هو الأميرُ الكبيرُ المَهيبُ سَيفُ الدين أبو سعيد تنكز نائِبُ السلطنة بالشام، جُلِبَ إلى مصر وهو حَدَثٌ، فنشأ بها، وكان أبيض يميل إلى السمرة، رشيق القَدِّ، مليح الشَّعر، خفيف اللحية قليل الشَّيب، حَسَن الشَّكلِ، جلبه الخواجا علاء الدين السيواسي، فاشتراه الأمير حسام الدين لاجين، فلما قُتِلَ لاجين في سلطنته صار من خاصكية السلطان الناصر، وشهد معه وقعة وادي الخزندار ثم وقعة شقحب، سمع صحيح البخاري غير مرة من ابن الشحنة، وسمع كتاب الآثار للطحاوي، وصحيح مسلم. تولى نيابةَ السلطان بدمشق في شهر ربيع الآخر سنة 712 وتمكَّن في النيابة, وسار بالعساكِرِ إلى ملطية فافتتحها وعظُمَ شأنُه وهابه الأمراءُ بدمشق ونوَّاب الشام، وأمِنَ الرعايا به ولم يكُنْ أحدٌ من الأمراء ولا من أربابِ الجاه يَقدِرُ يظلِمُ أحدًا ذِمِّيًّا أو غيره خوفًا منه؛ لبطشه وشِدَّة إيقاعه, ثمَّ تغير السلطان الناصر على تنكز, وكان سَبَبُ تغير الحال بينهما- مع أن السلطان متزوج من بنته وأراد كذلك تزويجَ ولديه من بناته- لَمَّا قَتَل تنكز جماعةً من النصارى بسَبَبِ افتعالهم الحريقَ بدمشق، عَنَّف عليه السلطان، وأن في ذلك سببًا لقتل المسلمين في القُسطنطينية، وزاد الأمرَ أنَّه أمَرَه بإحضار الأموال المتحَصَّلة من جرَّاء هذه الحادثة وأن يجهِّزَ بناتِه، فاعتذر تنكز بانشغالِه بعمارةِ ما أكَلَه الحريقُ وأنَّه أنفق تلك الأموالَ في ذلك، وزاد الأمرَ كذلك سعايةُ بعض الحاسدين عليه لدى السلطانِ حتى أمر السلطان بإحضارِه إلى مصر، فخرج جيشٌ من مصر لإحضاره من دمشقَ، وكان تنكز قد عرف بالأمرِ، فخرج وأخرج أموالَه وأهله، فوصلَ إليه الأمراء من القاهرةِ وعَرَّفوه مرسومَ السلطان وأخَذوه وأركبوه إكديشًا- حصانًا غير أصيل يُستخدَم في حمل الآلات والعدَّة- وساروا به إلى نائب صفد، وأمر طشتمر بتنكز فأُنزِلَ عن فرسه على ثوب سرج، وقيده قرمجي مملوكُه، وأخذه الأمير بيبرس السلاح دار، وتوجَّه به إلى الكسوة، فحدث له إسهالٌ ورِعدةٌ خيفَ عليه منه الموتُ، وأقام بها يومًا وليلة، ثم مضى به بيبرس إلى القاهرة, وفي يومِ الثلاثاء سابِعَ المحرم وصل الأمير سيف الدين تنكز نائِبُ الشام وهو متضَعِّفٌ، بصحبة الأمير بيبرس السلاح دار، وأُنزِلَ من القلعة بمكانٍ ضَيقٍ حَرَجٍ، وقَصَد السلطان ضَرْبَه بالمقارعِ، فقام الأميرُ قوصون في الشفاعة له حتى أجيبَ إلى ذلك، وبعث إليه السلطان يُهَدِّدُه حتى يعترف بما له من المالِ، ويَذكُر من كان موافِقًا على العصيان من الأمراء، فأجاب تنكز بأنَّه لا مال له سوى ثلاثين ألف دينار وديعةً عنده لأيتامِ بكتمر الساقي، وأنكر أن يكون خرجَ عن الطاعة، فأمر السلطانُ في الليلِ فأُخرِجَ مع ابن صابر المقَدَّم وأمير جندار، وحُمِلَ في حراقة –سفينة- بالنيل إلى الإسكندرية، فقَتَلَه بها إبراهيم بن صابر المقَدَّم في يوم الثلاثاء خامس عشر ودفنوه بالإسكندرية، وقد جاوز الستينَ، ثم نقل من الإسكندرية بعد ثلاث سنين ونصف أو أكثر، بشفاعةِ ابنتِه زوجة السُّلطانِ الناصر، فأَذِنَ في ذلك وأرادوا أن يُدفَنَ بمدرسته بالقدس الشريف، فلم يُمكِنْ، فجيء به إلى تربته بدمشق وقيل: كانت وفاتُه بقلعة إسكندرية مسمومًا، وتأسَّفَ الناسُ عليه كثيرًا، وطال حُزنُهم عليه، وفي كل وقتٍ يتذكَّرون ما كان منه من الهَيبةِ والصيانةِ والغَيرةِ على حريمِ المسلمينَ ومحارم الإسلام، ومن إقامتِه على ذَوي الحاجاتِ وغَيرِهم؛ يشتَدُّ تأسفهم عليه. ويُذكَرُ أنَّ لتنكز هذا أوقافًا كثيرة، من ذلك مرستان بصفد، وجامع بنابلس وعجلون، وجامع بدمشق، ودار الحديث بالقدس ودمشق، ومدرسة وخانقاه بالقدس، ورباط وسوق موقوف على المسجد الأقصى، وتُتبِّعَت أموال تنكز، فوجِدَ له ما يجِلُّ وَصفُه واشتملت جملةُ ما بيع له على مائتي ألف دينار، فكان جملةُ العين ستمائة ألف دينار وأربعمائة دينار، ومع ذلك كان له أعمالٌ جدية في دمشق فأزال المظالمَ، وأقام منارَ الشَّرعِ، وأمَرَ بالمعروف، ونهى عن المنكر، وأزال ما كان بدمشق وأعمالها من الفواحِشِ والخانات والخَمَّارات، وبالغ في العقوبةِ على ذلك حتى قَتَل فيه، وغيرها من عمارة المدارس والأوقاف والمساجد.
قام المَلِكُ أبو الحَسَن علي بن عثمان مَلِكُ بني مرين باجتيازِ البحرِ على رأسٍ جيشٍ كثيفٍ لمحاربةِ المتحالفين من قشتالة والبرتغال وأراغون، فجَرَت بينهم معركةٌ قُربَ مدينة طريف انكسَرَ فيها جيشُ المسلمين المكَوَّن من جيش بني مرين وجيش غرناطة، وسَقَط معسكرُ الملك المريني بيد الأسبان فذبحوهم بأجمَعِهم واستطاع المَلِكُ المريني عبورَ البحر إلى المغرب مع بعضِ فلول جيشِه، وانهزم مَلِكُ غرناطة إلى غرناطة بأسوأ حالٍ شَهِدَه المسلمون منذ وقعة العقاب، واستولى الأسبانُ على طريف والجزيرة الخضراء وجبل طارق، ويُذكَرُ أن المسلمين استعملوا في هذه الحربِ آلاتٍ تُشبِهُ المدافع كانت تسمَّى الأنفاط، وكانت هي أساسًا لاختراع المدافِعِ فيما بعد.
