في مستهَلِّ ذي الحجَّة ركبَ الشيخ تقي الدين ابن تيمية ومعه جماعةٌ من أصحابه إلى جبل الجرد والكسروانيين ومعه نقيبُ الأشراف زين الدين بن عدنان، فاستتابوا خلقًا من الرافضة والدروز وألزَموهم بشرائِعِ الإسلامِ، ورجع مُؤيَّدًا منصورًا.
أخَّر متمَلِّكُ سيس الحملَ الجاريَ به العادة، فبعث إليه نائِبُ حلب أستاداره قشتمر الشمسي أحدَ مقدَّمي حلب على عسكرٍ نحو الألفين، وفيهم الأميرُ شمس الدين أقسنقر الفارسي والأميرُ فتح الدين صبرة المهمندار- الذي يتلقَّى الرسُلَ والمبعوثين- والأمير قشتمر النجيبي، وقشتمر المظفري، فشنوا الغاراتِ على بلاد سيس، ونهبوا وحَرَّقوا كثيرًا من الضياع، وسَبَوا النساءَ والأطفال في المحَرَّم، وكان قد وصل إلى سيس طائفةٌ من التتار في طلب المال، فركِبَ التتار مع صاحِبِ سيس، وملَكوا رأس الدربند، فركب العسكرُ لقتالهم وقد انحصروا، فرمى التتارُ عليهم بالنشاب والأرمن بالحجارة، فقُتِلَ جماعةٌ وأُسِرَ من الأمراءِ ابن صبرة، وقشتمر النجيبي، وقشتمر المظفري، في آخرينَ مِن أهل حلب، وخَلُصَ قشتمر مُقَدَّم العسكر، وآقسنقر الفارسي، وتوجَّه التتار بالأسرى إلى خربندا بالأردن، فرسم عليهم, وبلَغَ نائبَ حلب خبَرُ الكسرة، فكتب بذلك إلى السلطانِ الناصر والأمراء، فرسم بخروجِ الأمير بكتاش أمير سلاح، وبيبرس الدوادار وأقوش الموصلي فتال السبع، والدكن السلاح دار، فساروا من القاهرة في نصف شعبان على أربعة آلاف فارس، فبعث متمَلِّك سيس الحمل، واعتذر بأنَّ القتالَ لم يكن منه وإنما كان من التتر، ووعده بالتحَيُّل في إحضار الأمراء المأسورين، فرجع الأميرُ بكتاش بمن معه من غَزَّة.
خرج نائِبُ السلطنة بمن بقي من الجيوشِ الشاميَّة، وقد كان تقَدَّمَ بين يديه طائفةٌ من الجيش مع ابن تيميَّة في ثاني المحرم، فساروا إلى بلاد الجرد والرَّفضِ والتيامنة والدروز فخرج نائبُ السلطنة الأفرم بنفسه بعد خروجِ الشيخ لغزوهم، فنصَرَهم الله عليهم وأبادوا خلقًا كثيرًا منهم ومِن فِرقَتِهم الضالَّة، ووَطِئوا أراضيَ كثيرةً مِن صُنعِ بلادهم، وعاد نائِبُ السلطنة إلى دمشقَ في صحبته الشَّيخُ ابن تيمية والجيش، وقد حصل بسبَبِ شهود الشيخ هذه الغزوةَ خَيرٌ كثيرٌ، وأبان الشيخ علمًا وشجاعةً في هذه الغزوة، وقد امتلأت قلوبُ أعدائه حسدًا له وغَمًّا.
