هو السُّلطانُ الكبيرُ، رُكْنُ الدِّين، أبو طالبٍ، طُغرلبك محمدُ بن ميكائيل بن سَلجوق بن دقاق أوَّلُ مُلوكِ السَّلاجِقة, وأَصلُ السَّلاجِقة مِن بَرِّ بُخارى؛ لهم عددٌ وقُوَّةٌ وإِقدامٌ، وشَجاعةٌ وشَهامةٌ وزَعارةٌ، فلا يَدخُلون تحتَ طاعةٍ، وإذا قَصدَهُم مَلِكٌ دَخَلوا البَرِّيَّة, ثم إن طُغرلبك عَظُمَ سُلطانُه، وطَوَى المَمالِكَ، واستولى على العِراقِ في سنة 447هـ، وتَحبَّبَ إلى الرَّعيَّةِ بِعَدْلٍ مَشُوبٍ بِجَوْرٍ، وكان حَليمًا كَثيرَ الاحتمالِ، شَديدَ الكِتمانِ للسِّرِّ، مُحافِظًا على الصَّلواتِ، وعلى صَومِ الاثنينِ والخَميسِ، مُواظِبًا على لُبْسِ البَياضِ، ويبني المَساجِد، ويَتصدَّق، سار السُّلطانُ طُغرلبك من بغداد، في رَبيعٍ الأوَّل، إلى بلدِ الجَبَلِ، فوَصلَ إلى الرَّيِّ واستَصحَب معه أرسلان خاتون ابنةَ أَخيهِ، زَوجةَ الخليفةِ، لأنَّها شَكَت إطراحَ الخليفةِ لها، فأَخذَها معه، فمرضَ، فلمَّا كانت ليلةُ الأحدِ الرابع والعشرين من رمضان جاء الخبرُ بأنَّه تُوفِّي في ثامنِ الشهرِ، فثار العَيَّارُون فقَتَلوا وَزيرَ السُّلطانِ عَميدَ المُلْكِ الكندريَّ وسبعمائة من أصحابِه، ونَهَبوا الأموالَ، وجَعَلوا يأكلون ويشربون على القَتْلَى نهارًا، حتى انسلخَ الشهرُ وأُخِذَت البَيْعَةُ بعدَه لِوَلَدِ أخيهِ سُليمان بن داودَ، وكان طُغرلبك قد نَصَّ عليه وأَوصَى إليه، لأنَّه كان قد تَزَوَّج بأُمِّهِ، واتَّفَقَت الكَلمةُ عليه، ولم يبق عليه خَوْفٌ إلَّا مِن جِهَةِ أَخيهِ المَلِكِ عَضُدِ الدَّولةِ ألب أرسلان محمد بن داود، وكان مُدَّةُ مُلْكِ طُغرلبك بحَضرةِ القائمِ بأمرِ الله سبعَ سنين وإحدى عشر شهرًا، واثني عشر يومًا وكان عُمُرُهُ يومَ مات سبعين سنة.
لمَّا خُطِبَ لسُليمانَ بن داودَ بالسَّلْطَنَةِ اختَلفَ الأُمراءُ، فمَضَى باغي سيان وأردم إلى قَزوين، وخَطَبا لأَخيهِ عَضُدِ الدَّولةِ ألب أرسلان محمدِ بن داودَ جغري بك بن ميكائيل بن سلجوق، ابن أخي طُغرلبك وهو حينئذٍ صاحبُ خُراسان، ومعه نِظامُ المُلْكِ وَزيرُه، والناسُ مائِلونَ إليهِ، وكذلك الجَيشُ كانوا يَميلونَ إليهِ، وقد خَطَبَ له أَهلُ الجَبَلِ ومعه نِظامُ المُلْكِ أبو عليٍّ الحَسنُ بن عَلِيِّ بن إسحاقَ وَزيرُه، ولمَّا رأى الكندريُّ قُوَّةَ أَمرِه خَطَبَ له بالرَّيِّ، ثم مِن بَعدِه لأَخيهِ سُليمانَ بنِ داودَ.
لمَّا مَلَكَ ألب أرسلان عَصَى عليه أَميرُ ختلان بِقَلعَتِه، ومَنعَ الخَراجَ، فقَصدَهُ السُّلطانُ، فرأى الحِصْنَ مَنيعًا على شاهقٍ، فأَقامَ عليه وقاتَلَهُ، فلم يَصِل منه إلى مُرادِه، ففي بَعضِ الأيَّامِ باشَرَ ألب أرسلان القِتالَ بِنَفسِه، وتَرَجَّلَ، وصَعَدَ في الجَبلِ، فتَبِعَهُ الخَلْقُ، وتَقدَّموا عليه في المَوقِف، وأَلَحُّوا في الزَّحْفِ والقِتالِ، وكان صاحبُ القَلعَةِ على شُرْفَةٍ من سُورِها يُحَرِّضُ الناسَ على القِتالِ، فأَتتهُ نُشَّابَةٌ من العَسكرِ فقَتَلَتْهُ، وتَسلَّم ألب أرسلان القَلعةَ وصارت في جُملةِ مَمالِكِه، وكان عَمُّهُ فَخْرُ المُلْكِ بيغو بن ميكائيل في هراة، فعَصَى أيضًا عليه، وطَمِعَ في المُلْكِ لِنَفسِه، فسار إليه ألب أرسلان في العَساكِرِ العَظيمةِ، فحَصَرَهُ وضَيَّقَ عليه، وأَدامَ القِتالَ لَيلًا ونَهارًا، فتَسَلَّمَ المَدينةَ، وخَرجَ عَمُّهُ إليه، فأَبقى عليه وأَكرَمَهُ وأَحسَنَ صُحبَتَهُ، وسار من هناك إلى صغانيان، وأَميرُها اسمُه موسى، وكان قد عَصَى عليه، فلمَّا قارَبَهُ ألب أرسلان صَعَدَ موسى إلى قَلعةٍ على رَأسِ جَبلٍ شاهِقٍ، ومعه مِن الرِّجالِ الكُماةِ جَماعةٌ كَثيرةٌ، فوَصَل السُّلطانُ إليه، وباشَر الحَربَ لِوَقتِه، فلم يَنتَصِف النَّهارُ حتى صَعدَ العَسكرُ الجَبلَ، ومَلَكوا القَلعةَ قَهْرًا، وأُخِذَ موسى أَسِيرًا، فأَمَر بِقَتلِه، فبَذَلَ في نَفسِه أَموالًا كَثيرةً، فقال السُّلطانُ: ليس هذا أوانَ تِجارَةٍ. واستَولَى على تلك الوِلايةِ بأَسْرِها، وعاد إلى مرو، ثم منها إلى نيسابور.
سار السُّلطانُ ألب أرسلان من الرَّيِّ إلى أذربيجان، فوَصلَ إلى مرند عازِمًا على قِتالِ الرُّومِ وغَزْوِهِم، فلمَّا فَرَغَ مِن جَمعِ العساكرِ والسُّفُنِ سار إلى بلادِ الكرج، وجَعلَ مَكانَه في عَسكرِه وَلَدَهُ ملكشاه، ونِظامَ المُلْكِ وَزيرَه، فسار ملكشاه ونِظامُ المُلْكِ إلى قَلعةٍ فيها جَمعٌ كَثيرٌ مِن الرُّومِ، فنَزلَ أَهلُها منها، وتَخَطَّفُوا من العَسكرِ، وقَتَلوا منهم فِئَةً كَثيرةً، فنَزلَ نِظامُ المُلْكِ وملكشاه، وقاتَلوا مَن بالقَلعةِ، وزَحَفوا إليهم، فقُتِلَ أَميرُ القَلعةِ ومَلَكَها المُسلِمون، وساروا منها إلى قَلعةِ سرماري، وهي قَلعةٌ فيها من المِياهِ الجاريةِ والبَساتين، فَقاتَلوها ومَلَكوها، وأَنزَلوا منها أَهلَها، وكان بالقُربِ منها قَلعةٌ أُخرى، ففَتَحَها ملكشاه، وأَرادَ تَخريبَها، فنَهاهُ نِظامُ المُلْكِ عن ذلك، وقال: هي ثَغْرٌ للمُسلِمين، وشَحَنَها بالرِّجالِ والذَّخائِر والأَموالِ والسِّلاحِ، وسَلَّمَ هذه القِلاعَ إلى أَميرِ نقجوان، وسار ملكشاه ونِظامُ المُلْكِ إلى مَدينةِ مريم نشين، وهي مَدينةٌ حَصينَةٌ، سُورُها مِن الأَحجارِ الكِبارِ الصَّلْبَةِ، المَشدُودةِ بالرَّصاصِ والحَديدِ، وعندَها نَهْرٌ كَبيرٌ، فأَعَدَّ نِظامُ المُلْكِ لِقِتالِها ما يَحتاجُ إليه من السُّفُنِ وغَيرِها، وقاتَلَها، فضَجِرَ الكُفَّارُ، وأَخذَهم الإعياءُ والكَلالُ، فوَصلَ المسلمون إلى سُورِها، ونَصَبوا عليه السَّلاليمَ، وصَعَدوا إلى أَعلاهُ، فلمَّا رأى أَهلُها المسلمين على السُّورِ فَتَّ ذلك في أَعضادِهِم، وسُقِطَ في أيديهِم، ودَخلَ ملكشاه البلدَ، ونِظامُ المُلْكِ، وأَحرَقوا البِيَعَ، وخَرَّبوها، وقَتَلوا كَثيرًا من أَهلِها، وأَسلمَ كَثيرٌ فنَجَوْا من القَتلِ، واستَدعَى ألب أرسلان إليه ابنَه، ونِظامَ المُلْكِ، وفَرِحَ بما يَسَّرَهُ الله من الفَتحِ على يَدِ وَلَدِه. وفَتَحَ ملكشاه في طَريقِه عِدَّةً من القِلاعِ والحُصونِ، وأَسَرَ من النَّصارَى ما لا يُحصَونَ كَثْرَةً. وساروا إلى سبيذ شهر، فجَرَى بين أَهلِها وبين المسلمين حُروبٌ شَديدةٌ استُشهِدَ فيها كَثيرٌ من المسلمين، ثم إنَّ الله تعالى يَسَّرَ فَتْحَها فمَلَكَها ألب أرسلان، وسار منها إلى مَدينةِ أعآل لآل، وهي حَصينةٌ، عاليةُ الأَسوارِ، شاهِقةُ البُنيانِ، وهي من جِهَةِ الشَّرقِ والغَربِ على جَبلٍ عالٍ، وعلى الجَبلِ عِدَّةٌ من الحُصونِ، ومن الجانِبينِ الآخرينِ نَهْرٌ كَبيرٌ لا يُخاض، فلمَّا رآها المسلمون عَلِموا عَجزَهم عن فَتْحِها والاستيلاءِ عليها، وكان مَلِكُها من الكرج، وعَقَدَ السُّلطانُ جِسْرًا على النَّهْرِ عَريضًا، واشتَدَّ القِتالُ، وعَظُمَ الخَطْبُ، فخَرَجَ من المدينةِ رَجُلانِ يَستَغيثانِ، ويَطلُبانِ الأَمانَ، والتَمَسا من السُّلطانِ أن يُرسِلَ معهما طائفةٌ من العَسكرِ، فسَيَّرَ جَمْعًا صالحًا، فلمَّا جاوَزُوا الفَصِيلَ أَحاطَ بهم الكرجُ من أَهلِ المدينةِ وقاتَلوهُم فأَكثَروا القَتْلَ فيهم، ولم يَتمَكَّن المسلمون من الهَزيمَةِ لِضِيقِ المَسْلَكِ، وخَرجَ الكَرجُ من البَلدِ وقَصَدوا العَسكرَ، واشتَدَّ القِتالُ، وكَبَّرَ المسلمون عليهم، فوَلَّوْا مُنهَزِمينَ، فدخلوا البلدَ والمسلمون معهم، ودَخلَها السُّلطانُ ومَلَكَها، واعتَصمَ جَماعةٌ من أَهلِها في بُرْجٍ من أَبراجِ المدينةِ، فقاتَلهُم المسلمون، فأَمَرَ السُّلطانُ بإلقاءِ الحَطَبِ حَولَ البُرجِ وإحراقِه، ففعل ذلك، وأَحرَق البُرجَ ومَن فيه، وعاد السُّلطانُ إلى خِيامِه، وغَنِمَ المسلمون من المدينةِ ما لا يُحَدُّ ولا يُحصَى، ولمَّا جَنَّ اللَّيلُ عَصَفَت رِيحٌ شَديدةٌ، وكان قد بَقِيَ من تلك النَّارِ التي أَحرَق بها البُرجَ بَقِيَّةٌ كَثيرةٌ، فأَطارَتها الرِّيحُ، فاحتَرقَت المَدينةُ بأَسْرِها، وذلك في رجب، ومَلَكَ السُّلطانُ قَلعةً حَصينةً كانت إلى جانبِ تلك المدينةِ، وأَخذَها، وسار منها إلى ناحيةِ قرس، ومدينة آني وبالقُربِ منها ناحيتان يُقال لهما: سيل ورده، ونورة، فخَرجَ أَهلُهما مُذعِنينَ بالإسلامِ، وخَرَّبوا البِيَعَ، وبَنوا المساجِدَ، وسار منها إلى مَدينةِ آني فوَصلَ إليها فرآها مَدينةً حَصينةً، شَديدةَ الامتِناعِ، لا تُرام، ثلاثةُ أَرباعِها على نَهرِ أرس، والرُّبعُ الآخرُ نَهْرٌ عَميقٌ شَديدُ الجَرْيَةِ، لو طُرِحَت فيه الحِجارةُ الكِبارُ لدَحاها وحَملَها، والطَّريقُ إليها على خَندقٍ عليه سُورٌ من الحِجارةِ الصُّمِّ، فحَصَرَها وضَيَّقَ عليها، إلا أنَّ المسلمين قد أَيِسُوا من فَتْحِها لِمَا رَأَوا من حَصانَتِها، فعَمِلَ السُّلطانُ بُرْجًا من خَشَبٍ، وشَحَنَهُ بالمُقاتِلَةِ، ورَماهُ بالنُّشَّابِ، ونَصَبَ عليه المِنْجَنيقَ، فكَشَفوا الرُّومَ عن السُّورِ، وتَقدَّم المسلمون إليه لِيَنقُبوهُ، فأَتاهُم مِن لُطْفِ الله ما لم يكُن في حِسابِهم، فانهَدَمت قِطعةٌ كَبيرةٌ من السُّورِ بغيرِ سَبَبٍ، فدَخَلوا المدينةَ وقَتَلوا من أَهلِها ما لا يُحصَى بحيث إنَّ كَثيرًا من المسلمين عَجَزوا عن دُخولِ البلدِ من كَثرةِ القَتلى، وأَسَروا نَحوًا مما قَتَلوا، وسارت البُشرَى بهذه الفُتوحِ في البلادِ، فسُرَّ المسلمون، وقُرِئ كِتابُ الفَتْحِ ببغداد في دارِ الخِلافةِ، ورَتَّبَ فيها السُّلطانُ أَميرًا في عَسكرٍ جَرَّارٍ، وعاد عنها، وقد راسَلهُ مَلِكُ الكرجِ في الهُدْنَةِ، فصالَحَهُ على أَداءِ الجِزْيَةِ كلَّ سَنَةٍ، فقَبِلَ ذلك.
