خُراسان، فشَغَلهُ ذلك عن الشامِ ومصر ورَجعَ إلى بِلادِه؛ فواقَعَ جَمائِعَ الرُّومِ على خلاط وهَزمَهُم. وكان قد تَركَ طائفةً من عَسكرِه الأتراكِ ببلادِ الشامِ فامتَدَّت أَيدِيهم إليها ومَلَكَتْهَا كُلَّها، فخَرجَت عن أَيدِي الفاطِميِّين ولم تَعُد إليهم.

العام الهجري : 463 الشهر القمري : رجب العام الميلادي : 1071
تفاصيل الحدث:

هو الصاحبُ، الوَزيرُ، العَلَّامَةُ، أبو الوَليدِ أحمدُ بن عبدِ الله بن أحمدَ بن غالبِ بن زَيدونَ المَخزُومِيُّ، القُرشيُّ، الأندَلُسيُّ، القُرطُبيُّ، الشاعرُ الماهرُ، حاملُ لِواءِ الشِّعْرِ في عَصرِه. اتَّصلَ بالأَميرِ المُعتَمِدِ بن عبَّادٍ، صاحبِ إشبيلية، فحَظِيَ عنده وصار مُشاوِرًا في مَنزِلَةِ الوَزيرِ، كان بارِعًا أَديبًا شاعرًا مُجيدًا، كان يُشعِر لِنَفسِه لا للتَّكَسُّبِ، أُفْعِمَ بِحُبِّ وَلَّادَة بِنتِ المُستَكْفِي المرواني أَميرِ الأندَلُس، سُجِنَ بِتُهمَةِ مَيْلِه لِبَني أُمَيَّةَ، قال ابنُ بَسَّام: " كان أبو الوَليدِ غايةَ مَنثورٍ ومَنظومٍ، وخاتِمةَ شُعراءِ بني مَخزومٍ، أَحدُ مَن جَرَّ الأيامَ جَرًّا، وفاتَ الأنامَ طُرًّا، وصَرَّفَ السُّلطانَ نَفْعًا وضُرًّا، ووَسَّعَ البيانَ نَظْمًا ونَثْرًا؛ إلى أَدبٍ ليس للبَحرِ تَدَفُّقُهُ، ولا للبَدرِ تَأَلُّقُهُ، وشِعْرٍ ليس للسِّحْرِ بَيانُه، وللنُّجومِ الزُّهْرِ اقتِرانُه. وحَظٍّ مِن النَّثْرِ غَريبِ المَباني، شِعريِّ الألفاظِ والمعاني", وكان من أَبناءِ وُجوهِ الفُقَهاءِ بقُرطُبة، فانتَقلَ منها إلى عند صاحبِ إشبيلية المُعتَضِدِ بن عبَّادٍ، بعد الأربعين وأربع مائة، فجَعَلَهُ مِن خَواصِّه، وبَقِيَ معه في صُورةِ وَزيرٍ. تُوفِّي في إشبيلية ثم نُقِلَ إلى قُرطُبة ودُفِنَ فيها.

العام الهجري : 463 الشهر القمري : ذي القعدة العام الميلادي : 1071
تفاصيل الحدث:

في هذه السَّنَةِ خَرجَ أرمانوس مَلِكُ الرُّومِ في مائتي ألفٍ من الرُّومِ، والفِرنجِ، والغَربِ، والرُّوسِ، والبجناك، والكرج، وغَيرِهم، من طوائفِ تلك البِلادِ، فجاءوا في تَجَمُّلٍ كَثيرٍ، وزِيٍّ عَظيمٍ، وقَصدَ بِلادَ الإسلامِ، فوَصلَ إلى ملازكرد من أَعمالِ خلاط. فبَلغَ السُّلطانَ ألب أرسلان الخَبرُ. وهو بمَدينةِ خوي من أذربيجان، قد عاد من حَلَب. وسَمِعَ بكَثرَةِ الجُموعِ التي  مع مَلِكِ الرُّومِ، فلم يَتَمَكَّن من جَمْعِ العَساكرِ لبُعدِها وقُرْبِ العَدُوِّ، فسَيَّرَ الأَثقالَ مع زَوجتِه ونِظامِ المُلْكِ إلى همذان، وسار هو فيمن عنده من العَساكرِ، وهُم خَمسة عشر ألف فارس. وَجَدَّ في السَّيْرِ وقال لهم: إنَّني أُقاتِلُ مُحتَسِبًا صابرًا، فإن سَلِمْتُ فنِعمةٌ مِن الله تعالى، وإن كانت الشهادةُ فإنَّ ابني ملكشاه وَلِيُّ عَهْدِي. وساروا فلمَّا قارَبَ العَدُوَّ جَعلَ له مُقدِّمةً، فصادَفَت مُقدِّمَتُه، عند خلاط، مُقدِّمَ الرُّوسِيَّة في نَحوِ عشرة آلاف من الرُّومِ، فاقتَتَلوا، فانهَزمَت الرُّوسِيَّةُ، وأَسَرَ مُقدِّمَهم، وحُمِلَ إلى السُّلطانِ، فجَدَعَ أَنْفَهُ، وأَنْفَذَ بالسَّلَبِ إلى نِظامِ المُلْكِ، وأَمرَهُ أن يُرسِلَهُ إلى بغداد، فلمَّا تَقارَب العَسكرانِ أَرسلَ السُّلطانُ إلى مَلِكِ الرُّومِ يَطلُب منه المُهادَنة، فقال: لا هُدْنَةَ إلَّا بالرَّيِّ. فانزَعجَ السُّلطانُ لذلك، فقال له إِمامُه وفَقِيهُه أبو نصرٍ محمدُ بن عبدِ المَلِكِ البُخاريُّ، الحَنَفيُّ: إنَّك تُقاتِل عن دِينٍ وَعَدَ الله بِنَصْرِهِ وإِظهارِهِ على سائرِ الأديانِ، وأَرجو أن يكون الله تعالى قد كَتبَ باسمِك هذا الفَتحَ، فالْقِهِم يومَ الجُمعةِ، بعدَ الزَّوالِ، في الساعةِ التي تكون الخُطباءُ على المنابرِ، فإنَّهم يَدعُون للمُجاهِدين بالنَّصرِ، والدُّعاءُ مَقرونٌ بالإجابةِ. فلمَّا كانت تلك الساعةُ صلَّى بهم، وبَكَى السُّلطانُ، فبَكَى الناسُ لِبُكائِه، وَدَعا ودَعَوا معه وقال لهم: مَن أَرادَ الانصرافَ فليَنصَرِف، فما هاهنا سُلطانٌ يأمرُ ويَنهى، وأَلقَى القَوْسَ والنِّشابَ، وأَخذَ السَّيفَ والدَّبُّوسَ – الدَّبُّوس آلة من آلاتِ الحَربِ تُشبِه الإِبْرَة-، وعَقَدَ ذَنَبَ فَرَسِه بِيَدِه، وفَعلَ عَسكرُه مِثلَه، ولَبِسَ البَياضَ وتَحَنَّطَ، وقال: إن قُتِلتُ فهذا كَفَني. وزَحَفَ إلى الرُّومِ وزَحَفوا إليه، فلمَّا قارَبَهم نَزلَ السُّلطانُ عن فَرَسِه وسَجَدَ لله عزَّ وجلَّ، ومَرَّغَ وَجهَه في التُّرابِ وَدَعا الله واستَنصَرَهُ، فأَنزلَ الله نَصرَهُ على المُسلمينَ، ومَنَحَهم أَكتافَهم فقَتَلوا منهم خَلْقًا كَثيرًا، وأُسِرَ مَلِكُهم أرمانوس، أَسَرَهُ غُلامٌ رُومِيٌّ، فلمَّا أُوقِفَ بين يدي المَلِكِ ألب أرسلان ضَرَبَهُ بِيَدِه ثلاثَ مَقارِع وقال: لو كنتُ أنا الأَسيرَ بين يَديكَ ما كنتَ تفعل؟ قال: كلَّ قَبيحٍ. قال: فما ظَنُّكَ بي؟ فقال: إمَّا أن تقتل تَقتُلَني وتُشْهِرَني في بِلادِك، وإمَّا أن تَعفُو وتَأخُذ الفِداءَ وتُعيدَني. قال: ما عَزمتُ على غَيرِ العَفوِ والفِداءِ. فافتَدَى نَفسَه منه بألف ألف دِينارٍ وخمسمائة ألف دينار، فلما انتهى إلى بِلادِه وَجدَ الرُّومَ قد مَلَّكوا عليهم غَيرَه، فأَرسلَ إلى السُّلطانِ يَعتَذِر إليه، وبَعثَ من الذَّهبِ والجَواهِر ما يُقارِب ثلاثمائة ألف دينار، وتَزَهَّدَ ولَبِسَ الصُّوفَ ثم استغاث بملك الأرمن فأَخذَه وكحله وأَرسلَه إلى السُّلطانِ يَتَقَرَّبُ إليه بذلك.