حضر جماعةٌ كثيرة من الفقراء الأحمدية في يوم السبت تاسع جمادى الأولى إلى نائب السَّلطنةِ بالقصر الأبلق وحضر الشيخُ تقي الدين ابن تيمية فسألوا من نائب السلطنةِ بحَضرةِ الأمراء أن يكُفَّ الشيخ تقي الدين إمارتَه عنهم، وأن يسَلِّمَ لهم حالهم، فقال لهم الشيخ: هذا ما يمكِنُ، ولا بُدَّ لكل أحد أن يدخُلَ تحت الكتاب والسنة، قولًا وفعلًا، ومن خرج عنهما وجب الإنكارُ عليه، فأرادوا أن يفعلوا شيئًا من أحوالِهم الشيطانيَّة التي يتعاطَونَها في سماعاتهم، فقال الشيخ: تلك أحوالٌ شيطانيَّةٌ باطلة، وأكثَرُ أحوالهم من باب الحِيَل والبهتان، ومن أراد منهم أن يدخُلَ النارَ فليدخُلْ أوَّلًا إلى الحَمَّامِ وليغسل جسَدَه غَسلًا جَيِّدًا ويَدلكَه بالخَلِّ والأُشنان ثم يدخُل بعد ذلك إلى النَّارِ إن كان صادقًا، ولو فرض أن أحدًا من أهل البِدَعِ دخل النار بعد أن يغتَسِلَ فإن ذلك لا يدُلُّ على صلاحِه ولا على كرامتِه، بل حالُه من أحوال الدَّجاجِلة المخالِفة للشريعة إذا كان صاحِبُها على السُّنَّة، فما الظنُّ بخلاف ذلك؟! فابتدر شيخُ المنيبع الشيخُ الصالح وقال: نحن أحوالُنا إنما تَنفُق عند التتر ليست تَنفُق عند الشرع، فضبط الحاضرونَ عليه تلك الكلمة، وكثُرَ الإنكار عليهم من كل أحدٍ، ثم اتفق الحالُ على أنهم يخلعون الأطواقَ الحديدَ مِن رقابهم، وأنَّ من خرج عن الكتابِ والسنة ضُرِبَت عنقه، وصنَّف الشيخُ جزءًا في طريقة الأحمدية، وبيَّنَ فيه أحوالهم ومسالِكَهم وتخيُّلاتِهم، وما في طريقتِهم من مقبولٍ ومَردودٍ بالكتاب، وأظهر اللهُ السنة على يديه وأخمد بدعتَهم، ولله الحمدُ والمِنَّة.
حضر القضاةُ والعُلَماءُ وفيهم الشيخُ تقيُّ الدين ابن تيمية في يوم الاثنين ثامِنَ رجب عند نائب السلطنةِ بالقَصرِ، وقُرئت عقيدةُ الشيخ تقي الدين ابن تيمية الواسطيَّة، وحصل بحثٌ في أماكِنَ منها، وأُخِّرَت مواضِعُ إلى المجلس الثاني، فاجتمعوا يومَ الجمعة بعد الصلاة في الثاني عشر من هذا الشهر, وحضر الشيخُ صفي الدين الهندي، وتكلَّمَ مع الشيخِ تقيِّ الدين كلامًا كثيرًا، ولكِنَّ ساقِيَتَه لاطمت بحرًا، ثم اصطلحوا على أن يكون الشيخُ كمال الدين بن الزملكاني هو الذي يحاقِقُه من غيرِ مُسامحة، فتناظرا في ذلك، وشكر النَّاسُ من فضائل الشيخِ كمال الدين بن الزملكاني وجَودةِ ذِهنِه وحُسنِ بحثِه حيث قاومَ ابن تيميَّة في البحث، وتكَلَّم معه، ثم انفصل الحالُ على قبول العقيدة، وعاد الشيخُ إلى منزله مُعَظَّمًا مُكَرَّمًا، وكان الحامِلُ على هذه الاجتماعات كتابًا ورد من السلطان في ذلك، كان الباعِثُ على إرسالِه قاضي المالكيَّة ابن مخلوف، والشَّيخ نصر المنبجي شيخ الجاشنكير وغيرهما من أعدائه، وذلك أنَّ الشيخ تقي الدين ابن تيمية كان يتكَلَّم في المنبجي وينسِبُه إلى اعتقادِ ابن عربي، وكان للشيخِ تقي الدين من الفُقَهاءِ جماعة يحسُدونَه لتقَدُّمِه عند الدولة، وانفرادِه بالأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر، وطاعةِ الناس له ومحبَّتِهم له، وكثرةِ أتباعِه، وقيامه في الحق، وعِلمِه وعَمَلِه، ثم وقع بدمشقَ خَبطٌ كثير وتشويشٌ بسبب غيبةِ نائب السلطنة، وطَلَب القاضي جماعةً من أصحاب الشيخ وعَزَّرَ بَعضَهم ثمَّ اتفق أن الشيخ جمال الدين المِزِّي الحافظ قرأ فصلًا بالردِّ على الجهميَّة من كتابِ أفعال العباد للبخاريِّ تحت قبة النسر بعد قراءة ميعاد البخاري بسبب الاستسقاء، فغضب بعضُ الفقهاء الحاضرين وشكاه إلى القاضي الشافعي ابن صصرى، وكان عدوًّا للشيخ تقي الدين ابن تيمية, فسَجَن المزِّي، فبلغ الشيخَ تقي الدين فتألَّم لذلك وذهب إلى السجنِ فأخرجه منه بنَفسِه، وراح إلى القصرِ فوجد القاضيَ ابن صصرى هنالك، فتقاولا بسبب الشيخِ جمالِ الدين المزِّي، فحلف ابن صصرى لا بد أن يعيدَه إلى السجن وإلَّا عزل نفسَه فأمر النائِبُ بإعادتِه تطييبًا لقلب القاضي فحَبَسه عنده في القوصيَّة أيامًا ثم أطلقه، ولما قدم نائبُ السلطنة ذكر له الشيخُ تقي الدين ابن تيمية ما جرى في حقِّه وحَقِّ أصحابه في غيبته، فتألم النائِبُ لذلك ونادى في البلدِ ألَّا يتكلم أحدٌ في العقائِدِ، ومن عاد إلى تلك حَلَّ مالُه ودَمُه ورُتِّبَت داره وحانوته، فسكنت الأمور، ثم عُقِدَ المجلس الثالث في يوم سابع شعبان بالقصرِ واجتمع جماعةٌ على الرضا بالعقيدة الواسطية, وفي هذا اليوم عزلَ ابنُ صصرى نفسَه عن الحكم بسبب كلامٍ سمعه من بعض الحاضرينَ في المجلس، وهو من الشيخِ كمال الدين بن الزملكاني، ثم جاء كتابُ السلطان في السادس والعشرين من شعبان فيه إعادةُ ابن صصرى إلى القضاء، وذلك بإشارةِ المنبجي، وفي الكتابِ: إنا كنا سمعنا بعقدِ مَجلِسٍ للشيخ تقي الدين ابن تيمية، وقد بلَغَنا ما عُقِدَ له من المجالس، وأنه على مذهب السَّلَفِ، وإنما أردنا بذلك براءةَ ساحتِه مِمَّا نسب إليه، ثم جاء كتابٌ آخر في خامس رمضان يوم الاثنين وفيه الكشفُ عن ما كان وقع للشيخِ تقي الدين ابن تيمية في أيَّام جاغان، والقاضي إمام الدين القزويني، وأن يُحمَلَ هو والقاضي ابن صصرى إلى مصر، فتوجَّها على البريد نحو مصر، وخرج مع الشيخِ خَلقٌ من أصحابه وبَكَوا وخافوا عليه من أعدائه، وأشار عليه نائبُ السلطنة ابن الأفرم بترك الذَّهابِ إلى مصر، وقال له: أنا أكاتِبُ السلطان في ذلك وأصلِحُ القضايا، فامتنع الشيخُ من ذلك، وذكَرَ له أن في توجُّهِه لمصر مصلحةً كبيرة، ومصالحَ كثيرة، فلما كان يومُ السبت دخل الشيخُ تقيُّ الدين غزَّةَ فعَمِلَ في جامعها مجلسًا عظيمًا، ثم دخلا معا إلى القاهرة والقلوبُ معه وبه متعلِّقة، فدخلا مصر يوم الاثنين الثاني والعشرين من رمضان، وقيل إنَّهما دخلاها يوم الخميس، فلما كان يومُ الجمعة بعد الصلاة عقد للشيخ مجلس بالقلعة اجتمع فيه القضاةُ وأكابر الدولة وأراد أن يتكَلَّم على عادته فلم يتمكَّن من البحث والكلامِ، وانتدب له الشَّمسُ ابن عدنان خصمًا احتسابًا، وادَّعى عليه عند ابن مخلوف المالكي أنَّه يقول: إنَّ الله فوق العَرشِ حَقيقةٌ، وأنَّ الله يتكَلَّمُ بحَرفٍ وصَوتٍ، فسأله القاضي جوابَه فأخذ الشيخُ في حمد اللهِ والثناء عليه، فقيل له: أجِبْ، ما جئنا بك لتخطب! فقال: ومن الحاكِمُ فيَّ؟! فقيل له: القاضي المالكي، فقال له الشَّيخُ: كيف تحكمُ فيَّ وأنت خصمي، فغضب غضبًا شديدًا وانزعج وأقيمَ مَرسمٌ عليه وحُبِسَ في برج أيامًا، ثم نقِلَ منه ليلة العيد إلى الحبس المعروفِ بالجُبِّ، هو وأخوه شرف الدين عبد الله، وزين الدين عبد الرحمن، وأما ابن صصرى فإنه جُدِّدَ له توقيعٌ بالقضاء بإشارة المنبجي شيخ الجاشنكير حاكم مصر، وعاد إلى دمشقَ يوم الجمعة سادس ذي القعدة والقلوبُ له ماقتة، والنفوسُ منه نافرة، وقرئ تقليدُه بالجامع، وبعده قرئ كتابٌ فيه الحطُّ على الشيخ تقي الدين ابن تيميَّة ومخالفته في العقيدة، وأن ينادى بذلك في البلاد الشاميَّة، وألزِمَ أهلُ مذهبه بمخالفتِه، وكذلك وقع بمصر، قام عليه جاشنكير وشيخُه نصر المنبجي، وساعدهم جماعةٌ كثيرةٌ من الفقهاء والصوفيَّة وجرت فِتَنٌ كثيرة منتشرة، نعوذُ بالله من الفتن، وحصل للحنابلةِ بالديار المصرية إهانةٌ عظيمة كثيرة، وذلك أنَّ قاضِيَهم كان قليلَ العِلمِ مُزجَى البضاعةِ، وهو شرف الدين الحراني، فلذلك نال أصحابُهم ما نالهم، وصارت حالُهم حالًا مؤلمة.