هو الصوفيُّ الاتحادي عثمان الدكاكي الدمشقي, خالطَ الصوفية ودعاةَ وَحدةِ الوجودِ، فتأثَّرَ بهم حتى ادَّعى الألوهيَّةَ وانتَقَص من الأنبياء, فعُقِدَ له مجلسٌ في دار العدل بدار السعادة في يوم الثلاثاء آخر شَهرِ شوال واجتَمَع القضاة والأعيانُ على العادة وأُحضِرَ يومئذ عثمان الدكاكي، وادُّعِيَ عليه بعظائمَ من القول لم يؤثَرْ مِثلُها عن الحلَّاجِ ولا عن ابن أبي الغدافر السلقماني، وقامت عليه البيِّنةُ بدعوى الإلهية- لعنه الله- وأشياءَ أُخَر من التنقيص بالأنبياء ومخالطته أرباب الرَّيبِ من الباجريقية وغيرهم من الاتحادية- عليهم لعائن الله- ووقع منه في مجلسٍ من إساءة الأدب على القاضي الحنبلي، وتضَمَّنَ ذلك تكفيرُه من المالكية أيضًا، فادعى أنَّ له دوافِعَ وقوادِحَ في بعض الشهود، فرُدَّ إلى السجنِ مُقَيَّدًا مغلولًا مقبوحًا، ثم لما كان يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من ذي القعدة أُحضِرَ عثمان الدكاكي إلى دار السعادة وأُقيمَ بين يدي الأمراء والقُضاة وسُئِلَ عن القوادح في الشهودِ فعَجَز فلم يقدِرْ، وعجز عن ذلك فتوَجَّهَ عليه الحُكم، فسئل القاضي المالكي الحُكمَ عليه، فحَمِدَ الله وأثنى عليه وصلَّى على رسولِه، ثمَّ حكم بإراقة دَمِه وإن تاب، فأُخِذَ الدكاكيُّ فضُرِبَت رَقَبتُه بدمشق بسوقِ الخيل، ونودي عليه: هذا جزاءُ مَن يكون على مَذهَبِ الاتحاديَّة، وكان يومًا مشهودًا بدار السعادة، حضَرَ خلقٌ من الأعيان والمشايخِ.
كتب السُّلطانُ النَّاصِرُ بتَجهيزِ عساكِرِ دمشق وحَلَب وغيرهما للتجريدةِ إلى توريز، صحبة الأمير طشتمر نائب حلب، ويكونُ معه عامَّةُ أمراء التركمان والعربان، فتجَهَّزَ الأمراء والأجناد بمماليك الشام، وبَرَز نائب حلب بمخيَّمِه إلى ظاهر المدينة وأقام ينتَظِرُ قدومَ عساكِرِ مصر، فأصبح السلطان في مستهَلِّ ذي الحجة وبه وَعكٌ من قرف حدث عنه إسهالٌ لزم منه الفِراشَ خمسةَ أيام، فتصَدَّقَ بمال جزيل، وأفرَجَ عن المسجونينَ بسِجنِ القُضاة والولاة بالقاهرة ومصر وسائر الأعمال، ثم قَدِمَ إدريس القاصد بصُحبة مملوك صاحب ماردين بكتابِه يتضَمَّنُ أن أولاد دمرداش بن جوبان بن تلك المغولي لَمَّا بلغهم طلَبُ الشيخ حسن الكبير بن أقبغا أيلخان سبط أرغون المغولي وطغاي بن سونتاي المغولي من السلطان أن يجَهِّزَ لهم عسكرًا ليأخُذَ البلاد، وأنَّهما حلفا له وحلفا أهلُ البلاد وخَطَبا باسمه على منابر بغداد والموصل، وركبوا إلى محاربتِهما، فطَلَب منهم الشيخ حسن الكبير الصُّلحَ، وحلف لهم وسار إليها طائعًا، فأكرموه وكتبوا لطغاي بن سونتاي أمانًا، واتَّفَقوا على أن يعدوا الفرات إلى الشام، وأشار صاحب ماردين ألا تخرُجَ التجريدة إلى توريز؛ فإنَّه ليس لِسَيرِها فائدة، فتفَرَّقت الأجنادُ من القلعة بغيرِ عرض، وبَعَث السلطان من ليلته بجوابِ صاحب ماردين، واقتضى رأيُه أن يكشِفَ عما ذكره، فإنَّ برهشين بن طغاي اتَّهَمه في ذلك، ثم قَدِمَ البريد من حلب بصحَّة الخبر بصُلح الشيخ حسن الكبير وطغاي مع أولاد دمرداش، فانزعَجَ السلطان لذلك انزعاجًا شديدًا، واضطرب مزاجُه.
هو السلطانُ الملك الناصر، ناصر الدين أبو الفتح محمد ابن السلطان الملك المنصور سيف الدنيا والدين قلاوون، وُلِدَ الملك الناصر سنة 684، وكان قد أقيمَ النَّاصِرُ في السلطنة بعد أخيه الملك الأشرف خليل سنة 693، وعُمُرُه تسع سنين ثمَّ خُلِعَ في سادس عشر المحرم سنة أربع وتسعين، وأُرسِلَ إلى الكرك, ثمَّ أعيد إلى المُلكِ ثانيًا وعمره خمس عشرة سنة، فأقام في المُلك إلى سنة 708، وخرج يريدُ الحَجَّ، فتوجه إلى الكرك متبرمًا من سلار وبيبرس الجاشنكير أستاذ الدار وحَجْرِهما عليه ومَنْعِهما له من التصَرُّف، فأعرض الناصِرُ عن مصر، فوثب الجاشنكير على السلطنة وتسلطَنَ، ثم اضطربت أموره، وقَدِمَ الناصر من الشام إلى مصر، فمَلَكَ مَرَّةً ثالثة في شوال سنة 709 واستبَدَّ الناصر من حينئذ بالأمرِ مِن غير معارضٍ مدة اثنتين وثلاثين سنة وشهرين وخمسة وعشرين يومًا، كانت له فيها سِيَرٌ وأنباء، وكان الناصِرُ أطولَ ملوك زمانه عُمُرًا وأعظَمَهم مهابةً, ودانت له البلادُ ومَلَك الأطرافَ بالطاعة، لما زاد مرض السلطان بالإسهال وخارت قواه، أشار عليه بعضُ الأمراء أن يَعهَدَ بالمُلكِ إلى أحد أولادِه، فأجاب إلى ذلك فجعل ابنَه أبا بكر سلطانًا بعده، وأوصاه بالأمراءِ، وأوصى الأمراءَ به، وعَهِدَ إليهم ألا يُخرِجوا ابنَه أحمد من الكَركِ وحَذَّرَهم من إقامته سُلطانًا، وجعل قوصون وبشتاك وصِيَّيه، وإليهما تدبيرُ ابنِه أبي بكر وحلَّفَهما، ثمَّ حَلَّفَ السلطانُ الأمراءَ والخاصكية، وأكَّدَ على ولده في الوصيَّة بالأمراء، وأفرج عن الأمراءِ المسجونين بالشام، وهم طيبغا حاجي وألجيبغا العادلى وصاروجا، ثم قام الأمراء، فبات السلطانُ ليلة الثلاثاء، وأصبح وقد تخَلَّت عنه قوته، وأخذ في النزعِ يوم الأربعاء، فاشتَدَّ عليه كَربُ الموتِ حتى مات أول ليلة الخميس الحادي عشر من ذي الحجة، وله من العُمُرِ سبع وخمسون سنة وأحد عشر شهرًا وخمسة أيام, ودُفِنَ بالمدرسة المنصورية بين القصرين، أما السلطان الجديد فلقَّبَه الأمراء الأكابِرُ بالملك المنصور، وجَلَسوا حوله، واتَّفَقوا على إقامة الأمير سَيفِ الدين طقزدمر الحموي- زوج أمه- نائِبَ السُّلطةِ بديار مصر، وأن يكون الأميرُ قوصون مدبِّرَ الدولة ورأس المشورة، ويشارِكه في الرأي الأميرُ بشتاك.