قام جيوم دي مونري النورماندي بقِيادَةِ حَملَةٍ بَحرِيَّةٍ نَزلَت بِساحلِ قطلونية ثم سارت إلى الشَّرْقِ حتى وَصلَت إلى مَدينةِ ببشتر جنوب إسبانيا وكانت من أَعمالِ يُوسفَ بن سُليمانَ بن هود فحاصَروها حتى استَسلَمت فدَخَلها وأَمْعَنَ جُنْدُهُ في أَهلِها قَتْلًا ونَهْبًا وسَبْيًا، ولم يُبادِر أَحدٌ من أُمراءِ الطَّوائفِ بِنَجْدَتِه، ثم غادَرَ النورمانديون المدينةَ بعدَ أن تَركوا فيها حامِيةً من خَمسةِ آلافِ رَجُلٍ، حتى قام في السَّنَةِ التاليةِ أحمدُ بن سُليمانَ بن هود باستِنهاضِ هِمَمِ المسلمين وخَلَّصَ المدينةَ من الحامِيَةِ وتَلَقَّبَ بعدَها بالمُقتَدِر بالله.
سَمِعَ ألب أرسلان أن شهابَ الدَّولةِ قُتلمش السلجوقي، قد عَصَى عليه، وجَمعَ جُموعًا كَثيرةً، وقَصدَ الرَّيَّ ليَستَولي عليها، فجَهَّزَ ألب أرسلان جَيشًا عَظيمًا وسَيَّرَهُم على المَفازَةِ إلى الرَّيِّ، فسَبَقوا قُتلمش إليها، وسار ألب أرسلان من نيسابور أَوَّلَ المُحرَّم من هذه السَّنَةِ، فلمَّا وَصلَ إلى دامغان أَرسَل إلى قُتلمش يُنكِر عليه فِعلَه، ويَنهاهُ عن ارتكابِ هذا الحالِ، ويَأمرُه بِتَركِها، فإنَّه يَرعَى له القَرابةَ والرَّحِمَ، فأجابَ قُتلمش جوابَ مُغْتَرٍّ بمَن معه مِن الجُموعِ، ونَهَبَ قُرَى الرَّيِّ، وأَجرَى الماءَ على وادي المِلْحِ، وهي سَبِخَةٌ، فتَعَذَّرَ سُلوكُها، وقَرُبَ السُّلطانُ من قُتلمش، فلَبِسَ المَلِكُ السِّلاحَ، وعَبَّأَ الكتائِبَ، واصطَفَّ العَسكرانِ فقَصدَ قُتلمش المحاجزة، وجَعلَ السَّبِخَة بينه وبين ألب أرسلان لِيَمتَنِعَ من اللِّقاءِ, فسَلكَ ألب أرسلان طَريقًا في الماءِ، وخاضَ غَمْرَتَهُ، وتَبِعَهُ العَسكرُ، فطَلَعَ منه سالِمًا هو وعَسكرُه، فصاروا مع قُتلمش واقتَتَلوا، فلم يَثبُت عَسكرُ قُتلمش لِعَسكرِ السُّلطانِ، وانهَزَموا لِساعَتِهم، ومَضَى مُنهَزِمًا إلى قَلعةِ كردكوه، وهي مِن جُملةِ حُصونِه ومَعاقِلِه، وكَثُرَ القَتلُ والأَسْرُ في عَسكرِه، وأراد السُّلطانُ قَتلَ الأَسْرَى، فشَفَعَ فيهم نِظامُ المُلْكِ فعَفَا عنهم وأَطلقَهم، ولمَّا سَكَنَ الغُبارُ، ونَزلَ العَسكرُ، وُجِدَ قُتلمش مَيِّتًا مُلقًى على الأرضِ لا يُدرَى كيف كان مَوتُه، قيلَ: إنَّه مات من الخَوفِ، والله أَعلمُ، فبَكَى السُّلطانُ لِمَوتِه، وقَعَدَ لِعَزائِه، وعَظُمَ عليه فَقْدُهُ، فسَلَّاهُ نِظامُ المُلْكِ، ودَخلَ ألب أرسلان إلى مدينة الرَّيِّ آخرَ المُحرَّم من السَّنَةِ.
هو الإمامُ الأَوحدُ، البَحرُ، ذو الفُنونِ والمَعارِف، العَلَّامَةُ أبو مُحمدٍ عليُّ بن أحمدَ بن سَعيدِ بن حَزْمِ بن غالبِ بن صالحِ بن خَلَفِ بن معد بن سُفيانَ بن يَزيدَ (مَولى يَزيدَ بن أبي سُفيانَ) الأُمَويُّ الفَقيهُ الحافظُ، المُتَكَلِّمُ، الأَديبُ، الوَزيرُ، الظَّاهريُّ، صاحبُ التَّصانيفِ. أَصلُ جَدِّهِ يَزيدَ من فارس، وهو أَوَّلُ مَن أَسلَم من أَجدادِه، وجَدُّهُ خَلَفٌ أَوَّلُ مَن دَخَلَ بِلادَ المَغرِب من آبائهِ زَمنَ عبدِالرحمن الدَّاخِل، وكانت بَلدُهم قُرطبةَ، ووُلِدَ ابنُ حَزمٍ بها في رمضان، سنة 384هـ، وكان والِدُه من كُبَراءِ أَهلِ قُرطُبة؛ عَمِلَ في الوِزارةِ للدَّولةِ العامِريَّة، فنَشأَ ابنُ حَزمٍ في تَنَعُّمٍ ورَفاهِيَةٍ، ورُزِقَ ذَكاءً مُفرِطًا، وذِهْنًا سَيَّالًا. فقَرأَ القُرآنَ واشتَغَلَ بالعُلومِ النَّافِعَةِ الشَّرعيَّةِ، وبَرَزَ فيها وَفاقَ أَهلَ زَمانِه. كان حافِظًا عالِمًا بعُلومِ الحَديثِ وفِقْهِهِ، مُستَنبِطًا للأَحكامِ من الكِتابِ والسُّنَّةِ بعدَ أن كان شافِعيَّ المَذهبِ، انتَقلَ إلى مَذهبِ أَهلِ الظَّاهرِ، وكان مُتَفَنِّنًا في عُلومٍ جَمَّةٍ، عامِلًا بِعِلمِه، زاهِدًا في الدُّنيا بعدَ الرِّياسَةِ التي كانت له ولأَبيهِ مِن قَبلِه في الوزارةِ وتَدبيرِ المَمالِكِ، مُتواضِعًا ذا فَضائلَ جَمَّةٍ. قال الذَّهبيُّ: "كان قد مَهَرَ أوَّلًا في الأَدبِ والأَخبارِ والشِّعْرِ، وفي المَنطِقِ وأَجزاءِ الفَلسفَةِ، فأَثَّرَت فيه تَأثيرًا لَيْتَهُ سَلِمَ من ذلك، ولقد وَقفتُ له على تَأليفٍ يَحُضُّ فيه على الاعتِناءِ بالمَنطِقِ، ويُقَدِّمُه على العُلومِ، فتَألَّمتُ له، فإنَّه رَأسٌ في عُلومِ الإسلامِ، مُتَبَحِّرٌ في النَّقْلِ، عَديمُ النَّظيرِ على يُبْسٍ فيه، وفَرْطِ ظاهِريَّةٍ في الفُروعِ لا الأُصولِ". وله تَصانيفُ وكُتُبٌ مَشهورةٌ كَثيرةٌ أَهَمُّها ((المُحَلَّى))، و((الفَصلُ في المِلَل والنِّحَل)). ويُقال: إنَّه صَنَّفَ أربعمائةَ مُجَلَّدٍ في قَريبٍ من ثمانين ألف وَرَقَةٍ. وكان أَديبًا طَبيبًا شاعِرًا فَصيحًا، له في الطِبِّ والمَنطِقِ كُتُبٌ، كان مُصاحِبًا للشَيخِ أبي عُمرَ بن عبدِ البَرِّ النمري، ومُناوِئًا للشيخِ أبي الوليدِ سُليمانَ بن خَلفٍ الباجيِّ، وقد جَرَت بينهما مُناظراتٌ كَثيرةٌ، وكان ابنُ حَزمٍ كَثيرَ الوَقيعةِ في العُلماءِ بِلِسانِه وقَلَمِه لا يَكادُ يَسلَمُ أَحَدٌ من لِسانِه من العُلماءِ المُتقَدِّمين والمُتأخِّرين، حتى