وَفَدَ لدمشق رجلٌ من بلاد التتار يقال له الشيخُ براق الرومي- كان في الأصل مريدًا لبعض الشيوخِ في البلاد الروميَّة- في تاسع جمادى الأولى، ومعه جماعةٌ من الفقراء نحو المائة لهم هيئةٌ عجيبةٌ، وعلى رؤوسِهم كلاوت لباد مقصَّصة بعمائِمَ فوقها، وفيها قرونٌ من لباد شبه قرون الجاموس فيها أجراسٌ، ولِحاهم مُحَلَّقة دون شواربهم خلافًا للسنَّة، ولُبسُهم لبابيدُ بيضاء، وقد تَقَلَّدوا بحبالٍ منظومة بكعاب البقر، وكلٌّ منهم مكسور الثنية العُليا، وشيخُهم من أبناء الأربعين سنة، وفيه إقدامٌ وجرأة وقوَّةُ نفس وله صولة، ومعه طبلخاناه- فرقة الطبول والأبواق- تدق له نوبة، وله محتَسِبٌ على جماعته يؤدِّبُ كُلَّ من ترك شيئًا من سُنَّتِه بضرب عشرينَ عصًا تحت رجلَيه، وهو ومن معه ملازِمونَ التعبُّدَ والصلاة، وأنه قيل له عن زِيِّه، فقال: أردتُ أن أكونَ مَسخرةَ الفُقراءِ، وذكر أن غازان لما بلغه خَبَرُه استدعاه وألقى عليه سَبُعًا ضاريًا، فزجره فهرب منه السَّبُع، فجَلَّ في عين غازان ونثر عليه عشرة آلاف دينار، وطلب دخولَ مصرَ لكِنَّه مُنِعَ من ذلك، فسار إلى القدسِ، ثم رجع إلى بلاده لأنَّه لم يلقَ قَبولًا في دمشق، وبراق هذا أصلُه من الروم.
هو السُّلطانُ أبو يعقوب يوسُفُ بن يعقوب بن عبد الحَقِّ بن محيو بن أبي بكر بن حمامة ملك المغرب. وثب عليه سعادةُ الخَصِيُّ أحدُ مواليه في بعضِ حُجَرِه، وقد خَضَّب رجلَيه بالحنَّاء وهو مُستلقٍ على قَفاه، فطعنه طعناتٍ قطَعَ بها أمعاءه، وخرج فأُدرِكَ وقُتِلَ، فمات السلطانُ آخِرَ يوم الأربعاء سابع ذي القعدة، وأقيم بعده حفيدُه أبو ثابت عامر ابن الأمير أبي عامر بن السلطان أبي يعقوب يوسف بن يعقوب بن عبد الحق، وكانت مُدَّةُ حُكمِه إحدى وعشرين سنةً.
قُتِلَ هيتوم متمَلِّكُ سيس على يد بعضِ أمراء المغول؛ وذلك أنَّ هيتوم كان يحمِلُ القطعيَّة إلى المغول كما يحمِلُها إلى مصر، ويحضُر إلى كلِّ سنة أميرٌ من أمرائهم حتى يتسَلَّم الحَملَ، فحضر إليه من أمراء المغول برلغوا، وقد أسلَم وحَسُن إسلامُه، فعزم على بناءِ جامعٍ بسيس يعلَنُ فيه بالأذان، كما تجهَرُ هناك النصارى بضرب النواقيس، فشَقَّ ذلك على هيتوم، وكتب إلى خدبندا بأنَّ برلغوا يريد اللَّحاقَ بأهلِ مصر، وبناء جامع بسيس، فبعث خدبندا بالإنكارِ على برلغوا، وتهدَّدَه وألزمه بالحضورِ، فغضب برلغوا من هيتومِ، وصنع طعامًا ودعاه، ولم يكُنْ عنده عِلمٌ بأنَّ برلغوا اطَّلَع على شكواه منه لخدبندا، فحضر وهو آمِنٌ في جماعةٍ مِن أكابر الأرمنِ وإخوان له، فعندما مدُّوا أيديهم إلى الطعام أخذَتهم السيوفُ مِن كُلِّ جانب، فقُتِلوا عن آخِرِهم، ولم ينجُ سوى أخوه ليفون في نفَرٍ قليل، فلَحِقَ بخدبندا وأعلَمَه بقتل برلغوا لأخيه هيتوم وأمرائِه، وقَدِمَ عليه أيضًا برلغوا، فقَتَله بقَتلِه هيتوم.