هو المَلِكُ أزبك خان بن طغرلجا بن منكوتمر بن طغان بن باطو بن دوشي خان بن جنكز خان ملك التتار، وكان أسلَمَ وحَسُنَ إسلامُه وحَرَّض رعيَّتَه على الإسلام، فأسلم بعضهم، ولم يلبَسْ أزبك خان بعد أن أسَلَم السراقوجات- لباس الرأس عند التتار- وكان يلبس حياصةً من فولاذ ويقول: لبسُ الذَّهَبِ حرامٌ على الرجال، وكان يميلُ إلى دينٍ وخَيرٍ، ويتردَّدُ إلى الفقراء، وكان عنده عَدلٌ في رعيته، وتزوَّجَ الملك الناصِرُ محمد بابنَتِه، وكان أزبك شُجاعًا كريمًا مليحَ الصورة ذا هيبةٍ وحُرمة، ومملكتُه مُتَّسِعة، وهي من بحر قسطنطيينة إلى نهر إرتش مَسيرةَ ثمانمائة فرسخ، لكِنَّ أكثر ذلك قرًى ومراعي، ومات أزبك خان بعد أن مَلَك نحوًا من ثلاثينَ سنة، ووَلِيَ المُلكَ بعده ابنُه: جاني بك خان.
كان السُّلطانُ مُحمَّدُ بن قلاوون قَبلَ وَفاتِه أوصى بأن يُعادَ أحمدُ بنُ سُليمان للخلافةِ على ما كان أبوه عَهِدَ إليه، وأشهد على ذلك أربعين عَدلًا وقاضيَ قوصٍ وغيرَه من الفقهاء والقُضاة، ففي أوَّلِ هذه السنة أحضر السلطانُ المنصورُ بن محمد بن قلاوون الخليفةَ الواثِقَ إبراهيمَ وخَلَعَه بناءً على وصيَّةِ المستكفي لابنِه أحمد، وبايع القُضاةُ والسلطانُ أحمدَ بنَ سليمان المستكفي ولقَبَّه الحاكِمَ بأمر الله.
هو الشيخُ الإمامُ العلَّامة الحافِظُ حُجَّة العصرِ، ومحَدِّثُ الشام ومصر وخاتمةُ الحُفَّاظ جمال الدين أبو الحجاج يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف بن علي بن عبد الملك بن أبي الزهر القضاعي الكلبي المزِّي الحلبي المولد، وُلِدَ بظاهر حَلَب في عاشر ربيع الآخر سنة 654، وكان إمامَ عَصرِه وأحَدَ الحُفَّاظ المشهورين، نشأ بالمزَّة بالقُربِ مِن دمشق, فحَفِظَ القرآن الكريم وعُنِيَ باللغةِ وبَرَع فيها وأتقَنَ النحو والتصريف، ثمَّ طلب الحديث سنة 675، فما ونى وما فَتَر ولا لها ولا قَصَّر، في الطلب والاجتهاد والرواية, وصَنَّف وأفاد، وكتب الكثير، لَمَّا وَلِيَ دار الحديث الأشرفي تمذهَبَ للشافعيِّ وأُشهِدَ عليه بذلك. وكان فيه حياءٌ وسكينة، وحِلمٌ واحتمال وقناعة، واطِّراحُ تكَلُّف وتَركُ التجَمُّل والتودُّد والانجماع عن الناسِ وقلة الكلام، إلا أنَّه يُسأل فيُجيب ويجيد، وكلَّما طالت مجالسةُ الطالب له ظهر له فضلُه. وكان لا يتكَثَّر بفضائله، كثيرَ السكوت لا يغتابُ أحدًا. وكان معتَدِلَ القامة مُشرَبًا بحُمرةٍ، قَوِيَّ التركيب مُتِّعَ بحواسِّه وذهنه. وكان قَنوعًا غيرَ متأنقٍ في ملبَسٍ أو مأكلٍ، يصعَدُ إلى الصالحية وغيرها ماشيًا وهو في عشر التسعينَ, وأما معرفته بالرجال فإليه تُشَدُّ الرِّحال؛ فإنه كان الغاية وحامِلَ الراية. ولما ولي دارَ الحديث قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية: "لم يَلِ هذه المدرسةَ مِن حين بنائِها وإلى الآن أحَقُّ منه بشرطِ الواقِفِ، وقد وَلِيَها جماعة كبار مثل: ابن الصلاح، ومحيي الدين النواوي، وابن الزبيدي، لأنَّ الواقِفَ قال: فإن اجتمَعَ مَن فيه الروايةُ ومن فيه الدرايةُ قُدِّمَ مَن فيه الدرايةُ؛ قال الشيخ شمس الدين: لم أرَ أحفَظَ منه، ولم يَرَ هو مثلَ نَفسِه, ولم يسألْني ابن دقيق العيد إلَّا عنه. وكان قد اغتَرَّ في شبيبته وصَحِبَ عفيف الدين التلمساني، فلما تبيَّنَ له مذهبُه هَجَره وتبرَّأ منه, ثم قال الشيخ شمس الدين: قرأت بخطِّ الحافظ فتح الدين ابن سيد الناس: ووجدت بدمشقَ الحافِظَ المقَدَّم، والإمامَ الذي فاق من تأخَّر وتقدم، أبا الحجَّاج المزِّيَّ؛ بحرَ هذا العلم الزاخر، القائِلَ من رآه: كم ترك الأوائِلُ للأواخِر، أحفَظَ النَّاسِ للتراجم، وأعلَمَهم بالرواة من أعارِبَ وأعاجم، لا يخصُّ بمعرفته مصرًا دون مصر، ولا ينفَردُ علمُه بأهل عصر دون عصر، معتمدًا آثارَ السلف الصالح، مجتهدًا فيما نِيطَ به في حفظ السنة من النصائح، مُعرِضًا عن الدنيا وأشباهِها، مُقبِلًا على طريقته التي أربى بها على أربابها، لا يبالي بما ناله من الأزل، ولا يخلط جِدَّه بشَيءٍ مِن الهَزل، وكان بما يصنعه بصيرًا، وبتحقيق ما يأتيه جديرًا، وهو في اللغة إمام، وله بالقريض إلمام". من أهم مُصَنَّفاتِه تهذيب الكمال في أسماء الرجال في أربعة عشر مجلدًا، كشَفَ به الكتب القديمة في هذا الشأن، وسارت به الرُّكبان، واشتهر في حياته، وهو كتابٌ نافِعٌ جدًّا ليس له نظيرٌ في فنه، وألف كتاب " أطراف الكُتُب الستة " في تسعة أسفار, وكان سبَبُ موته هو أنه أصابه طاعون فمَرِضَ عِدَّة أيام حتى إذا كان يوم السبت من الثاني عشر من صفر توفِّيَ بعد صلاة الظهر، فلم يمكن تجهيزُه تلك الليلة، فلما كان من الغدِ يومَ الأحد ثالث عشر صفر صبيحة ذلك اليوم، غُسِّلَ وكُفِّنَ وصُلِّيَ عليه بالجامع الأموي، وحضر القضاةُ والأعيان وخلائِقُ لا يُحصَونَ كثرةً، وخرج بجنازته من باب النصر فصَلَّوا عليه خارج باب النصر، أمَّهم عليه القاضي تقي الدين السبكي الشافعي، وهو الذي صلى عليه بالجامِعِ الأموي، ثم ذهب به إلى مقابر الصوفية، فدفن هناك إلى جانب زوجتِه المرأةِ الصالحة الحافظةِ لكتاب الله: عائشةَ بنتِ إبراهيم بن صديق، غربيَّ قَبرِ شَيخِ الإسلام تقي الدين بن تيمية- رحمهم الله أجمعين.