العام الهجري : 463 الشهر القمري : ذي الحجة العام الميلادي : 1071
تفاصيل الحدث:

هو الحافِظُ أبو بكرٍ أَحمدُ بن عليِّ بن ثابتِ بن أَحمدَ بن مَهدِيٍّ، الخَطيبُ البغداديُّ، أَحدُ الحُفَّاظِ الأَعلامِ المَشهورِينَ، صاحبُ ((تاريخ بغداد)) وغَيرِه من المُصنَّفاتِ العَديدةِ المُفيدةِ، وُلِدَ سَنةَ 392هـ، وكان أبوه أبو الحَسنِ الخَطيبُ قد قَرأَ على أبي حَفصٍ الكِتَّانيِّ، وصار خَطيبَ قَريةِ درزيجان، إحدى قُرى العِراقِ، فحَضَّ وَلدَه أبا بكرٍ على السَّماعِ في صِغَرِه، فسَمِعَ وله إحدى عشرة سَنةً، نَشأَ ببغداد، وتَفَقَّهَ على أبي طالبٍ الطَّبريِّ وغَيرِه من أَصحابِ الشيخِ أبي حامدٍ الأسفراييني، وسَمِعَ الحَديثَ الكَثيرَ، ورَحلَ إلى البَصرةِ, ونيسابور, وأصبهان، وهمذان, والشامِ, والحِجازِ. وسُمِّيَ الخَطيبَ لأنه كان يَخطُب بدرزيجان، ولمَّا وقعت فِتنةُ البساسيري ببغداد سَنةَ 450هـ خَرجَ الخَطيبُ إلى الشامِ فأَقامَ بدِمشقَ بالمأذَنةِ الشرقيَّةِ مِن جامِعِها، وكان يَقرأُ على الناسِ الحَديثَ، وكان جَهورِيَّ الصوتِ، يُسمَع صَوتُه من أَرجاءِ الجامعِ كُلِّها، فاتَّفَق أنه قَرأَ على الناسِ يومًا فَضائلَ العبَّاسِ فثَارَ عليه الرَّوافِضُ من أَتباعِ الفاطِميِّين، فأَرادوا قَتْلَه فتَشَفَّعَ بالشَّريفِ الزَّينبيِّ فأَجارَهُ، وكان مَسكَنُه بدارِ العقيقي، ثم خَرجَ من دِمشقَ فأَقامَ بمَدينةِ صور، فكَتبَ شَيئًا كَثيرًا من مُصنَّفاتِ أبي عبدِ الله الصوري بِخَطِّهِ كان يَستَعيرُها من زَوجَتِه، فلم يَزَل مُقيمًا بالشامِ إلى سَنةِ 462هـ، ثم عاد إلى بغداد فحَدَّثَ بأَشياءَ من مَسمُوعاتِه، وله مُصنَّفاتٌ كَثيرةٌ مُفيدةٌ، نحو من سِتِّينَ مُصَنَّفًا، ويُقالُ: بل مائة مُصَنَّف، منها كتاب ((تاريخ بغداد))، وكتاب ((الكفاية))، و((الجامع))، و((شرف أصحاب الحديث))، و((المتفق والمفترق))، و((السابق واللاحق))، و((تلخيص المتشابه في الرسم))، و((اقتضاء العلم للعمل))، و((الفقيه والمتفقه))، وغير ذلك، ويُقال: إن هذه المُصَنَّفات أَكثرُها لأبي عبدِ الله الصوري، أو ابتَدأَها فتَمَّمَها الخَطيبُ، وجَعَلَها لِنَفسِه، قال الذهبيُّ: "ما الخَطيبُ بِمُفْتَقِرٍ إلى الصوري، هو أَحْفَظُ وأَوْسَعُ رِحلةً وحَديثًا ومَعرِفةً" كان الخَطيبُ أولا أَوَّلَ أَمرِهِ يَتكلَّم بمَذهبِ الإمامِ أَحمدَ بن حَنبلٍ، فانتَقلَ عنه إلى مَذهبِ الشافعيِّ. كان مَهيبًا وَقورًا، ثِقَةً مُتَحَرِّيًا، حُجَّةً، حَسَنَ الخَطِّ، كَثيرَ الضَّبْطِ، فَصيحًا، خُتِمَ به الحُفَّاظِ، قال ابنُ ماكولا: "كان أبو بكرٍ آخِرَ الأَعيانِ، ممَّن شاهَدناه مَعرِفةً، وحِفظًا، وإتقانًا، وضَبطًا لِحَديثِ رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وتَفَنُّنًا في عِلَلِهِ وأَسانيدِه، وعِلمًا بصَحيحِه وغَريبِه، وفَرْدِه ومُنكَرِه ومَطروحِه، ولم يكُن للبَغداديِّينَ بعدَ أبي الحَسنِ الدَّارقطنيِّ مِثلُه". كان الخَطيبُ يقول: "مَن صَنَّفَ فقد جَعلَ عَقلَهُ على طَبَقٍ يُعرِضُه على الناسِ", "كان للخَطيبِ ثَروةٌ من الثِّيابِ والذَّهبِ، وما كان له عَقِبٌ، فكَتبَ إلى القائمِ بأَمرِ الله قال له: إنَّ مالي يَصيرُ إلى بَيتِ مالٍ، فَأْذَنْ لي حتى أُفَرِّقَهُ فيمَن شِئتُ. فأَذِنَ له، ففَرَّقَها على المُحَدِّثين". تُوفِّيَ يومَ الاثنين ضُحًى، وله ثِنتانِ وسَبعون سَنةً، في حُجرَةٍ كان يَسكُنها بِدَربِ السلسلةِ، جِوارَ المَدرسةِ النِّظاميَّةِ، واحتَفلَ الناسُ بجِنازَتِه، وكان فيمَن حَملَ نَعشَه الشيخُ أبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ، ودُفِنَ إلى جانبِ قَبرِ بِشْرٍ الحافيِّ.