قيلَ: "كان لِسانُ ابنِ حَزمٍ وسَيفُ الحَجَّاجِ بن يوسفَ شَقِيقَينِ, لكَثرةِ وُقوعِه في الأئمةِ" فنَفَرَت عنه القُلوبُ،، فتَمالَأَ العُلماءُ على بُغضِه ورَدُّوا قَولَه واجمَعوا على تَضليلِه وشَنَّعُوا عليه, وحَذَّروا السَّلاطِينَ من فِتنَتهِ, ونَهوا عَوامَّهُم عن الدُّنُوِّ إليه والأَخذِ منه, فأَورَثَهُ ذلك حِقدًا في قُلوبِ أَهلِ زَمانِه، وما زالوا به حتى بَغَّضوهُ إلى مُلوكِهم، فطَردوهُ عن بلادِه حتى تَشَرَّدَ في الباديةِ ومع ذلك لم يرجِع عن أَقوالِه وأَفعالِه. كان ظاهِريًّا لا يقولُ بشيءٍ من القِياسِ لا الجَلِيِّ ولا غَيرِه، وهذا الذي وَضَعهُ عند العُلماءِ، وأَدخَلَ عليه خَطأً كَبيرًا في نَظَرِه وتَصرُّفِه وكان مع هذا مِن أَشَدِّ الناسِ تَأويلًا في باب الأُصولِ، وآياتِ الصِّفاتِ وأحاديثِ الصِّفاتِ، لأنَّه كان أَوَّلًا قد تَضَلَّع من عِلْمِ المَنطِق، أَخذَهُ عن محمدِ بن الحسنِ المُذحجيِّ الكِناني القُرطُبي، ففَسَدَ بذلك حالُه في بابِ الصِّفاتِ، قال الذَّهبيُّ: "قيلَ: إنَّه تَفَقَّهَ أوَّلًا للشافعيِّ، ثم أَدَّاهُ اجتِهادُه إلى القَوْلِ بنَفْيِ القِياسِ كُلِّهِ جَلِيِّهِ وخَفِيِّهِ، والأَخْذِ بظاهرِ النَّصِّ وعُمومِ الكتابِ والحديثِ، والقَولِ بالبَراءةِ الأصليَّة، واستِصحابِ الحالِ، وصَنَّفَ في ذلك كُتُبًا كَثيرةً، وناظَرَ عليه، وبَسَطَ لِسانَه وقَلَمَه، ولم يَتأَدَّب مع الأئمةِ في الخِطابِ، بل فَجَّجَ العِبارةَ، وسَبَّ وجَدَّعَ، فكان جَزاؤُه من جِنْسِ فِعْلِه، بحيث إنَّه أَعرَض عن تَصانيفِه جَماعةٌ من الأئمةِ، وهَجرُوها، ونَفَروا منها، وأُحرِقَت في وَقتٍ، واعتَنَى بها آخرون من العُلماءِ، وفَتَّشُوها انتِقادًا واستِفادةً، وأَخْذًا ومُؤاخَذةً، ورَأوا فيها الدُّرَّ الثَّمينَ مَمْزوجًا في الرَّصْفِ بالخَرزِ المهينِ، فتارةً يطربون، ومَرَّةً يعجبون، ومِن تَفَرُّدِه يَهزَؤون. وفي الجُملةِ فالكمالُ عَزيزٌ، وكلُّ أَحَدٍ يُؤخذُ من قَولِه ويُتركُ، إلَّا رَسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم, وكان يَنهضُ بِعُلومٍ جَمَّةٍ، ويُجيدُ النَّقْلِ، ويُحسِن النَّظْمَ والنَثْرَ. وفيه دِينٌ وخَيْرٌ، ومَقاصِدُه جَميلةٌ، ومُصنَّفاتُه مُفيدةٌ، وقد زَهِدَ في الرِّئاسَةِ، ولَزِمَ مَنزِلَه مُكِبًّا على العِلْمِ، فلا نَغلُو فيه، ولا نَجفُو عنه، وقد أَثنَى عليه قَبلَنا الكِبارُ. قال أبو حامد الغزالي: "وجدتُ في أَسماءِ الله تعالى كِتابًا أَلَّفَهُ ابنُ حَزمٍ يَدُلُّ على عِظَمِ حِفظِه وسَيَلانِ ذِهْنِهِ". وقال الإمامُ أبو القاسمِ صاعدُ بن أحمدَ: "كان ابنُ حَزمٍ أَجْمَعَ أَهلِ الأندَلُسِ قاطِبةً لِعُلومِ الإسلامِ، وأَوْسَعَهُم مَعرِفَةً مع تَوَسُّعِهِ في عِلْمِ اللِّسانِ، ووُفورِ حَظِّهِ من البَلاغةِ والشِّعْرِ، والمَعرِفَةِ بالسِّيَرِ والأَخبارِ". قال الحافظُ أبو عبدِ الله محمدُ بن فتوح الحُميدي: "ما رأينا مِثلَه فيما اجتَمَع له من الذَّكاءِ وسُرعَةِ الحِفظِ وكَرَمِ النَّفْسِ والتَّدَيُّنِ، وما رأيتُ مَن يقولُ الشِّعْرَ على البَديهةِ أَسرعَ منه". قال أبو القاسمِ صاعدٌ: "كان أَبوهُ مِن وُزَراءِ المَنصورِ محمدِ بن أبي عامرٍ، ثم وَزَرَ للمُظَفَّرِ، ووَزَرَ أبو محمدٍ للمُسْتَظْهِر عبدِ الرحمن بن هشامٍ، ثم نَبَذَ هذه الطَّريقَة، وأَقبلَ على العُلومِ الشَّرعيَّة، وعَنِيَ بِعِلْمِ المَنطِقِ وبَرَعَ فيه، ثم أَعرَض عنه". قُلتُ (الذهبي): "ما أَعرَض عنه حتى زَرَعَ في باطِنِه أُمورًا وانحِرافًا عن السُّنَّةِ". وقد حَطَّ أبو بكر بن العربي على أبي محمدٍ وعلى الظاهريَّةِ في كِتابِ القَواصِم والعَواصِم، فقال: "هي أُمَّةٌ سَخِيفةٌ، تَسَوَّرَت على مَرتَبةٍ ليست لها، وتَكلَّمَت بكَلامٍ لم تفهَمهُ". قلتُ (الذهبي): "لم يُنصِف القاضي أبو بكرٍ شَيْخَ أَبيهِ في العِلْمِ، ولا تَكلَّم فيه بالقِسْطِ، وبالَغَ في الاستِخفافِ به، وأبو بكرٍ فعَلَى عَظَمَتِه في العِلْمِ لا يَبلُغ رُتْبَةَ أبي محمدٍ، ولا يَكادُ، فرَحِمَهُما الله وغَفَرَ لهُما". ثم قال (الذهبي): "وَلِي أنا مَيْلٌ إلى أبي محمدٍ لِمَحَبَّتِهِ في الحَديثِ الصَّحيحِ، ومَعرِفَتِه به، وإن كنتُ لا أُوافِقُه في كَثيرٍ مما يَقولُه في الرِّجالِ والعِلَلِ، والمَسائِلِ البَشِعَةِ في الأُصولِ والفُروعِ، وأَقطعُ بخَطَئِه في غيرِ ما مَسألةٍ، ولكن لا أُكَفِّرُه، ولا أُضَلِّلُه، وأرجو له العَفْوَ والمُسامَحةَ وللمسلمين. وأَخضَعُ لِفَرْطِ ذَكائِه وسِعَةِ عُلومِه، ورَأيتُه قد ذَكَرَ – أي ابن حزم- قولَ مَن يقول: أَجَلُّ المُصنَّفاتِ (المُوطَّأ). فقال: بل أولى الكُتُبِ بالتَّعظيمِ (صَحيحا) البُخاريِّ ومُسلمٍ" وكانت وَفاتُه شَريدًا في البادِيَةِ بعدَ أن أَقْصَتْهُ المُلوكُ وشَرَّدَتْهُ عن بِلادِه حتى انتهى إلى بادِيَةِ لبلة فتُوفِّي بها آخرَ نهارِ الأحدِ للَيلتينِ بَقِيَتا من شعبان، وقيلَ: إنَّه تُوفِّي في منت ليشم، وهي قَريةٌ له، وقد جاوَزَ التِّسعين.