لَمَّا تَسلطَنَ المَلِكُ المنصور أبو بكر، أصبح همُّه ملذَّات نفسِه، فأصبح هذا شيئًا شائعًا عنه يعرِفُه القاصي والداني، حتى أصبح معروفًا بالشرب وجَلْب المغنيات إلى قَصرِه، حتى قال الأميرُ قوصون الناصري: أهكذا يكون أمرُ سُلطان المسلمين؟! أهكذا كان أبوه يفعَلُ؟! وكانت هذه الكَلِمةُ منه سببًا في الوحشة التي حَصَلت بعد ذلك، ثمَّ لَمَّا استفحل هذا الأمرُ مِن السلطان، قرَّر الأمراءُ خَلْعَه وإخراجَه وإخوتِه من القلعة، فتوجَّه برسبغا في جماعةٍ إلى القلعة، وأخرج المنصورَ وإخوته، وهو سابِعُ سَبعةٍ، ومع كل منهم مملوكٌ صغيرٌ وخادِمٌ وفَرَسٌ وبقجة قماش، وأركبهم برسبغا إلى شاطئ النيل، وأنزلهم في الحراقة، وسافر بهم جركتمر بن بهادر إلى قوص، واتَّفَق الأمراء على إقامة كجك بن محمد بن قلاوون، فكانت مدةُ سلطنة المنصور أبي بكر تسعة وخمسين يومًا، ومن حين قلَّدَه الخليفةُ أربعين يومًا، ومن الاتِّفاق العجيب أنَّ المَلِكَ الناصِرَ أخرج الخليفةَ أبا الربيع سليمان وأولاده إلى قوص مُرَسَّمًا عليهم، فقُوصِصَ بمثلِ ذلك!! وأخرج الله أولادَه مُرَسَّمًا عليهم إلى قوص على يد أقرَبِ الناس إليه، وهو قوصون مملوكِه وثِقَتِه ووصِيِّه على أولاده، ثمَّ في يوم الاثنين حادي عشر صفر أقيم المَلِكُ الأشرف علاء الدين كجك بن الناصر محمد بن قلاوون سُلطانًا، ولم يَكمُلْ له من العمر خمس سنين، وقيل: كان عمره دون سبع سنين، ولَمَّا تم أمرُه في السلطنة جلس الأمراء وتشاوروا فيمن يُقيموه في نيابةِ السَّلطنةِ فرُشِّحَ الأمير أيدغمش أمير آخور، فامتنعَ أيدغمش من ذلك، فوقع الاتفاقُ على الأمير قوصون الناصري، فأجاب وشَرَط على الأمراء أن يقيمَ على حاله في الأشرفيَّة من القلعة ولا يخرُج منها إلى دار النيابةِ خارِجَ باب القلة من القلعة، فأجابه الأمراءُ إلى ذلك، فاستقَرَّ من يومه في النيابة، وتصَرَّف في أمورِ الدولة.
هو الملِكُ الأفضَلُ علاء الدين عليُّ ابنُ المَلِك المؤيَّد عماد الدين إسماعيل ابن الملك الأفضل علي ابن الملك المظفر محمود ابن الملك المنصور محمد ابن الملك المظفر تقي الدين عمر بن شاهنشاه ابن الأمير نجم الدين أيوب بن شادي الأيوبي صاحِب حماة وابن صاحبها، مات بدمشقَ، وهو من جملةِ أمرائها بعدما باشر سلطنةَ حماة عشرينَ سَنةً إلى أن نقَلَه قوصون إلى إمرة الشام؛ وولِيَ نيابةَ حماة بعده الأميرُ طقزدمر الحموي، وكانت وفاتُه في ليلة الثلاثاء حادي عشر ربيع الآخر عن ثلاثينَ سنة.
في يومِ الخَميسِ أول شعبان خُلِعَ السُّلطانُ المَلِكُ الأشرف علاء الدين كجك من السُّلطة، وكانت مدته خمسة أشهر وعشرة أيام لم يكُنْ له فيها أمرٌ ولا نهي، وتدبيرُ أمورِ الدَّولةِ كُلِّها إلى قوصون، وكان إذا حضرت العلائِمُ أعطِيَ السُّلطانُ قَلمًا في يده وجاء فقيهُه المغربيُّ الذي يقرئ أولادَ السلطان ويكتبُ العلامةَ والقَلمُ في يد السلطانِ علاء الدين، فلما استولى الأميرُ أيدغمش على الدَّولةِ بعد قوصون، وقَرَّر مع الأمراء خَلْعَ الأشرف كجك في يوم الخميس أوَّلَ شعبان، بعث الأميرُ جنكلي بن البابا، والأميرُ بيبرس الأحمدي، والأمير قماري أمير شكار إلى السُّلطانِ أحمد بن النَّاصِر محمد بن قلاوون بالكرك بكُتُب الأمراءِ يُخبِرونَه بما وقع، ويستدعونَه إلى تخت مُلكِه، فلمَّا كان يومُ الأربعاء سابع عشر رمضان قَدِمَ قاصِدُ السلطان إلى الأمير أيدغمش بأنَّ السلطان يأتي ليلًا من باب القرافة، وأمَرَه أن يفتح له بابَ السِّرِّ حتى يعبُرَ منه، ففتحه، وجلس أيدغمش وألطنبغا المارداني حتى مضى جانِبٌ من ليلة الخميس الثامن عشر منه، أقبل السُّلطانُ في نحو العشرةِ رجالٍ من أهل الكرك، وقد تلَثَّمَ وعليه ثيابٌ مُفَرَّجة، فتلَقَّوه وسلموا عليه، فلم يقِفْ معهم، وأخذ جماعَتَه ودخل بهم، ورجع الأمراءُ وهم يتعَجَّبون من أمرِه، وأصبحوا فدُقَّت البشائِرُ بالقلعة، وزُيِّنَت القاهرةُ ومصر، فلما كان يوم الاثنين عاشر شوال أُلبِسَ السلطان، وجلس على تخت الملك، وقد حضر الخليفةُ الحاكِمُ بأمرِ الله وقضاة مصر الأربعة، وقُضاة دمشق الأربعة، وجميع الأمراء والمقدمين، وعهد إليه الخليفة، وقَبَّل الأمراء الأرض على العادة.
بعد هزيمةِ جَيشِ مَلِك المرينيين أمام تحالُفِ الأسبان، تشَجَّع مَلِكُ قشتالةَ للعَودِ إلى غزو غرناطةَ فتابعَ حُروبَه عليها واستولى على قلعةِ بني سعيدٍ، فأثار هذا الحميَّةَ لدى مَلِك بني مرين أبي الحَسَن علي بن عثمان، فأراد الانتقامَ مِن هزيمتِه الماضية، فأرسل أسطولًا بحريًّا إلى بحرِ الزقاق من مضيقِ جَبل طارق، فالتقى بجيش قشتالة في معركةٍ بحرية كانت فيها هزيمةُ جيش مَلِك بني مرين مرة أخرى، وتمَزُّق أسطوله الذي أرسله، ثم توجَّه الجيش الفرنجي إلى غرناطة فنَصَبوا عليها أكثَرَ مِن عَشرةِ مجانيق حتى صالحهم مَلِكُ غرناطة على مالٍ يؤدِّيه كُلَّ عام، وأن يكون الصلحُ بينهم عشرَ سنين.