وقعت حربٌ بين التتار وبين أهلِ كيلان غربي طبرستان؛ وذلك أنَّ مَلِكَ التتار خربندا طلب منهم أن يجعلوا في بلادهم طريقًا إلى عسكره فامتنعوا من ذلك، فأرسل خربندا جيشًا كثيفًا ستين ألفًا من المقاتِلة؛ أربعين ألفًا مع قطلوشاه وعشرين ألفًا مع جوبان، فأمهلهم أهلُ كيلان حتى توسَّطوا بلادهم، ثم أرسلوا عليهم خليجًا من البحرِ ورَموهم بالنِّفطِ فغَرِقَ كثيرٌ منهم واحترق آخرونَ، وقَتَلوا بأيديهم طائفةً كثيرة، فلم يُفلِتْ منهم إلَّا القليل، وكان فيمن قُتِلَ أميرُ التتار الكبيرُ قطلوشاه، فاشتد غضَبُ خربندا على أهل كيلان، ولكنه فَرِحَ بقتل قطلوشاه فإنَّه كان يريدُ قَتلَ خربندا، فكفى أمره عنهم، ثمَّ قُتِلَ بعده بولاي، ثمَّ إن خربندا أرسل الشيخَ براق الرومي الصوفي الخرافي إلى أهلِ كيلان يبلِغُهم عنه رسالةً فقَتَله أهلُ كيلان وأراحوا الناسَ منه ومن ضلالاتِه، وبلادُهم من أحصَنِ البِلادِ وأطيبِها لا تُستطاعُ، وهم أهلُ سُنَّة وأكثَرُهم حنابلةٌ لا يستطيعُ مُبتَدِعٌ أن يسكُنَ بين أظهُرِهم.
في أوائل المحَرَّم أظهر السلطانُ المَلِكُ الناصر الغَضَبَ على الأمير سيف الدين سلار المغولي وبيبرس الجاشنكير، وامتنع من العلامة- العلامة: هي ما يكتُبُه السلطانُ بخطِّه على صورة اصطلاحيَّة، وكان لكل سلطانٍ علامة وتوقيع- وأغلق القلعةَ وتحَصَّن فيها، ولزمَ الأميران بيوتهما، واجتمع عليهما جماعةٌ من الأمراء وحُوصِرَت القلعة، وغُلِّقَت الأسواق، ثم راسلوا السلطانَ فتأطَّدت الأمور وسكنت الشرور على دخَنٍ وتنافُرِ قلوبٍ، وقوي الأميران أكثَرَ مما كانا قبل ذلك. وركب السلطانُ ووقَعَ الصلحُ على دخَنٍ.
اجتمع القضاةُ بالشيخِ تقي الدين ابن تيميَّة في دار الأوحدي من قلعةِ الجبل بمصر، وطال بينهما الكلامُ ثمَّ تفَرَّقا قبل الصلاة، والشيخُ تقيُّ الدين مُصَمِّمٌ على عدم الخروجِ من السجن، فلما كان يومُ الجمعة الثالث والعشرين من ربيع الأوَّل جاء الأميرُ حسام الدين مهنا بن عيسى مَلِك العرب إلى السجنِ بنَفسِه وأقسم على الشيخِ تقي الدين ليخرجَنَّ إليه، فلما خرجَ أقسَمَ عليه ليأتيَنَّ معه إلى دار نائبِ السلطانِ الأميرِ سيف الدين سلار المغولي، فاجتمعَ به بعضُ الفقهاء بدار سلار وجَرَت بينهم بحوثٌ كثيرة، ثم فَرَّقَت بينهم الصلاة، ثم اجتمعوا إلى المغربِ وبات الشيخ تقي الدين عند سلار، ثم اجتمعوا يومَ الأحد بمرسومِ السلطان جميعَ النهار، ولم يحضُرْ أحدٌ من القضاة بل اجتمع من الفقهاءِ خلقٌ كثير، أكثَرُ من كل يوم، منهم الفقيه نجم الدين بن رفع، وعلاء الدين التاجي، وفخر الدين ابن بنت أبي سعد، وعز الدين النمراوي، وشمس الدين بن عدنان، وجماعة من الفقهاء، وطلبوا القضاةَ فاعتذروا بأعذار، بعضُهم بالمرض، وبعضُهم بغيره؛ لمعرفتهم بما ابنُ تيميَّة منطوٍ عليه من العلومِ والأدلَّةِ، وأنَّ أحدًا من الحاضرين لا يطيقُه، فقَبِلَ عذرَهم نائِبُ السلطنةِ ولم يكَلِّفْهم الحضورَ بعد أن رسم السلطانُ بحضورهم أو بفَصلِ المجلس على خير، وبات الشيخُ عند نائب السلطنة، وجاء الأميرُ حسام الدين مهنا يريد أن يستصحِبَ الشيخ تقي الدين معه إلى دمشق، فأشار سلار بإقامةِ الشيخِ بمصر عنده ليرى الناسُ فَضلَه وعِلمَه، وينتَفِعَ الناسُ به ويشتغلوا عليه، فكتب الشيخُ كتابًا إلى الشام يتضَمَّنُ ما وقع له من الأمورِ.