الوَزيرُ عَميدُ المُلْكِ، أبو نَصرٍ محمدُ بن منصورِ بن محمدٍ الكندريُّ، وَزيرُ السُّلطانِ طُغرلبك. كان أَحَدَ رِجالِ الدَّهرِ شَهامةً وكتابةً وكَرَمًا. وُلِدَ سنة 415هـ بقَريةِ كندر في نيسابور. تَفَقَّهَ لأبي حنيفةَ، وتَأَدَّبَ، ثم صَحِبَ رَئيسًا بنيسابور، فاستَخدَمهُ في ضِياعِه، ثم استَنابَهُ عنه في خِدمَةِ السُّلطانِ طُغرلبك، فطَلَبَه منه، فوَصَل في خِدمَتِه، وصار صاحِبَ خِبْرَةٍ. ثم وَلَّاهُ خوارزم، وعَظُمَ جاهُهُ. وعَصَى بخوارزم، ثم ظَفَرَ به السُّلطانُ، ونَقَمَ عليه أنَّه تَزَوَّج امرأةَ مَلِكِ خوارزم فخَصاهُ, ثم رَقَّ له فدَاوَاهُ وعُوفِيَ, واستَوْزَرهُ وله إحدى وثلاثون سنةً, فقَدِمَ بغداد، وأقامَ بها مُدَّةً، ولَقَّبَهُ الخليفةُ بسَيِّدِ الوُزراءِ, ونالَ من الجاهِ والحُرْمَةِ ما لم يَنَلْهُ أَحَدٌ. قال الذهبيُّ: "كان كَريمًا جَوادًا، مُتَعَصِّبًا لِمَذهَبِه، مُعتَزِليًّا، مُتكَلِّمًا له النَّظْمُ والنَّثْرُ". قال ابنُ الأثيرِ: "كان شديدَ التَّعَصُّبِ على الشافعيَّةِ، كَثيرَ الوَقيعَةِ في الشافعيِّ رضي الله عنه، بَلَغَ مِن تَعَصُّبِه أنه خاطَبَ السُّلطانِ في لَعْنِ الرَّافِضَةِ على مَنابر خُراسان، فأَذِنَ في ذلك، فأَمَرَ بِلَعْنِهِم، وأَضافَ إليهم الأَشعريَّة، فأَنِفَ من ذلك أَئمَّةُ خُراسان، منهم الإمام أبو القاسم القشيري، والإمام أبو المعالي الجويني، وغيرُهما، ففارقوا خُراسان، وأقامَ إمامُ الحَرمينِ بمَكَّةَ أربعَ سنين إلى أن انقَضَت دَولتُه، فلما جاء الوزيرُ نِظامُ المُلكِ، أَحضرَ مَن انتَزحَ منهم وأَكرَمَهم، وأَحسنَ إليهم, وقيلَ: إن الكندريَّ تابَ مِن الوَقيعةِ في الشافعيِّ، فإن صَحَّ فقد أَفلحَ، وإلَّا فَعَلَى نَفسِها براقش تَجنِي" في هذه السَّنَةِ قَبَضَ عليه ألب أرسلان، وسَجنَهُ ببَيتِه ثم أرسل إليه مَن قَتَلهُ. قُتِلَ بمروالروذ في ذي الحجَّةِ. وكان قد قُطِعَت مَذاكِرُه ودُفِنَت بخوارزم، فلمَّا قُتِلَ حُمِلَ رَأسُه إلى نيسابور. ولهذا قال ابنُ الأثير: "ومِن العَجَبِ أن ذَكَرَهُ دُفِنَ بخوارزم لمَّا خُصِيَ، ودَمُهُ مَسفوحٌ بمرو، وجَسَدُه مَدفونٌ بكندر، ورَأسُه مَدفونٌ بنيسابور، فاعتَبِروا يا أولي الأبصار".
كانت حَرْبٌ بين الناصرِ بن علناس بن حمَّادٍ ومَن معه مِن رِجالِ المَغارِبَةِ مِن صنهاجة ومِن زناتة ومِن العَربِ: عَدِيّ والأَثبَج، وبين رِياحٍ، وزُغْبَة، وسُلَيم، ومع هؤلاء المُعِزُّ بن زيري الزناتي، على مَدينةِ سَبتَة، ولمَّا رَحلَ المُعِزُّ من القيروان وصبرة إلى المَهدِيَّة تَمكَّنَت العَربُ، ونَهبَت النَّاسَ، وخَرَّبَت البِلادَ، فانتَقلَ كَثيرٌ مِن أَهلِها إلى بِلادِ بني حمَّاد لِكَونِها جِبالًا وَعْرَةً يُمكِن الامتِناعُ بها من العَربِ، فعُمِّرَت بِلادُهم، وكَثُرَت أَموالُهم، وفي نُفوسِهم الضَّغائِنُ والحُقودُ مِن باديس، ومَن بَعدَه مِن أَولادِهم، يَرِثُه صَغيرٌ عن كَبيرٍ، ووَلِيَ تَميمُ بنُ المُعِزِّ بعدَ أَبيهِ، فاستَبدَّ كلُّ مَن هو ببَلدٍ وقَلعةٍ بمَكانِه، وتَميمٌ صابرٌ يُدارِي ويَتَجَلَّد، واتَّصلَ بتَميمٍ أن الناصرَ بنَ علناس يَقَعُ فيه في مَجلسِه ويَذُمُّهُ، وأنَّه عَزَمَ على المَسيرِ إليه لِيُحاصِرَهُ بالمَهديَّة. وأنَّه قد حالَفَ بعضَ صنهاجة، وزناتة، وبني هلال؛ لِيُعينُوهُ على حِصارِ المَهديَّة. فلمَّا صَحَّ ذلك عنده أَرسلَ إلى أُمراءِ بني رِياحٍ، فحينئذٍ رَحلَت رِياحٌ وزناتة جَميعُها، وسار إليهم الناصرُ بصنهاجة، وزناتة، وبني هلال، فالتَقَت العَساكرُ بمَدينةِ سَبْتَة، فحَمَلَت رِياحٌ على بني هِلالٍ، وحَمَلَ ابنُ المُعِزِّ على زناتة، فانهَزَمت الطائفتانِ، وتَبِعَهُم عَساكرُ الناصرِ مُنهزِمينَ، ووَقعَ فيهم القَتْلُ، فقُتِلَ فيمَن قُتِلَ القاسمُ بن علناس، أخو الناصرِ في نَفَرٍ يَسيرٍ، وغَنِمَت العَرَبُ جَميعَ ما كان في العَسكرِ مِن مالٍ وسِلاحٍ ودَوابٍّ وغيرِ ذلك، فاقتَسموها على ما استَقرَّ بينهم، وبهذهِ الوَقعَةِ تَمَّ للعَربِ مُلْكُ البِلادِ، وأَرسَلوا الأَلوِيَةَ والطُّبولَ وخِيَمَ النَّاصرِ بِدَوابِّها إلى تَميمٍ، فرَدَّها وقال: يَقْبُحُ بي أن آخُذَ سَلَبَ ابنِ عَمِّي! فأَرْضَى العَربَ بذلك.
في يومِ عاشُوراءَ أَغلَقَ الشِّيعةُ مِن أَهلِ الكَرخِ دَكاكِينَهم، وأَحضَرُوا نِساءً يَنُحْنَ على الحُسينِ، كما جَرَت به بِدعَتُهم، فحين وَقعَ ذلك أَنكرَتهُ العامَّةُ، وطَلبَ الخَليفةُ أبا الغَنائمِ ابن المحلبان وأَنكرَ عليه ذلك، فاعتَذرَ إليه بأنَّه لم يَعلَم به، وأنَّه حين عَلِمَ أَزالَهُ، وتَردَّدَ أَهلُ الكرخِ إلى الديوانِ يَعتَذِرون من ذلك، وخَرجَ التَّوقيعُ بِكُفْرِ مَن سَبَّ الصَّحابةَ وأَظهرَ البِدَعَ.