أهلَّت هذه السَّنةُ والنَّاسُ في أمرٍ مَريجٍ؛ لغيبة السلطانِ النَّاصِرِ أحمد بالكرك، وعند الأمراءِ تشوُّش كبير، ثمَّ قَدِمَ كِتابُ السلطان إلى الأمراءِ يُطَيِّبُ خواطِرَهم، ويُعَرِّفُهم أنَّ مِصرَ والشام والكرك له، وأنَّه حيث شاء أقام، ورسم أن تُجهَّزَ له الأغنامُ مِن بلاد الصعيد، وأكَّد في ذلك، وأوصى آقسنقر بأن يكون مُتَّفِقًا مع الأمراءِ على ما يكون من المصالحِ، فتنكَّرَت قلوبُ الأمراء ونفَرَت خواطرهم، واتَّفَقوا على خَلعِ السلطان وإقامة أخيه إسماعيل في يومِ الأربعاء حادي عشر المحرم، فكانت مدة ولايته ثلاثةَ أشهر وثلاثة عشر يومًا، منها مدَّةُ إقامته بالكرك ومراسيمُه نافذة بمصرَ أحد وخمسون، وإقامته بمصرَ مدة شهرين وأيام، وكانت سيرتُه سيئة، نَقَم الأمراءُ عليه فيها أمورًا، منها أنَّ رُسُلَه التي كانت تَرِدُ مِن قِبَلِه إلى الأمراء برسائِلِه وأسرارِه أوباشُ أهل الكرك، فلما قَدِموا معه إلى مصر أكثَروا من أخذِ ولاياتٍ ومِناصِبَ وهم غيرُ أهل لها، ومنها تحكُّمهم على الوزيرِ وغَيرِه، وحَجْبُهم السلطانَ حتى عن الأمراءِ والمماليك وأربابِ الدولة، فلا يمكِنُ أحدًا من رؤيتِه سوى يومي الخميس والاثنين نحو ساعة، ومع ذلك فإنَّه جمع أموالَ أبيه وغيرها من الأموال والحيواناتِ والمتاع ونَقَله كُلَّه إلى الكرك، ثم جلس السلطانُ الجديدُ الصالحُ إسماعيلُ على تخت الملك يوم الخميسِ ثاني عشر المحرم، بعد خَلْعِ أخيه باتِّفاقِ الأمراء على ذلك؛ لأنَّه بلَغَهم عنه أنَّه لَمَّا أخرجه الأميرُ قوصون فيمن أُخرِجَ إلى قوص أنَّه كان يصومُ يومي الاثنين والخميس، ويشغَلُ أوقاته بالصَّلاةِ وقراءة القرآن، مع العِفَّة والصيانة عمَّا يُرمَى به الشباب من اللهو واللعب، وحَلَف له الأمراءُ والعساكر، وحَلَف لهم السلطانُ ألَّا يؤذيَ أحدًا، ولا يقبِضَ عليه بغير ذنب يُجمَعُ على صِحَّتِه، ودُقَّت البشائِرُ، ولُقِّبَ بالملك الصالح عماد الدين، ونودي بالزِّينة.
لَمَّا خُلِعَ السلطانُ الناصِرُ تحصَّن بالكركِ، فرَسَم السلطانُ الصَّالِحُ إسماعيلُ بإحضار المجرَّدين إلى الكرك وعيَّنَ عِوَضَهم تجريدةً أخرى إلى الكرك، وهي التجريدةُ السابعة، فيها الأميرُ بيبرس الأحمدي، والأمير كوكاي، وعشرون أمير طبلخاناه، وستة عشر أمير عشرة، وكتب بخروج عسكرٍ أيضًا من دمشق ومعهم المنجنيق والزحَّافات، وأرسل أيضًا مع الأحمدي أربعةَ آلاف دينار لِمن عساه ينزِلُ إليه من قلعة الكركِ طائعًا، وجهَّزَ معه تشاريفَ كثيرةً، وعُيِّنَت لهم الإقاماتُ، وكان الوقتُ شِتاءً، فقاسَوا من الأمطار مشقاتٍ كثيرة، وأقاموا نحو شهرين، فاستعَدَّ لهم المَلِكُ الناصر، وجمع الرجالَ وأنفق فيهم مالًا كثيرًا، وفَرَّق فيهم الأسلحةَ المُرصَدة بقلعة الكرك، ورَكِبَ المنجنيق الذي بها، ووقَعَ بينهم القتالُ والحصارُ، واشتَدَّ الحصارُ على المَلِك الناصر بالكرك، وضاقت عليه هو ومن معه لقِلَّة القوت، وتخلَّى عنه أهل الكرك، وضَجِروا من طولِ الحصار، ووعَدوا الأمراءَ بالمساعدة عليه، فحُمِلَت إليهم الخِلَع ومبلغَ ثمانين ألف درهم، هذا وقد استهَلَّ السلطان في أول سنة 745 بتجريدةٍ ثامنة إلى الكرك، وعيَّنَ فيها الأمير منكلي بغا الفخري والأميرَ قماري والأمير طشتمر طلليه؛ ولم يجِد السلطانُ في بيت المال ما ينفِقُه عليهم، فأخذ مالًا من تجارِ العَجَم ومن بنت الأمير بكتمر الساقي على سبيل القَرضِ، وأنفق فيهم، وخرج المجرَّدون في يوم الثلاثاء حادي عشر المحرم سنة 745، وهؤلاء نجدة لمن توجَّه قبلهم خوفًا أن يمَلَّ مَن كان توجَّه من القتال، فيجِدَ النَّاصِرُ فرجًا بعَودِهم عنه، وقُطِعَت الميرة عن الملك الناصر، ونَفِدَت أموالُه من كثرة نفقاته، فوقع الطَّمَعُ فيه، وأخَذَ بالغ- وكان أجَلَّ ثقات الناصر- في العمل عليه، وكاتَبَ الأمراء ووعدهم بأنه يُسَلِّمَ إليهم الكرك، وسأل الأمانَ، فكُتِب إليه من السلطانِ أمانٌ، وقَدِمَ إلى القاهرة ومعه مسعودٌ وابن أبي الليث، وهما أعيانُ مشايخ الكرك، فأكرمهم السلطان وأنعم عليهم، وكتب لهم مناشيرَ بجميع ما طلبوه من الإقطاعاتِ والأراضي، وكان من جملة ما طلبه بالِغ وحده نحو أربعمائة وخمسين ألف درهم في السنة، وكذلك أصحابُه، ثم أعيدوا إلى الكركِ بعدما حلفوا، ثم ركب العسكر للحرب، وخرج الكركيون فلم يكن غيرُ ساعة حتى انهزموا منهم إلى داخِلِ المدينة، فدخل العسكر أفواجًا واستوطنوها، وجَدُّوا في قتال أهل القلعةِ عِدَّة أيام، والناسُ تَنزِلُ إليهم منها شيئًا بعد شيءٍ حتى لم يبقَ عند الملك الناصر أحمد بقلعةِ الكرك سوى عشرة أنفُس، فأقام يرمي بهم على العسكر وهو يجِدُّ في القتال ويرمي بنفسِه، وكان قويَّ الرميِ شُجاعًا، إلى أن جُرِحَ في ثلاثة مواضع، وتمكَّنَت النقابة من البرج وعَلَّقوه وأضرموا النار تحته، حتى وقع، وكان الأميرُ سنجر الجاولي قد بالغ أشَدَّ مبالغة في الحصار، وبذل فيه مالًا كثيرًا، ثم هجم العسكرُ على القلعة في يوم الاثنين الثاني والعشرين من صفر سنة 745 فوجدوا الناصِرَ قد خرج من موضِعٍ وعليه زردية، وقد تنكَّب قَوسَه وشَهَر سَيفَه، فوقفوا وسَلَّموا