جهَّز الملكُ الظاهر عسكرًا إلى حَلَب، وكان مُقَدَّمُهم شمس الدين سنقر الرومي، فأَمِنَت بلاد حلب وعادت إلى الصَّلاح، ثم تقَدَّم الملك الظاهر بيبرس إلى سنقر الرومي إلى صاحِبِ حماة الملك المنصور، وإلى صاحِبِ حمص الملك الأشرف موسى أن يسيروا إلى أنطاكيةَ، للإغارة عليها، فساروا إليها ونَهَبوها وضايقُوا الفرنجَ فيها، ثم عادُوا، فتوجَّهَت العساكرُ المصريَّة بصُحبة سنقر الرومي إلى مصر، ووصلوا إليها في تاسع وعشرين رمضان من هذه السنة، ومعهم ما ينَيِّف عن ثلاثمائة أسير، فقابلهم الملكُ الظاهرُ بالإحسان والإنعام.
هو الأمير الكبيرُ سَيفُ الدين بلبان المعروف بالزردكاش. من أمراء دمشقَ الأعيان، وكان دَينًا مشكورًا، وقد استنابه بيبرس موضِعَه بدار العدل على دمشق لما سافر إلى حصار أنطاكية، وكان دَيِّنًا خيِّرًا يحب العدل والصلاح. مات في الثامن من ذي الحجة من هذه السنة.
قَدِمَت رسلُ بركة خان إلى السلطانِ الظاهرِ بيبرس يقول له: قد عَلِمتَ محبَّتي للإسلام، وعَلِمتَ ما فعَلَ هولاكو بالمسلمين، فاركَبْ أنت من ناحيةٍ حتى آتيَه أنا من ناحيةٍ حتى نصطَلِمَه أو نخرِجَه من البلاد. فالتقى بركة خان وهولاكو ومع كلِّ واحدٍ جيوشٌ كثيرة فاقتتلوا فهزم اللهُ هولاكو هزيمةً فظيعةً وقُتِلَ أكثر أصحابه وغَرِقَ أكثر من بقي، وهرب هو في شرذمةٍ يسيرةٍ، ولله الحمد، ولما نظَرَ بَركة خان كثرة القتلى قال: يعِزُّ علي أن يقتل المغولُ بعضُهم بعضًا، ولكن كيف الحيلةُ فيمن غيَّرَ سُنَّة جنكيز خان، ثم أغار بركة خان على بلادِ القسطنطينية فصانعه صاحِبُها وأرسل الظاهِرُ هدايا عظيمةً إلى بركه خان.
أرسل بركة خان المغولي رسلًا إلى السُّلطان الظاهر بيبرس يطلُبُ منه أن يتحالَفَ معه ضِدَّ هولاكو، وخاصَّةً أنه قد أسلَمَ ووقَعَ بينه وبين هولاكو من الخلافِ، فأكرم الظاهِرُ بيبرس الرسُلَ، ثمَّ أرسل هو بدوره رسلًا إلى بركة خان يعرِّفُه بموافقته على هذا الأمر مِن تحالُفِهما ضد هولاكو، وكتب الظاهِرُ إلى ملك شيراز وأهل تلك الديار، وإلى عرب خفاجة، يستحثُّهم على قتالِ هولاكو مَلَكِ التتار، وأن الأخبارَ قد وردت من البحرِ بكَسرِ الملكِ بركة له غيرَ مَرَّة.
دخل الخليفة أبو العبَّاس الحاكِمُ بأمر الله أحمد بن الأمير أبي علي القبي بن الأمير علي بن الأمير أبي بكر بن الإمام المسترشد بالله بن المستظهر بالله أبي العباس أحمد, من بلاد الشرق وبصحبته جماعةٌ من رؤوس تلك البلاد، وقد شَهِدَ الوقعةَ بصحبة المستنصر الذي قُتِلَ فيها، وهرب هو في جماعةٍ مِن المعركة فسَلِمَ، فلما كان يومُ دخوله إلى مصر تلقَّاه السلطان الظاهر وأظهر السرورَ له والاحتفال به، وأنزله في البرجِ الكبير من قلعة الجبل، وأُجرِيَت عليه الأرزاق الدارَّة والإحسان، ثم في ثاني المحرم وهو يوم الخميس، جلس السلطانُ الظاهر والأمراء في الإيوان الكبير بقلعة الجبل، وجاء الخليفةُ الحاكم بأمر الله راكبًا حتى نزل عند الإيوان، وقد بسط له إلى جانب السلطان، وذلك بعد ثبوت نسبه، ثم قُرئَ نَسَبُه على الناس ثم أقبَلَ عليه الظاهر بيبرس فبايعه وبايعه الناس بعده، وكان يومًا مشهودًا، فلما كان يوم الجمعة ثانيه خطب الخليفةُ بالناس وكُتِبَ ببيعتِه إلى الآفاق ليُخطَبَ له وضُرِبَت السكة باسمه، فخُطِبَ له بجامع دمشق وسائر الجوامِعِ يوم الجمعة سادس عشر المحرم من هذه السنة، وهذا الخليفةُ هو التاسع والثلاثون من خلفاء بني العباس.