حَدثَ بخُراسان زَلزلةٌ مَكثَت أيَّامًا، تَصدَّعَت منها الجِبالُ، وهَلكَ جَماعةٌ، وخُسِفَ بعِدَّةِ قُرى، وخَرجَ الناسُ إلى الصحراءِ وأقاموا هنالك، ووَقعَ حَريقٌ بنهر معلى فاحتَرقَ مائةُ دُكَّانٍ وثلاثةُ دُورٍ، وذهبَ للناس شيءٌ كَثيرٌ، ونَهبَ بَعضُهم بَعضًا.
سار ألب أرسلان من مرو إلى رايكان، فنَزلَ بظاهِرِها، ومعهُ جَماعةُ أُمراءِ دَولتِه، فأَخَذَ عليهم العُهودَ والمَواثِيقَ لِوَلَدِهِ ملكشاه بأنَّه السُّلطانُ بعدَه، وأَركبَه، ومشى بين يَديهِ يَحمِلُ الغاشيةَ، وخَلعَ السُّلطانُ على جَميعِ الأُمراءِ، وأَمرَهُم بالخُطبةِ له في جميعِ البلادِ التي يَحكُم عليها، ففعل ذلك، وأَقطَع البِلادَ، فأَقطَع مازندران للأَميرِ إينانج بيغو، وبلخ لأخيه سُليمان بن داود جغري بك، وخوارزم لأخيه أرسلان أرغو، ومرو لابنِه الآخر أرسلان شاه، وصغانيان وطخارستان لأخيه إلياس، ووِلايةَ بغشور ونواحيها لِمَسعودِ بن أرتاش، وهو من أَقاربِ السُّلطانِ، ووِلايةَ أسفرار لِمَوْدُودِ بن أرتاش.
سَيَّرَ تَميمٌ، صاحبُ إفريقية، عَسكرًا كَثيفًا إلى مَدينةِ قابس، وبها أحمدُ بن خُراسان قد أَظهرَ عليه الخِلافُ، وسَببُ ذلك أنَّ المُعِزَّ بن باديس، أبا تَميمٍ، لمَّا فارَقَ القَيروانَ والمَنصوريَّةَ ورَحلَ إلى المَهديَّة، استَخلفَ على القَيروان وعلى قابس قائدَ بنَ مَيمونٍ الصنهاجيَّ، وأَقامَ بها ثلاثَ سنين، ثم غَلبَتهُ هوارةُ عليها، فسَلَّمَها إليهم وخَرجَ إلى المَهدِيَّة، فلمَّا وَلِيَ المُلْكَ تَميمُ بن المُعِزِّ بعدَ أَبيهِ رَدَّهُ إلى قائدِ بنِ ميمونٍ، وأَقامَ عليها، ثم أَظهرَ الخِلافُ على تَميمٍ والْتَجأَ إلى طَاعةِ الناصرِ بن علناس بن حمَّادٍ، فسَيَّرَ إليه تَميمٌ عَسكرًا كَثيرًا، فلمَّا سَمِعَ بهم قائدُ بن مَيمونٍ عَلِمَ أنَّه لا طَاقةَ له بهم، فتَركَ القَيروانَ وسار إلى الناصرِ، فدَخلَ عَسكرُ تَميمٍ القَيروانَ، وخَرَّبوا دُورَ قائدٍ، وسار العَسكرُ إلى قابس، وبها ابنُ خُراسان، فحَصَروهُ بها سَنةً وشَهرينِ، ثم أَطاعَ ابنُ خُراسان تَميمًا وصالَحهُ.
هو إمامُ اللُّغةِ، أبو الحُسينِ عَلِيُّ بن إسماعيلَ المرسي نِسبةً إلى مَدينةِ مرسية في شَرقِ الأَندَلُس المُعروفُ بابنِ سِيدَه، وأَحَدُ مَن يُضرَب بِذَكائِه المَثَلُ. كان إمامًا حافِظًا في اللُّغةِ، وكان ضَريرَ البَصَرِ، أَخذَ عِلمَ العَربيَّةِ واللُّغةِ عن أَبيهِ، وكان أَبوهُ ضَريرًا أَيضًا، واشتَغلَ على أبي العَلاءِ صاعدٍ البغداديِّ، وله ((المُحكَم في لِسانِ العَربِ)) في مُجلَّداتٍ عَديدةٍ، وله ((شَرحُ الحَماسَةِ)) في سِتِّ مُجلَّداتٍ، وغيرُ ذلك، وقَرأَ على الشيخِ أبي عُمَرَ الطلمنكي كِتابَ ((الغريب)) لأبي عُبيدٍ سَرَدَها مِن حِفظِه، قال الطلمنكي: "دَخلتُ مرسية فتَشَبَّثَ بي أَهلُها يَسمَعون عَلَيَّ "غَريب المُصَنَّف" فقلتُ لهم: انظُروا لي مَن يَقرأُ لكم وأُمسِكُ أنا كِتابي، فأَتوني برَجُلٍ أَعمَى يُعرَف بابنِ سِيدَه، فقَرأهُ عَليَّ مِن أَوَّلِه إلى آخرِهِ، فتَعجَّبتُ مِن حِفظِه". وكان الشيخُ يُقابِل بما يَقرأُ في الكِتابِ، فسَمِعَ الناسُ بقِراءتِه مِن حِفظِه، فتَعجَّب الناسُ لذلك، وكان له في الشِّعْرِ حَظٌّ وتَصَرُّفٌ. قال اليسعُ بنُ حزمٍ: "كان ابنُ سِيدَه شُعوبِيًّا يُفضِّل العَجَمَ على العَربِ". قال الذهبيُّ: "وحَطَّ عليه السّهيليُّ في ((الرَّوْض الأَنِف)) فقال: "تَعَثَّر في ((المُحكَم)) وغَيرِه عَثراتٍ يَدْمَى منها الأَظَلّ، ويَدْحَضُ دَحَضاتٍ تُخرِجُه إلى سَبيلِ مَن ضَلّ، حتى إنَّه قال في الجِمارِ: هي التي تُرمَى بِعَرفَة. قلتُ (الذَّهبيُّ): هو حُجَّةٌ في نَقلِ اللُّغةِ، وله كِتابُ ((العالم في اللُّغةِ)) نحو مائة سِفْرٍ، بَدأَ بالفَلَكِ، وخَتَمَ بالذَّرَّةِ" تُوفِّي وله سِتُّونَ سَنَةً ولم يَتَيَسَّر له الحَجُّ.