وفي شوال مِن هذه السنة شكا الصوفيَّةُ بالقاهرة على الشيخِ تقيِّ الدين ابن تيميَّةَ, وكلامه في ابنِ عربي وغيرِه إلى الدولة، فردُّوا الأمرَ في ذلك إلى القاضي الشافعيِّ ابن صصرى، فعُقِد له مجلسٌ وادعى عليه ابنُ عطاء بأشياءَ فلم يثبُتْ عليه منها شيءٌ، لكنَّه قال: لا يُستغاثُ إلَّا بالله، لا يُستغاثُ بالنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فالاستغاثةُ بمعنى العبادة، فبعضُ الحاضرين قال: ليس عليه في هذا شَيءٌ, ورأى القاضي بدر الدين بن جماعة أنَّ هذا فيه قِلَّةُ أدَبٍ!! فحضرت رسالةٌ إلى القاضي أن يعملَ معه ما تقتضيه الشريعةُ، فقال القاضي: قد قلتُ له ما يقالُ لِمِثله، ثمَّ إنَّ الدولة خيَّروه بين أشياء إمَّا أن يسيرَ إلى دمشقَ أو الإسكندريةِ بشُروطٍ أو الحبسِ، فاختار الحبسَ فدخل عليه جماعةٌ في السَّفَرِ إلى دمشق ملتَزِمًا ما شُرِط، فأجاب أصحابَه إلى ما اختاروا جبرًا لخواطِرِهم، فركب خَيلَ البريد ليلة الثامِنَ عشر من شوال ثم أرسلوا خلفَه من الغَدِ بريدًا آخرَ، فردوه وحضر عند قاضي القضاة ابنِ جماعة وعنده جماعةٌ مِن الفقهاء، فقال له بعضُهم: إن الدولةَ ما ترضى إلا بالحبسِ، فقال القاضي: وفيه مَصلحةٌ له، واستناب شمسُ الدين التونسي المالكي وأذِنَ له أن يحكُمَ عليه بالحبسِ فامتنع، وقال: ما ثبت عليه شيءٌ، فأذن لنور الدين الزواوي المالكي فتحَيَّرَ، فلما رأى الشيخُ توقُّفَهم في حبسه قال: أنا أمضي إلى الحبسِ وأتَّبِعُ ما تقتضيه المصلحةُ، فقال نور الدين الزواوي: يكون في موضعٍ يصلُحُ لمِثلِه، فقيل له: الدولة ما ترضى إلا بمسمَّى الحبس، فأُرسِلَ إلى حبس القضاةِ في المكان الذي كان فيه تقي الدين ابن بنت الأعزِّ حين سُجن، وأُذِنَ له أن يكون عنده من يخدُمُه، وكان ذلك كلُّه بإشارة نصر المنبجي لوجاهته في الدولةِ، فإنَّه كان قد استحوذ على عَقلِ بيبرس الجاشنكير الذي تسلطن فيما بعدُ، وغيرِه من الدولة، والسلطانُ مقهورٌ معه، واستمر الشيخُ في الحبس يُستفتى ويقصِدُه الناسُ ويزورونه، وتأتيه الفتاوى المُشكِلة التي لا يستطيعُها الفُقَهاءُ من الأمراءِ وأعيانِ النَّاسِ، فيكتُب عليها بما يحيرُ العُقولَ من الكتاب والسنَّة، ثم عُقِدَ للشيخ مجلسٌ بالصالحية بعد ذلك كُلِّه، ونزل الشيخُ بالقاهرة بدار ابن شقير، وأكَبَّ الناس على الاجتماعِ به ليلًا ونهارًا.