عليه، فردَّ عليهم وهو متجَهِّم، وفي وجهِه جرحٌ وكَتِفُه أيضًا يسيلُ دمًا، فتقَدَّم إليه الأمير أرقطاي والأمير قماري في آخرين، وأخذوه ومَضَوا به إلى دهليز الموضِعِ الذي كان به وأجلَسوه، وطَيَّبوا قلبه وهو ساكِتٌ لا يجيبهم، فقَيَّدوه ووكَلوا به جماعة، ورتَّبوا له طعامًا، فأقام يومَه وليلته، ومن باكِرِ الغد يُقَدَّمُ إليه الطعام فلا يتناوَلُ منه شيئًا إلى أن سألوه أن يأكُلَ، فأبى أن يأكُلَ حتى يأتوه بشابٍّ يقال له عثمان، كان يهواه، فأتوَه به فأكل عند ذلك، وخرج الأميرُ ابن بيبغا حارس طير بالبشارةِ إلى السلطانِ الملك الصالح، وعلى يَدِه كتب الأمراء، فقَدِمَ قلعة الجبل في يوم السبت ثامن عشرين صفر، فدُقَّت البشائِرُ سبعة أيام، وأخرج السلطانُ منجك اليوسفي الناصريَّ السلاح دار ليلًا من القاهرة لقَتلِ الملك الناصر أحمد من غير مشاورةِ الأمراء في ذلك، فوصل إلى الكرك وأُدخِلَ على الملك الناصر وأخرَجَ الشابَّ مِن عنده، ثم خنَقَه في ليلة رابع شهر ربيع الأول، وقَطَع رأسه، وسار من ليلته ولم يَعلَمِ الأمراءُ ولا العسكَرُ بشيء من ذلك، حتى أصبحوا وقد قطع منجك مسافة بعيدةً، وقدم منجك بعد ثلاثةِ أيام قلعة الجبل ليلًا، وقَدَّم الرأسَ بين يدي السلطان- وكان ضخمًا مهولًا له شعر طويل- فاقشعَرَّ السلطان عند رؤيته وبات مرجوفًا، وطلب الأمير قبلاي الحاجب، ورسم له أن يتوجَّهَ لحفظ الكرك إلى أن يأتيَه نائبٌ لها، وكتب السلطانُ بعود الأمراء والعساكر المجردين إلى الكرك، فكانت مُدَّةُ حصار الملك الناصر بالكرك سنتين وشَهرًا وثلاثةَ أيام.
في يومِ عَرَفةَ بعَرَفةَ وقعت فتنةٌ بين العَرَبِ والحُجَّاج من قَبلِ الظُّهرِ إلى غروبِ الشَّمسِ، قُتِلَ فيها جماعةٌ، وسَبَبُها أنَّ الشَّريفَ رُميثة بن أبي نُمي أميرَ مكَّةَ شكا من بني حَسَن إلى أميرِ الحاجِّ، فركِبَ أميرُ الحاجِّ في يوم عرفة بعرفة لحَربِهم، وقاتَلَهم وقَتَلَ مِن التُّركِ سِتَّة عشر فارسًا، وقَتَل من جماعةِ بني حسن عِدَّة، وانهزم بقيَّتُهم، فنفر النَّاسُ مِن عَرَفةَ على تخوُّف، ولم يُنهَبْ لأحدٍ شَيءٌ، ولا تزال بنو حَسَن بمِنًى، ثمَّ رحل الحاجُّ بأجمَعِهم يومَ النَّفرِ الأوَّل، ونزلوا الزاهِرَ خارجَ مكة، وساروا منه ليلًا إلى بطنِ مرو، وقيل غير ذلك، فقيل إنه لما كان يومُ عرفة تنافر أشرافُ مكَّةَ مع الأجناد من مِصرَ، فركبوا لحَربِهم بُكرةَ النهار، ووقفوا للحَربِ صَفَّين، فمشى الشريفُ عجلان بينهم، فلم تُطِعْه الأشرافُ، وحملوا على الأجنادِ وقاتلوهم، فقُتِلَ منهم ومن العامَّة جماعة، وأبلى الشريفُ عجلان بن عقيل وأبلى كذلك الأميرُ أيدمر بلاءً عظيمًا، فعاتبه بعضُ مماليك الأمير بشتاك، ورماه بسَهمٍ في صدره ألقاه عن فَرَسِه، وقُتِلَ معه أيضًا جماعة، وآلَ الأمرُ إلى نهبِ شيءٍ كثير، ثم تراجَعَ عنهم الأشرافُ.
كان الأميرُ أقسنقر السلاري في نيابتِه لا يَرُدُّ قصَّةً تُرفَعُ إليه، فقصده الناسُ مِن الأقطار وسألوه الرِّزقَ والأراضيَ التي أنْهَوا أنها لم تكنْ بيَدِ أحَدٍ، وكذلك نيابات القلاع وولايات الأعمالِ والرواتب وإقطاعات الحلقة. فلم يرُدَّ أحدًا سأله شيئًا من ذلك سواءٌ كان ما أنهاه صحيحًا أم باطلًا. فإذا قيل له: هذا الذي أنهاه يحتاجُ إلى كَشفٍ، تغَيَّرَ وَجهُه وقال: ليش تقطع رزق الناسِ؟ فإذا كتَبَ بالإقطاعِ لأحدٍ وحضَرَ صاحِبُه مِن سَفَرِه أو تعافى مِن مَرَضِه وسألَه في إعادتِه، قال له: رحْ خذ إقطاعَك، أو يقول له: نحن نعَوِّضُك. ففسدت الأحوالُ ولا سيَّما بالمملكة الشاميَّة، فكتب النوابُ بذلك للسُّلطانِ، فكَلَّمه السلطانُ فلم يرجِعْ وقال: كلُّ من طلب مني شيئًا أعطيتُه وما أردُّ قَلمي عن أحدٍ، بحيث إنَّه كانت تُقَدَّمُ له القصَّةُ وهو يأكُلُ فيترُكُ أكلُه ويكتُبُ عليها من غيرِ أن يعرِفَ ما فيها، فأغلظَ له بسَبَبِ ذلك آقسنقر الناصري أمير أخور. واتَّفَق مع ذلك أنَّه وشى به أنه يباطنُ للنَّاصِرِ أحمد ويواصِلُ كُتُبَه إليه، فقرر أرغون العلائي مع السلطانِ مَسْكَه، فمُسِكَ هو وحاشيتُه، وفي يوم الجمعة ثاني عَشَرِه خَلَعَ السلطانُ آقسنقرَ السلاري. وكان العلائيُّ قد قرَّرَ مع السلطانِ أن يَعرِضَ على الأمراءِ نيابةَ السلطنة، فأوَّلُ مَن عُرِضَت عليه الأميرُ بدر الدين جنكلي بن البابا فامتنع، فقالوا بعده للأميرِ الحاج آل ملك الجوكندار، فأظهر البِشْرَ وأجاب لها إن قُبِلَت شُروطُه، فلما طلع الأميرُ الحاج آل ملك لصلاة الجمعةِ على العادة اشترط على السلطانِ ألَّا يفعَلَ شَيئًا في المملكة إلَّا برأيه وأنه يَمنَعُ الخمرَ مِن البيعِ ويُقيمُ مَنارَ الشَّرعِ، وأنَّه لا يُعارَضُ فيما يفعَلُه، فقَبِلَ السلطان شروطَه ولبس الأميرُ الحاج آل ملك تشريفَ النيابة بجامِعِ القلعة بعد صلاة الجمعة. وأنعم عليه السلطانُ زيادةً على إقطاعِ النيابة بناحيتي المطرية والخصوص ومتحَصَّلهما أربعمائة ألف وخمسين ألف درهم. وفي يوم السبت ثالث عَشَرِه: خلع السلطانُ علي منكلي بغا الفخري واستقَرَّ أمير جندار عوضًا عن بيغرا. وفيه فتح شباك النيابة وجَلَس فيه الأمير الحاج آل ملك للمُحاكَماتِ.