العام الهجري : 464 العام الميلادي : 1071
تفاصيل الحدث:

قام الشيخُ أبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ مع الحَنابِلَةِ في الإنكارِ على المُفسِدِينَ، والذين يَبيعُونَ الخُمورَ، وفي إِبطالِ المُؤاجِراتِ وَهُنَّ البَغايا، وكَتَبوا إلى السُّلطانِ في ذلك، فجاءَت كُتُبُه في الإنكارِ.

العام الهجري : 464 العام الميلادي : 1071
تفاصيل الحدث:

حدوث حَدَثَت زَلزلةٌ عَظيمةٌ ببغداد ارتَجَّت لها الأَرضُ سِتَّ مَرَّاتٍ، وفيها كان مَوتٌ ذَرِيعٌ في الحيواناتِ، بحيث أنَّ بعضَ الرُّعاةِ بخُراسان قام وقتَ الصباحِ لِيَسرَحَ بِغَنَمِه فإذا هُنَّ قد مِتْنَ كُلُّهُنَّ، وجاء سَيْلٌ عَظيمٌ وبَرَدٌ كِبارٌ أَتلَفَ شَيئًا كَثيرًا من الزُّروعِ والثِّمارِ بخُراسان.

العام الهجري : 464 العام الميلادي : 1071
تفاصيل الحدث:

سَيَّرَ السُّلطانُ ألب أرسلان وَزيرَهُ نِظامَ المُلْكِ في عَسكرٍ إلى بِلادِ فارِس، وكان بها حِصْنٌ من أَمنَعِ الحُصونِ والمَعاقِلِ، وفيه صاحبُه فضلون الكُرديُّ، وهو لا يُعطِي الطَّاعةَ، فنازَلَهُ وحَصرَهُ، ودَعاهُ إلى طَاعةِ السُّلطانِ فامتَنَع، فقاتَلَهُ فلم يَبلُغ بقِتالِه غَرَضًا لِعُلُوِّ الحِصنِ وارتِفاعِه، فلم يَطُل مَقامُهم عليه حتى نادَى أَهلُ القَلعةِ بَطَلَبِ الأَمانِ لِيُسَلِّموا الحِصنَ إليه، فعَجبَ الناسُ من ذلك، وكان السببُ فيه أنَّ جَميعَ الآبارِ التي بالقَلعةِ غارَت مِياهُها في لَيلةٍ واحدةٍ فقادَتهُم ضُرورةُ العَطَشِ إلى التَّسليمِ، فلمَّا طَلَبوا الأَمانَ أَمَّنَهُم نِظامُ المُلْكِ، وتَسلَّمَ الحِصنَ، والْتَجَأَ فضلون إلى قُلَّةِ القَلعَةِ، وهي أَعلَى مَوضِعٍ فيها، وفيه بِناءٌ مُرتفِعٌ، فاحتَمَى فيها، فسَيَّرَ نِظامُ المُلْكِ طائِفةً من العَسكرِ إلى المَوضِعِ الذي فيه أَهلُ فضلون وأَقارِبُه لِيَحمِلوهُم إليه ويَنهَبوا مالَهم، فسَمِعَ فضلون الخَبَرَ، ففارَقَ مَوضِعَه مُستَخفِيًا فيمَن عنده من الجُنْدِ، وسار لِيمنَع عن أَهلِه، فاستَقبَلَتهُ طلائِعُ نِظامِ المُلْكِ، فخافَهُم فتَفَرَّقَ مَن معه، واختَفَى في نَباتِ الأَرضِ، فوَقعَ فيه بَعضُ العَسكرِ، فأَخذَه أَسيرًا، وحَملَه إلى نِظامِ المُلْكِ، فأَخَذَهُ وسارَ به إلى السُّلطانِ فأَمَّنَهُ وأَطلَقَهُ.