ركب الظاهِرُ بيبرس من مصرَ في العساكر المنصورة قاصدًا ناحية بلاد الكرك، واستدعى صاحِبَها الملك المغيث عمر بن العادل أبي بكر بن الكامل، فلما قَدِمَ عليه بعد جهدٍ أرسله إلى مصر معتقَلًا، فكان آخر العهد به، وذلك أنَّه كاتب هولاكو وحَثَّه على القدوم إلى الشَّامِ مَرَّةً أخرى، وجاءته كتبُ التتار بالثَّباتِ ونيابة البلاد، وأنهم قادِمونَ عليه عشرون ألفًا لفتح الديارِ المصريَّة، وأخرج السلطانُ فتاوى الفقهاء بقَتلِه وعَرَضَ ذلك على القاضي ابن خَلِّكان، وكان قد استدعاه من دمشقَ، وعلى جماعةٍ مِن الأمراء، ثم سار فتسَلَّمَ الكرك يوم الجمعة ثالث عشر جمادى الأولى ودخلها يومئذٍ في أبهة المُلك، ثم عاد إلى مصرَ مُؤَيَّدًا منصورًا، وبه تنتهي الدولةُ الأيوبيَّةُ في بلاد الشام.
لمَا خلا بالُ السلطان الظاهر بيبرس من هَمِّ المَلِك المغيث صاحب الكرك، توجَّهَ بكليته إلى الفرنجِ؛ فإنَّهم كانوا قد شرعوا في التعَلُّل وطلبوا زرعين- وهي قرية في سهل زرعين بصفد- فأجابَهم السلطان بأنكم تعوَّضتُم عنها في الأيام الناصرية ضِياعًا من مرج عيون، وهم لا يزدادونَ إلا شكوى، وآخِرَ الحال طلب الفرنجُ من والي غزة كتابًا بتمكينِ رُسُلِهم إذا حضروا، فكتب لهم الكتابَ، وتواصلت بعد ذلك كتُبُهم، ووردت كتبُ النواب بشكواهم، وأنهم اعتمدوا أمورًا تفسِخُ الهدنة فلمَّا صار السلطان في وسط بلادِهم وردت عليه كتُبُهم، هذا وقد أمَرَ السلطان ألا ينزِلَ أحد في زرع الفرنجِ ولا يُسَيِّب فرسًا، ولا يؤذي لهم ورقةً خضراء، ولا يتعَرَّض إلى شيء من مواشيهم ولا إلى أحد من فلَّاحيهم، وكانت كتبهم أولًا تَرِدُ بندمهم على الهدنة وطلَبِهم فَسْخَها، فلما قرب السلطانُ منهم صارت تَرِدُ بأنهم باقون على العَهدِ مُتمَسِّكون بأذيال المواثيق، وفي اليوم الذي قُبِضَ فيه على الملك المغيث، أمَرَ السلطان بإحضار بيوت الفرنجيَّة، وقال: ما تقولون؟ قالوا: نتمَسَّك بالهدنة التي بيننا، فقال السلطان: لم لا كان هذا قبلَ حُضورنا إلى هذا المكان، وبالجملة فأنتم أخذتم هذه البلاد من المَلِك الصالح إسماعيل لإعانةِ مملكة الشام، وطاعةِ مَلِكِها ونصرته والخروجِ في خدمته، وإنفاقِ الأموال في نجدتِه، وقد صارت بحمد الله مملكةُ الشام وغيرها لي، وما أنا محتاج إلى نصرتكم ولا إلى نجدَتِكم، ولم يبقَ لي عدو أخافه، فرُدُّوا ما أخذتموه من البلاد، وفكُّوا أسرى المسلمين جميعهم، فإني لا أقبل غير ذلك، فلما سمع رسل الفرنج هذه المقالةَ بُهِتوا، وقالوا: نحن لا ننقُضُ الهدنة، وإنما نطلُبُ مَراحِمَ السلطان في استدامتِها، ونحن نزيل شكوى النواب، ونخرجُ مِن جميع الدعاوى ونفُكُّ الأسرى، ونستأنف الخِدمةَ، فقال السلطان: كان هذا قبل خروجي من مصرَ، في هذا الشتاءِ وهذه