هو العَلَّامةُ، الثَّبْتُ، الفَقيهُ، شَيخُ الإسلامِ، أبو بكرٍ أَحمدُ بنُ الحُسينِ بن عَلِيِّ بن عبدِ اللهِ بن موسى البَيهقيُّ، الخسرو جردي الشافعيُّ الخُرسانيُّ الحافظُ الكَبيرُ المَشهورُ، المُحَدِّثُ الأُصوليُّ. وُلِدَ سَنةَ 384هـ. أَخَذَ الفِقهَ عن أبي الفَتحِ المروزيِّ، ثم غَلَبَ عليه الحَديثُ، واشتَهرَ به، وهو أوَّلُ مَن جَمعَ نُصوصَ الإمامِ الشافعيِّ في عَشرِ مُجلَّداتٍ. قال إمامُ الحَرمينِ في حَقِّهِ: "ما من شافعيِّ المَذهبِ إلَّا وللشافعيُّ عليه مِنَّةٌ، إلَّا أحمدَ البيهقيَّ فإنَّ له على الشافعيِّ مِنَّةً، وكان مِن أَكثرِ الناسِ نَصرًا لِمَذهبِ الشافعيِّ". كان له التَّصانيفُ التي سارَت بها الرُّكبانُ إلى سائرِ الأمصارِ، أَخذَ العِلمَ عن الحاكمِ أبي عبدِ الله النيسابوري، وسَمِعَ على غَيرِه شيئًا كَثيرًا، وجَمعَ أَشياء كَثيرةً نافعةً، لم يُسبَق إلى مِثلِها، ولا يُدرَك فيها، منها كتاب: ((السُّنَن الكبير))، و((السُّنَن الصغير))، و((مَعرِفَة السُّنَن والآثار))، و((المَدْخَل))، و((الآداب)) و((شُعَب الإيمان))، و((الخِلافِيَّات))، و((دَلائِل النُّبُوَّة))، و((البَعْث والنُّشُور))، وغيرُ ذلك من المُصَنَّفاتِ الكِبارِ والصِّغارِ المُفيدَةِ، وكان زاهدًا مُتقَلِّلًا من الدُّنيا، كَثيرَ العِبادَةِ والوَرَعِ. قال الحافظُ عبدُ الغافِر بن إسماعيل: "كان البيهقيُّ على سِيرَةِ العُلماءِ، قانِعًا باليَسيرِ، مُتجَمِّلًا في زُهدِهِ ووَرَعِه, الفَقيهَ، الحافظَ الأُصوليَّ، الدَّيِّنَ الوَرِعَ، واحدَ زَمانِه في الحِفْظِ، وفَرْدَ أَقرانِه في الإتقانِ والضَّبْطِ، مِن كِبارِ أَصحابِ الحاكمِ، ويَزيدُ على الحاكمِ بأَنواعٍ مِن العُلومِ، كَتَبَ الحَديثَ، وحَفِظَهُ مِن صِباهُ، وتَفَقَّه وبَرَعَ، وأَخَذَ فَنَّ الأُصُولِ، وارتَحَلَ إلى العراقِ والجبالِ والحِجازِ، ثم صَنَّفَ، وتَواليفُه تُقارب ألفَ جُزءٍ مما لم يَسبِقهُ إليه أَحدٌ، جَمَعَ بين عَلْمِ الحديثِ والفِقْهِ، وبَيانِ عِلَلِ الحَديثِ، ووَجْهِ الجَمْعِ بين الأحاديثِ، طَلبَ منه الأئمَّةُ الانتقالِ من بَيهَق إلى نيسابور، لِسَماعِ الكُتُبِ، فأتى في سَنةِ 441هـ، وعَقَدوا له المَجلِسَ لِسَماعِ كِتابِ ((المعرفة)) وحَضَرهُ الأئمَّة" تُوفِّي بنيسابور، ونُقِلَ تابوتُه إلى بَيهَق.
هو الإمامُ، العلامةُ، شَيخُ الحنابلةِ، القاضي، أبو يَعلى محمدُ بن الحُسينِ بن محمدِ بن خَلَفِ بن أحمدَ البغداديُّ، الحَنبليُّ، ابنُ الفَرَّاءِ، وُلِدَ في مُحرَّم سنةَ 380هـ، صاحبُ التَّعليقَةِ الكُبرى، والتَّصانيفِ المُفيدةِ في المَذهَبِ, ومُمَهِّدُ مَذْهَبِهم في الفُروعِ، أَفْتَى ودَرسَ، وتَخَرَّجَ به الأصحابُ، وانتهت إليه الإمامةُ في الفِقْهِ، وكان عالِمَ العراقِ في زَمانهِ، مع مَعرفةٍ بعُلومِ القُرآنِ وتَفسيرِه، والنَّظَرِ والأُصولِ، وكان أبوه مِن أَعيانِ الحَنفيَّة، مات ولأبي يَعلَى عَشرةُ أَعوامٍ، فلَقَّنَهُ مُقرِئُه العِباداتِ مِن (مُختَصَر) الخِرَقِي، فلَذَّ له الفِقْهُ، وتَحوَّل إلى حَلَقَةِ أبي عبدِالله بن حامدٍ البغداديِّ الوَرَّاق، شَيخِ الحنابلةِ، فصَحِبَهُ أَعوامًا، وبَرعَ في الفِقهِ عنده، وتَصدَّر بأَمرِه للإفادةِ سنةَ 402هـ، قال ابنُ الجوزي: "كان مِن ساداتِ العُلماءِ الثِّقاتِ، وشَهِدَ عند ابنِ ماكولا وابنِ الدَّامغاني فقَبِلَاهُ، وتَوَلَّى النَّظَرَ في الحُكمِ بِحَريمِ الخِلافةِ، وكان إمامًا في الفِقْهِ، له التَّصانيفُ الحِسانُ الكَثيرةُ في مَذهَبِ أحمد، ودَرَّسَ وأَفتَى سِنينَ، وانتهت إليه رِياسةُ المَذهبِ، وانتشرت تَصانيفُه وأَصحابُه، وجَمعَ الإمامةَ والفِقهَ والصِّدقَ، وحُسْنَ الخُلُقِ، والتَّعَبُّدَ والتَّقَشُّفَ والخُشوعَ، وحُسْنَ السَّمْتِ، والصَّمْتَ عمَّا لا يَعْنِي. اتَّهَمَهُ بعضُهم بالتَّجسيمِ بسَببِ كِتابهِ ((الصِّفات))، وله مِن المُصنَّفاتِ: ((الأحكام السُّلطانِيَّة)) و((الكِفاية في أُصولِ الفِقهِ)). قال الذهبيُّ: "وَلِيَ أبو يَعلَى القَضاءَ بدارِ الخِلافةِ والحَريمِ، مع قَضاءِ حران وحلوان، وقد تَلَا بالقِراءاتِ العَشْرِ، وكان ذا عِبادةٍ وتَهَجُّدٍ، ومُلازَمَةٍ للتَّصنيفِ، مع الجَلالَةِ والمَهابَةِ، ولم تكن له يَدٌ طُولَى في مَعرفةِ الحَديثِ، فرُبَّما احتَجَّ بالواهي". تُوفِّي في العشرين من رمضان عن ثَمانٍ وسبعين سَنةً، "واجتَمَع في جَنازَتهِ القُضاةُ والأَعيانُ، وكان يومًا حارًّا، فأَفطَرَ بعضُ مَن اتَّبَعَ جَنازَتَه"
عَصَى مَلِكُ كرمان، وهو "قرا أرسلان"، على السُّلطانِ ألب أرسلان، وسببُ ذلك أنَّه كان له وَزيرٌ جاهلٌ سَوَّلَت له نَفسُه الاستِبدادَ بالبِلادِ عن السُّلطانِ، وأن صاحِبَه إذا عَصَى احتاجَ إلى التَّمَسُّكِ به، فحَسُنَ لصاحِبِه الخِلافُ على السُّلطانِ، فأجابَ إلى ذلك، وخَلعَ الطَّاعةَ، وقَطعَ الخُطبةَ، فسَمِعَ ألبُ أرسلان، فسارَ إلى كرمان، فلمَّا قارَبَها وَقعَت طَليعَتُه على طَليعَةِ قرا أرسلان، فانهزمت طَليعَةُ قرا أرسلان بعدَ قِتالٍ، فلمَّا سَمِعَ قرا أرسلان وعَسكرُه بانهِزامِ طَليعَتِهم، خافوا وتَحَيَّرُوا، فانهَزَموا لا يَلوِي أَحدٌ على آخر، فدَخلَ قرا أرسلان إلى جيرفت وامتَنعَ بها، وأَرسلَ إلى السُّلطانِ ألب أرسلان يُظهِر الطَّاعةَ ويَسألُ العَفْوَ عن زَلَّتِه، فعَفَا عنه، وأَعادهُ إلى مَملَكتِه، ولم يُغَيِّر عليه شيئًا مِن حالِه، ثم سار منها إلى فارس فوَصلَ إلى إصطخر، وفَتحَ قَلعتَها، واستَنزلَ وَالِيَهَا، فحَملَ إليه الوالي هَدايا عَظيمةً جَليلةَ المِقدارِ، وأَطاعهُ جَميعُ حُصونِ فارس، وبَقِيَت قَلعةٌ يُقالُ لها: بهنزاد، فسار نِظامُ المُلْكِ إليها، وحَصرَها تحتَ جَبلِها، وأعطى كُلَّ مَن رَمَى بسَهمٍ وأصابَ قَبضةً مِن الدَّنانيرِ، ومَن رَمَى حَجرًا ثَوْبًا نَفيسًا، ففَتحَ القَلعةَ في اليومِ السادس عشر مِن نُزولِه، ووَصلَ السُّلطانُ إليه بعدَ الفَتحِ، فعَظُمَ مَحَلُّ نِظامِ المُلْكِ عِندَه، فأَعلَى مَنزِلَتَهُ، وزادَ في تَحكِيمِه.