العام الهجري : 464 العام الميلادي : 1071
تفاصيل الحدث:

وَقعَ نِزاعٌ بين فِرقَتينِ، فِرقةِ العَبيدِ وعَرَبِ الصَّعيدِ، وفِرقةِ الجُنْدِ مِن التُّركِ والمَغارِبَةِ، ورَأسُهم ناصرُ الدَّولةِ ابنُ حمدان التَّغلبيُّ، فالتَقوا بكومِ الريش، فهَزمَهم ابنُ حمدان، وقَتَلَ وغَرَّقَ نحوًا من أربعين ألفًا. ونَفَدَت خَزائنُ المُستَنصِر على التُّركِ، ثم اختَلَفوا، ودامت الحَربُ أيامًا، وطَمِعَ التُّركُ في المُستَنصِر، وطالبوه حتى بِيعَت فُرُشُ القَصرِ، وأَمتِعَتُه بأَبخَسِ ثَمَنٍ، وغَلَبَت العَبيدُ على الصَّعيدِ، وقَطَعوا الطُّرُقَ، وكان نَقْدُ الأَتراكِ في الشهرِ أربعَ مائة ألف دِينارٍ، واشتَدَّت وَطأةُ ناصرِ الدَّولةِ، وصار هو الكُلُّ، فحَسَده الأُمراءُ، وحارَبوهُ، فهَزَموه، ثم جَمَعَ وأَقبلَ فانتَصَر، واضمَحلَّ أَمرُ المُستَنصِر بالمَرَّةِ، وخَملَ ذِكْرُهُ. وبَعثَ ابنُ حمدان يُطالِبُه بالعَطاءِ، فَرآهُ رَسولُه على حَصيرٍ، وما حوله سِوى ثلاثةِ غِلمانٍ. فقال: أما يكفي ناصرَ الدَّولةِ أن أَجلِسَ في مثلِ هذا الحالِ؟ فبَكَى الرسولُ، ورَقَّ له ناصرُ الدَّولةِ، وقَرَّرَ له كلَّ يومٍ مائةَ دِينارٍ, وتَفرَّق عن المُستَنصِر أَولادُه، وأَهلُه من الجوعِ، وتقرفوا وتَفَرَّقوا في البلادِ، ودامَ الجَهْدُ عامين، ثم انحَطَّ السِّعْرُ في سَنةِ خمسٍ وسِتِّين. قال الذهبيُّ: "كان ناصرُ الدَّولةِ، يُظهِر التَّسَنُّنَ، ويَعِيبَ المُستَنصِرَ لِخُبْثِ رَفْضِهِ وعَقِيدَتِه" قال ابنُ الأَثيرِ: بالَغَ ابنُ حمدان في إهانَةِ المُستَنصِر، وفَرَّقَ عنه عامَّةَ أَصحابِه، وكان غَرضُه أن يَخطُبَ لأَميرِ المؤمنين القائمِ، ويُزيلَ دَولةَ الباطنِيَّة، وما زال حتى قَتَلَهُ الأُمراءُ، وقَتَلوا أَخوَيهِ فَخْرَ العَربِ، وتاجَ المعالي، وانقَطَع ذِكْرُ الحمدانية بمصر بالكُلِّيَّةِ"