قام الأميرُ سيف الدين نوغاي القبجاقي التتري أميرُ ركب الحاجِّ بمحاربة العبيدِ بمكَّةَ، وذلك أنهم كثُرَ تخطُّفُهم أموالَ التجَّار، وأخْذُهم من الناسِ بالغَصبِ ما أرادوا، فلما وقف بعضُهم على تاجرٍ ليأخُذَ قماشَه منَعَه، فضربه ضربًا مُبَرِّحًا، فثار الناسُ وتصايحوا، فبعث نوغاي مماليكَه إلى العبيد فأمسَكوا بعضَهم وفَرَّ باقيهم بعدما جُرِحوا، فرَكِبَ الشريفُ حميضة بن أبي نُمَي بالأشراف والعبيد للحَربِ، وركب نوغاي بمن معه، ونادى ألا يخرُجَ أحدٌ من الحاجِّ ولْيحفَظْ متاعَه، وساق فإذا طائفةٌ من السرويين قد فرُّوا من الخوف إلى الجبل، فقَتَل نوغاي منهم جماعة ظنًّا أنهم من العبيد، فكفَّ حميضة عن القتال.
ورد الخبَرُ بأن متمَلِّكَ قُبرُص اتَّفق مع جماعة من ملوك الفرنج على عمارةِ ستين سفينة لغزو دمياط، فجمع السلطانُ الناصر بن قلاوون الأمراءَ وشاوَرَهم، فاتَّفَقوا على عمل جسرٍ مادٍّ مِن القاهرة إلى دمياط خوفًا من نزولِ الفرنج أيَّامَ النيل، وندب لذلك الأمير جمال الدين أقوش الرومي الحسامي، وأمر ألا يراعي أحدًا من الأمراءِ في تأخيرِ رجالِ بلاده، ورسَمَ للأمراء أن يُخرِجَ كُلٌّ منهم الرجالَ والأبقار، وكتب إلى الولاةِ بالمساعدة والعمل، وأن يخرُجَ كُلُّ والٍ برِجاله، وكان أقوش مَهيبًا عبوسًا قليلَ الكلام، له حُرمةٌ في قلوب الناس، فلم يصل إلى فارس كور حتى وجد ولاةَ العَمَل قد نصبوا الخِيَم وأحضروا الرجالَ، فاستدعى المهندسينَ ورَتَّب العمل، فاستقَرَّ الحال على ثلاثمائة جرَّافة بستمائة رأس بقر وثلاثين ألف رجل، وأحضر إليه نوَّابُ جميع الأمراء، فكان يركب دائمًا لتفقُّد العمل واستحثاث الرِّجال، بحيث إنَّه فقد بعضَ الأيام شادي الأمير بدر الدين الفتاح ورجالَه، فلما أتاه بعد طَلَبِه ضَرَبه نحو الخمسمائة عصاةً، فلم يغِبْ عنه بعد ذلك أحَدٌ، ونكَّلَ بكثيرٍ مِن مشايخ العربان، وضَرَبهم بالمقارعِ وخَزَم آنافَهم وقطَعَ آذانهم، ولم يكَدْ يسلَمُ منه أحد من أجناد الأمراءِ ومنشدي البلاد، وما زال يجتَهِدُ في العمل حتى أُنجِزَ الجسر في أقَلَّ مِن شهر، وكان ابتداؤُه من قليوب وآخره بدمياط، يسيرُ عليه الراكِبُ يومين، وعَرضُه من أعلاه أربعُ قَصَبات، ومن أسفَلِه ستُّ قصبات، يمشي ستة فرسان صَفًّا واحدًا، وعَمَّ النفع به، فإنَّ النيل كان في أيام الزيادة يعلو حتى تنقَطِعَ الطُّرُقاتُ ويمتَنِعَ الوصول إلى دمياط، وحضَرَ بعد فراغه الأميرُ أقوش إلى القاهرة، وخُلِعَ عليه وشُكِرَت هِمَّتُه، ووقع الاتفاقُ على عمل جسر آخَرَ بطريق الإسكندرية، ونُدِبَ لعمله الأمير سيف الدين الحرمكي، فعمر قناطِرَ الجيزة إلى آخر الرمل تحت الهَرَمين، وكانت تهَدَّمت، فعم النفعُ بعمارتِها.