كان الشُّروعُ ببِناءِ المَدرسَةِ النِّظامِيَّة نِسبةً إلى الوَزيرِ نِظامِ المُلْكِ، وَزيرِ ملكشاه في مَدينةِ بغداد، في ذي الحجَّةِ من عام 457هـ ونُقِضَ لأَجلِها دُورٌ كَثيرةٌ مِن مَشرعَةِ الزَّوايا وبابِ البَصرةِ، ثم في ذي القَعدةِ من سَنةِ 459هـ، فَرغَت عِمارةُ المَدرسَةِ النِّظامِيَّة، وتَقرَّر التَّدريسُ بها للشيخِ أبي إسحاقَ الشِّيرازيِّ الشافعيِّ، فجَمعَ العَميدُ أبو سعدٍ القاضي الناسَ على طَبقاتِهم إلى المَدرسةِ، وجَعَلَها بِرَسْمِ أبي إسحاقَ الشيرازيِّ الفيروزآبادي، صاحبِ كِتابِ ((التَّنْبيهُ)) في الفِقهِ على مَذهبِ الإمامِ الشافعيِّ بعدَ أن وَافَقَهُ على ذلك، فلمَّا كان يومُ اجتِماعِ الناسِ فيها وتَوقَّعوا مَجيءَ أبي إسحاقَ فلم يَحضُر، فطُلِبَ فلم يَظهَر، وكان السببُ أن شابًّا لَقِيَه فقال: يا سيدنا، تُريدُ تُدَرِّسُ في المدرسةِ؟ فقال: نعم. فقال: وكيف تُدَرِّسُ في مَكانٍ مَغصُوبٍ؟ فغَيَّرَ نِيَّتَه فلم يَحضُر، فلمَّا ارتَفعَ النَّهارُ، وأَيِسَ الناسُ مِن حُضورِه، أشارَ الشيخُ أبو منصورِ بن يُوسُف بأبي نَصرِ بن الصَّبَّاغِ، صاحبِ كتابِ ((الشامل))، وقال: لا يجوزُ أن يَنفَصِلَ هذا الجَمْعُ إلَّا عن مُدَرِّسٍ، ولم يَبقَ ببغداد مَن لم يَحضُر غيرَ الوَزيرِ، فجلسَ أبو نَصرٍ للدَّرْسِ، ثم ظَهرَ الشيخُ أبو إسحاقَ بعدَ ذلك، ولمَّا بَلغَ نِظامَ المُلْكِ الخَبَرُ أَقامَ القِيامةَ على العَميدِ أبي سعدٍ، ولم يَزَل يُرفِق بالشيخِ أبي إسحاقَ حتى دَرَّسَ بالمدرسةِ، وكانت مُدَّةُ تَدريسِ ابنِ الصَّبَّاغِ عشرين يومًا فقط. أَجرَى نِظامُ المُلْكِ للمُتَفَقِّهَةِ لِكلِّ واحدٍ أَربعةَ أَرطالِ خُبزٍ كلَّ يَومٍ, وقد أَشارَ ابنُ الجوزيِّ الى وَقْفِ هذه المدرسة ومُسْتَحِقِّيهِ بقَولِه: "هذه المَدرسةُ وسُقوفُها المَوقُوفُ عليها، وفي كِتابِ شَرْطِها أنَّها وُقِفَت على أَصحابِ الشافعيِّ أَصلًا، وكذلك الأَملاكُ المَوقوفةُ عليها شَرطٌ فيها أن تكونَ على أَصحابِ الشافعيِّ أَصلًا، وكذلك شَرْطٌ في المُدَرِّسِ الذي يكون فيها، والواعِظِ الذي يَعِظُ فيها ومُتَوَلِّي الكُتُبِ, وشَرْطٌ أن يكونَ فيها مُقرئٌ يَقرأُ القُرآنَ، ونَحْوِيٌّ يُدَرِّس العَربيَّةَ، وفُرِضَ لِكلٍّ قِسْطٌ مِن الوَقْفِ" ووَصفَها المَقرِيزيُّ بقَولِه: "أَشهَرُ ما بُنِيَ في القَديمِ المَدرسةُ النِّظامِيَّة ببغداد، لأنَّها أوَّلُ مَدرسةٍ قُرِّرَ بها للفُقهاءِ مَعاليمُ – أي مِقدار مِن المالِ-"
هو شَيخُ الشِّيعةِ، وصاحِبُ التَّصانيفِ، أبو جَعفرٍ محمدُ بن الحسنِ بن عليٍّ الطُّوسيُّ، فَقيهُ الإِمامِيَّة وعالِمُهُم، انتَقلَ مِن خُراسان إلى بغداد وأقامَ فيها أربعين سَنةً، تَفَقَّهَ فيها أوَّلًا للشافعيِّ, ثم أَخذَ الكلامَ وأُصولَ الشِّيعةِ عن الشيخِ المُفيدِ رَأسِ الإماميَّةِ ولَزِمَهُ حتى تَحوَّل رافِضِيًّا، وعَمِلَ التَّفسيرَ، وأَملَى أحاديثَ ونَوادِرَ في مُجلَّدينِ، عامَّتُها عن شَيخِه المُفيدِ، ثم رَحلَ إلى النَّجفِ واستَقرَّ بها حتى تُوفِّي فيها، أُحرِقَت كُتبُه عِدَّةَ مَرَّاتٍ، له مِن التَّصانيفِ ((البيان الجامع لعلوم القرآن))، و((الاستبصار فيما اختُلِفَ فيه من الأخبار))، و((الاقتصاد في الاعتقاد))، وله أمالي وغيرُ ذلك، قال الذهبيُّ: "أَعرضَ عنه الحُفَّاظُ لِبِدعَتِه، وقد أُحرِقَت كُتبُه عِدَّةَ نُوَبٍ في رَحْبَةِ جامعِ القَصْرِ، واستَتَر لمَّا ظَهَرَ عنه مِن التَّنَقُّصِ بالسَّلَفِ، وكان يَسكُن بالكرخِ، مَحَلَّةِ الرَّافِضَةِ، ثم تَحوَّل إلى الكوفةِ، وأقامَ بالمَشهَدِ يُفَقِّهُهم, وكان يُعَدُّ مِن الأذكياءِ لا الأزكياءِ" تُوفِّي بمَشهدِ عليِّ بن أبي طالبٍ ودُفِنَ فيهِ، عن 75 عامًا.
كانت زَلزلةٌ بأَرضِ فِلسطينَ، أَهلكَت بَلدَ الرَّملةِ، ورَمَت شَراريفَ -الشراريف ما يُوضَع في أَعلى البناء يحلَّى به- من مَسجدِ رَسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، ولَحِقَت وادي الصَّفْرَ وخَيبرَ، وانشَقَّت الأرضُ عن كُنوزٍ كَثيرةٍ مِن المالِ، وبَلغَ حِسُّها إلى الرَّحبةِ والكوفةِ، وجاء كِتابُ بَعضِ التُّجَّارِ فيه ذِكْرُ هذه الزَّلزلةِ، وذَكرَ فيه أنَّها خَسفَت الرَّملةَ جَميعًا حتى لم يَسلَم منها إلا داران فقط، وهَلكَ منها خمس عشرة ألف نَسَمةٍ، وغارَ البحرُ مَسيرةَ يَومٍ، وساخَ في الأرضِ وظَهرَ في مَكانِ الماءِ أشياءُ مِن جواهرَ وغَيرِها، ودَخلَ الناسُ في أَرضهِ يَلتَقِطُونَه، فرَجعَ عليهم فأَهلكَ كَثيرًا منهم.