اتَّفَق بظاهِرِ القاهرةِ أمرٌ اعتُنِي بضَبطِه، وهو أنَّه كان بناحية اللوق كوم يُعرفُ بكوم الزل يأوي إليه أهلُ الفسوق من أوباشِ العامَّة، فأخذ بعضُهم منه مَوضِعًا ليبنيَ له فيه بيتًا، فشَرَع في نقل الترابِ منه، فبينا هو يحفِرُ إذ ظهر له إناءُ فخَّار فيه مكاتيبُ دار كانت في هذا البُقعةِ، وتدُلُّ على أنه كان به أيضًا مَسجِدٌ، ورأى آثار البنيان، فأشاع أحدُ شياطينِ العامَّة- وكان يقال له شُعَيبٌ- أنَّه رأى في نَومِه أنَّ هذا البنيان على قَبرِ بعض الصحابة رَضِيَ الله عنهم، وأنَّ مِن كراماتِه أنَّه يُقيمُ المُقعَد ويَرُدُّ بصَرَ الأعمى، وصار يصيحُ ويُهَلِّلُ ويُظهِرُ اختلالَ عَقلِه، فاجتمَعت عليه الغوغاء، وأكثروا مِن الصياح، وتناولوا تلك الأرضَ بالحَفرِ حتى نزلوا فيها نحوَ قامتينِ، فإذا مَسجِدٌ له محرابٌ، فزاد نشاطُهم، وفَرِحوا فرحًا كبيرًا، وباتوا في ذِكرٍ وتَسبيحٍ، وأصبَحوا وجَمَعَهم نحو الألف إنسان، فشالوا ذلك الكوم، وساعَدَهم النساء، حتى إنَّ المرأة كانت تشيل الترابَ في مقنَعِها، وأتاهم الناسُ مِن كل أَوبٍ، ورفعوا معهم الترابَ في أقبِيَتِهم وعمائِمِهم، وألقَوه في الكيمان، بحيث تهيَّأَ لهم في يومٍ واحدٍ ما لا تفي مُدَّةُ شَهرٍ بنَقلِه، وحَفَر شُعَيبٌ حُفرةً كبيرة، وزعم أنَّها مَوضِعُ الصحابي، فخرج إليه أهلُ القاهرة ومصر أفواجًا، وركِبَ إليه نِساءُ الأمراءِ والأعيان، فيأخُذُهنَّ شُعَيبٌ ويُنزِلُهنَّ تلك الحفرة لزيارتِها، وما منهنَّ إلَّا من تدفَعُ الدنانيرَ والدَّراهم، وأشاع شُعَيبٌ أنه أقام الزَّمنى، وعافى المرضى، وردَّ أبصارَ العِميانِ، في هذه الحُفرة، وصار يأخذُ جماعةً مِمَّن يُظهِرُ أنَّه من أهل هذه العاهات، ويَنزِلُ بهم إلى الحُفرةِ، ثم يُخرِجُهم وهم يُسَبِّحونَ: الله أكبر الله أكبر، ويزعُمونَ أنَّهم قد زال ما كان بهم، فافتَتَن الناس بتلك الحُفرة، ونزلت أمُّ السلطانِ لزيارتها، ولم تبقَ امرأةٌ مشهورة حتى أتتها، وصار للنَّاسِ هناك مجتَمَعٌ عظيم، بحيث يُسرَجُ به كلَّ ليلة نحو مائتي قنديل، ومن الشُّموعِ الموكبيَّة شيءٌ كثير، فقامت القضاةُ في ذلك مع الأميرِ أرغون العلائي والأمير الحاج آل ملك نائب السُّلطان، وقَبَّحوا هذا الفِعلَ، وخَوَّفوا عاقبَتَه، حتى رُسِمَ لوالي القاهرة أن يتوجَّهَ إلى مكان الحفرة ويكشِفَ أمْرَها، فإن كان فيها مقبورٌ يُحمَلُ إلى مقابِرِ المُسلِمينَ ويُدفَنُ به سِرًّا، ثمَّ يُعفى الموضِعُ، فلما مضى إليه ثارت به العامَّةُ تُريدُ رَجْمَه، وصاحوا عليه بالإنكارِ الشَّنيعِ حتى رماهم الجُندُ بالنشَّاب، فتفَرَّقوا، وهَرَب شُعَيبٌ ورفيقه العجوي، وما زال الحفَّارون يعملون في ذلك المكانِ إلى أن انتَهَوا فيه إلى سرابِ حمام، ولم يجدوا هناك قبرًا ولا مَقبورًا، فطَمُّوه بالتراب، وانصَرَفوا، وقد انحَلَّت عزائِمُ النَّاسِ عنه، بعدما فُتِنوا به، وضَلُّوا ضلالًا بعيدًا، وجَمَع شُعَيبٌ ورفيقه كثيرًا من المالِ والثيابِ شيئًا طائلًا!!