لمَّا استقَرَّ الملك ناصر بالكرك وعَزَم على الإقامة بها بعد أن خرج من مصرَ على أنَّه يريد الحَجَّ، كتب كتابًا إلى الديار المصرية يتضَمَّنُ عَزلَ نَفسِه عن المملكة، فأثبت ذلك على القُضاةِ بمصر، وكان قد اشتَدَّ حَنَقُه، وصار في غاية الحَصرِ مِن تحَكُّم بيبرس الجاشنكيري- متذوِّق طعام السلطان- وسيف الدين سلار المغولي عليه، وعَدَم تصَرُّفِه ومَنْعه من كلِّ ما يريد، حتى إنه ما يصِلُ إلى ما يشتهي أكلَه لقِلَّةِ المُرَتَّب، فلولا ما كان يتحَصَّلُ له من أوقاف أبيه لما وجد سبيلًا إلى بلوغِ بعض أغراضِه، فكانت مُدَّةُ سلطنة الملك الناصر هذه عشر سنين وخمسة أشهر وسبعة عشر يومًا، ثم نفذَ على قضاة الشامِ وبُويِعَ الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير في السلطنةِ في الثالث والعشرين من شوَّال يوم السبت بعد العصر، بدار الأمير سيف الدين سلار، اجتمع بها أعيانُ الدولة من الأمراء وغيرهم وبايعوه وخاطبوه بالمَلِك المظَفَّر، ورَكِبَ إلى القلعة ومَشَوا بين يديه، وجلس على سريرِ المَملكة بالقلعة، ودُقَّت البشائِرُ وسارت البريدية بذلك إلى سائِرِ البلدان، وفي مستهَلِّ ذي القعدة وصل الأميرُ عز الدين البغدادي إلى دمشق فاجتمع بنائِبِ السلطنة والقضاة والأمراء والأعيان بالقَصرِ الأبلقِ، فقرأ عليهم كتابَ الناصر إلى أهل مصر، وأنَّه قد نزل عن الملك وأعرض عنه، فأثبَتَه القضاة وامتنع الحنبليُّ من إثباته وقال: ليس أحدٌ يترُكُ المُلكَ مُختارًا، ولولا أنَّه مُضطهدٌ ما تركه، فعُزِلَ وأقيم غيره، واستحلَفَهم للسلطانِ الملك المظفر ركن الدين بيبرس، وكُتِبَت العلامة على القلعة، وألقابُه على محالِّ المملكة، ودُقَّت البشائِرُ وزُيِّنَت البلد، ولما قرئَ كتاب الملك الناصر على الأمراءِ بالقصر، وفيه: إني قد صَحِبتُ الناس عشر سنين ثم اخترت المقامَ بالكرك، تباكى جماعةٌ من الأمراء وبايعوا كالمُكرَهين، وتولى مكانَ الأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير الأميرُ سيف الدين بن علي، ويُذكَرُ أن أصل بيبرس هذا من مماليكِ الملك المنصور قلاوون البرجية، وكان شركسي الجِنسِ، ولم نعلم أحدًا ملَكَ مِصرَ مِن الشراكسة قبله إن صَحَّ أنه كان شَركسيًّا.
أظهر خدبندا ملك التتر الرَّفضَ في بلاده، وأمر الخطباءَ أوَّلًا ألَّا يذكُروا في خُطبتِهم إلَّا عليَّ بنَ أبي طالب رضي اللهُ عنه وأهلَ بيته، ولما وصل خطيبُ بلاد الأزج إلى هذا الموضِعِ مِن خُطبتِه بكى بكاءً شديدًا وبكى الناسُ معه، ونزل ولم يتمكَّنْ من إتمام الخطبة، فأقيم مَن أتَمَّها عنه وصلَّى بالناس وظَهَر على الناسِ بتلك البلاد من أهل السُّنَّة أهلُ البدعةِ!
أنشأها علاءُ الدين طيبرس الخازندار نقيبُ الجيوشِ بالدِّيارِ المصريةِ، وهي على يمينِ الداخِلِ من باب الجامِعِ الأزهرِ المعروفِ بباب المزينين، وتمَّ الانتهاءُ مِن بنائها في عهد السلطانِ الناصر محمد بن قلاوون، فكانت من المدارس الملحَقة بالأزهر، وعُرِفت بالمدرسة الطيبرسية نسبةً إلى علاء الدين مؤسِّسِها الذي قرَّر أن يُدرِّسَ فيها درسًا للفقهاء الشافعية. وأنشأ بجوارِها مِيضأةً وحوضَ ماء سبيل ترِدُه الدواب، وتأنَّقَ في رخامها وتذهيبِ سقوفِها.