أمر نائِبُ السُّلطانِ الأميرُ الحاج آل ملك والي القاهرة بأن يُنزَل إلى خزانة البنود بالقاهرة، ويُحتاطَ على ما بها من الخَمرِ والبغايا، ويخرج مَن فيها من النَّصارى الأسرى، ويريق ما هناك من الخُمور، ويخرِّبها حتى يجعَلَها دكًّا، وسبَبُ ذلك أنَّ خِزانةَ البنود كانت يومئذٍ حانةً، بعدما كانت سجنًا يُسجَنُ فيه الأمراءُ والجُندُ والمماليك، كما أنَّ خِزانةَ شمائِل سجنٌ لأرباب الجرائِمِ من اللصوصِ وقُطَّاع الطريق، فلما كانت دولةُ السلطان الملك الناصر محمَّد بن قلاوون بعد عَودِه من الكرك، وشُغِفَ بكثرةِ العماراتِ، اتَّخَذ الأسرى وجَلَبَهم إلى مصر من بلاد الأرمن وغيرها، وأنزَلَ عِدَّةً كثيرةً منهم بقلعة الجبل، وجماعةً كثيرة بخزانة البنود، فملأ أولئك الأرمن خزانةَ البنود حتى بطل السِّجنُ بها، وعَمَرها السلطانُ الناصر مساكِنَ لهم، وتوالدوا بها، وعَصَروا الخمورَ بحيث إنَّهم عصروا في سنة واحدة اثنتين وثلاثين ألف جَرَّة، باعوها جِهارًا، وكان لحمُ الخنزير يُعَلَّقُ عندهم على الوضم، ويباعُ مِن غيرِ احتشامٍ، واتَّخَذوا عندهم أماكِنَ لاجتماع النَّاسِ على المحَرَّمات، فيأتيهم الفُسَّاق ويظَلُّونَ عندهم الأيامَ على شُربِ الخُمورِ ومُعاشرة الفواجِر والأحداثِ، ففَسَدت حُرَمٌ كثيرةٌ من الناسِ وكثيرٌ مِن أولادِهم وجماعةٌ مِن مماليك الأمراءِ فسادًا شَنيعًا، حتى إنَّ المرأةَ إذا تركت أهلَها أو زوجَها، أو الجاريةَ إذا تركت مواليَها، أو الشَّابَّ إذا ترك أباه، ودخل عند الأرمن بخزانةِ البنودِ، لا يقدِرُ أن يأخُذه منهم، ولو كان مَن كان! فقام الأميرُ الحاج آل ملك في أمرِهم، وفاوض السُّلطانَ المَلِكَ الناصِرَ محمدَ بن قلاوون في فسادِهم غيرَ مرة، فلم يجِبْه إلى أن أكثَرَ عليه، فغَضِبَ السلطان عليه، وقال له: يا حاج! كم تشتكي مِن هؤلاء، إن كان ما يُعجِبُك مُجاوَرَتَهم انتَقِلْ عنهم! فشَقَّ ذلك عليه، وركِبَ إلى ظاهر الحُسَينية واختار مكانًا، وعَمَره دارًا، وأنشأ بجانِبِها جامعًا، وحَمَّامًا ورَبْعًا وحوانيت، وبَقِيَت في نفسِه حزازاتٌ حتى أمكنَتْه القدرةُ منهم، وانبسَطَت يدُه فيهم بكونِه نائِبَ السُّلطانِ، فنزل والي القاهرةِ ومعه الحاجِبُ وعِدَّةٌ من أصحاب النائِبِ، وهجموا خزانةَ البنود، وأخرجوا جميعَ سُكَّانِها، وكَسَروا أوانيَ الخَمرِ، فكانت شيئًا يجِلُّ وَصفُه كثرةً، وهدموها واشترى أرضَها الأميرُ قماري مِن بيت المالِ، وتقَدَّمَ إلى الضياء المحتَسِب أن يناديَ بتَحكيرِها، فرَغِبَ النَّاسُ في أرضها واحتكَروها، وبَنَوها دُورًا وطواحينَ وغَيرَها، فكان يومُ هَدمِ خزانة البنود يومًا مَشهودًا من الأيامِ المشهورةِ المذكورة، عَدَلَ هَدْمُها فتحَ طرابلُس وعكا؛ لكثرةِ ما كان يُعمَلُ فيه بمعاصي اللهِ! ثمَّ طلب النائِبُ الأميرُ الحاج واليَ القلعةِ، وألزَمَه أن يفعَلَ ذلك ببيوت الأسرى من القلعةِ، فمضى إليها وكَسَّر جِرارَ الخَمرِ التي بها، وأنزلهم من القلعةِ، وجعَلَهم مع نصارى خزانةِ البنود في مَوضِعٍ بجوار الكوم، فيما بين جامِعِ ابن طولون ومصر، فنزلوه واتخَذوا به مساكِنَهم، وكانت الأسرى التي بالقلعة من خواصِّ الأسرى، وعليهم كان يعتَمِدُ السلطان المَلِكُ الناصر محمد بن قلاوون في أمر عمائِرِه، وكانوا في فَسادٍ كبيرٍ مع المماليكِ وحرَمِ القلعةِ، فأراح الله منهم، ثم رسم الأميرُ الحاج آل ملك النائب بتتَبُّع أهل الفساد، فمَنَع الناسَ مِن ضَربِ الخِيَم على شاطئ النيلِ بالجزيرةِ وغَيرِها للنُّزهة، وكانت محلَّ فَسادٍ كبيرٍ؛ لاختلاطِ الرِّجالِ فيها بالنِّساءِ، وتعاطيهم المُنكَرات.
وصَلَت رسُلُ مَلِك الهند بهَديَّة فيها فصان ياقوت، ومعهم كتابٌ يتضَمَّنُ السلام والمودَّة، وأنَّهم لم يكونوا يَعرِفونَ الإسلامَ حتى أتاهم رجلٌ عَرَّفَهم ذلك، وذكرَ لهم أنَّ ولاية المَلِك لا بُدَّ أن تكون من الخليفةِ، وسأل مَلِكُ الهند أن يُكتَبَ له تقليدٌ مِن جهة الخليفة بولايةِ مَملكةِ الهند ليكونَ نائبًا عن السلطانِ بتلك البلاد، وأن يَبعَثَ السُّلطانُ إليهم رجلًا يعَلِّمُهم شرائِعَ الإسلام من الصَّلاةِ والصيامِ ونحو ذلك، فأُكرِمَت الرسُلُ، وطلب من الخليفةِ أن يكتُبَ تقليدًا لمُرسِلِهم بسلطنة الهند، فكُتِبَ له تقليدٌ جليلٌ، ورَسَم بسَفَرِ ركن الدين الملطي شيخِ الخانكاه الناصريَّة بسرياقوس مع الرُّسُل.
هو الشَّيخُ الإمامُ العلَّامة الناقِدُ في فنون العلوم: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن الشيخ عماد الدين أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قدامة المقدسي الحنبلي، من تلاميذ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ. كان مولِدُه في رجب سنة 705. توفي ولم يبلغِ الأربعين، وكان قد حَصَّل من العلومِ ما لا يَبلُغُه الشُّيوخُ الكبار، وتفَنَّنَ في الحديث والنحو والتصريف والفقه والتفسير والأصلين، والتاريخ والقراءات، وله مجاميعُ وتعاليقُ مُفيدة كثيرة, وكان حافِظًا جيِّدًا لأسماءِ الرجال وطُرُقِ الحديث، عارفًا بالجَرحِ والتعديل، بصيرًا بعِلَلِ الحديث، حَسَن الفَهمِ له، جَيِّد المذاكرة، صَحيحَ الذِّهنِ مُستقيمًا على طريقةِ السَّلَفِ، واتِّباع الكِتابِ والسنَّة، مثابرًا على فِعلِ الخيرات، ومن مصنَّفاته كتاب العلل، وهو مؤلِّفُ كِتاب العقود الدريَّة في مناقب شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّة، وله كتاب قواعد أصول الفقه، وفضائل الشام، والأحكام في الفقه، وغيرها كثير, وكان قد مَرِضَ قريبًا من ثلاثة أشهر بقُرحة وحُمَّى سُل، ثم تفاقم أمرُه وأفرط به إسهالٌ، وتزايد ضَعفُه إلى أن توفِّيَ يوم الأربعاء عاشرَ جمادى الأولى قبل أذانِ العصر، وكان آخِرَ كلامِه أنْ قال: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا رَسولُ الله، اللهُمَّ اجعَلْني من التوَّابينَ واجعَلْني من المتطَهِّرينَ، فصُلِّيَ عليه يومَ الخميس بالجامِعِ المظفري وحضر جنازتَه قُضاةُ البلد وأعيانُ الناس من العلماء والأمراء والتجَّار والعامة، وكانت جنازتُه حافلةً، ودُفِن بالروضة.