الأمطارِ، ووصول العساكرِ إلى هنا، وانفَصَلوا على هذه الأمور، فأمر السلطانُ بإخراجهم وألَّا يَبِيتوا في الوطاق، ووجَّه الأمير علاء الدين طيبرس إلى كنيسة الناصرة، وكانت أجلَّ مواطِنِ عباداتهم ويزعُمونَ أنَّ دينَ النصرانية ظهَرَ منها، فسار إليها وهدمها، فلم يتجاسَرْ أحدٌ من الفرنج أن يتحَرَّك، ثمَّ وجه السلطانُ الأمير بدر الدين الأيدمري في عسكر إلى عكا، فساروا إليها واقتَحَموا أبوابها وعادوا، ثم ساروا ثانيًا، وأغاروا على مواشي الفرنجِ، وأحضروا منها شيئًا كثيرًا إلى المخَيَّم، ثم ركب السلطان وجَرَّد من كل عشرة فارسًا، واستناب الأميرَ شجاع الدين الشبلي المهمندار- من يقوم بضيافة الرسل الواردين على السلطان- في الدهليز السلطاني، وساق من منزلة الطور نصف الليل، فصبَّحَ عكَّا وأطاف بها من جهة البر، وندب جماعةً لحصار برج كان قريبًا منه فشرعوا في نقبه، وأقام السلطانُ على ذلك إلى قريبِ المغرب وعاد، وكان قصدُه بذلك كشْفَ مدينة عكا؛ فإنَّ الفرنج كانوا يزعمونَ أن أحدًا لا يجسُرُ أن يقرب منها، فصاروا ينظرُونَ من أبواب المدينة ولا يستطيعون حركة، ولما عاد السلطان إلى الدهليز ركب لما أصبح، وأركب ناس معه، وساق إلى عكا، فإذا الفرنجُ قد حفروا خندقًا حول تل الفضول، وجعلوا معاثر في الطريق، ووقفوا صفوفًا على التلِّ، فلما أشرف السلطانُ عليهم رتَّب العسكرَ بنفسه، وشرع الجميعُ في ذكرِ الله وتهليلِه وتكبيرِه، والسلطان يحثُّهم على ذلك حتى ارتفعت أصواتهم، وللوقت رُدِمَت الخنادقُ بأيدي غلمان العساكِرِ وبمن حضر من الفقراءِ المجاهدين، وصَعِد المسلمون فوق تل الفُضول، وقد انهزم الفرنجُ إلى المدينة، وامتَدَّت الأيدي إلى ما حول عكا من الأبراج فهُدِمَت، وحُرِقَت الأشجارُ حتى انعقد الجوُّ من دخانها، وساق العسكرُ إلى أبوابِ عكا، وقَتَلوا وأسروا عِدَّةً مِن الفرنجِ، والسلطان قائمٌ على رأس التل يعملُ في أخذِ رأي المدينة، والأمراءُ تحمِلُ على الأبواب واحدًا بعد واحد، ثم حملوا حملةً واحدة ألقوا فيها الفرنجَ في الخنادق، وهلك منهم جماعةٌ في الأبواب، فلما كان آخرُ النهار ساق السلطانُ إلى البرج الذي نُقب، وقد تعلَّقَ حتى رُمِيَ بين يديه، وأُخِذَ منه أربعةٌ من الفرسان ونيف وثلاثون راجلًا، وبات السلطان على ذلك، فلما أصبح عاد على بلاد الفرنجِ وكشفها مكانًا مكانًا، وعبر على الناصرةِ حتى شاهد خرابَ كنيستِها وقد سوَّى بها الأرض، وصار إلى الصفَّة التي بناها قبالة الطور، فوافاها ليلًا وجلس عليها، وأحضر الشموع التي بالمنجنيقات ونصب عليها خمسة، ورحل السلطان من الطور يوم الاثنين ثالث عشر جمادى الآخرة، وسار إلى القدسِ فوافاه يوم الجمعة عشرة، وكشف أحوال البلدِ وما يحتاج إليه المسجِدُ من العمارة، ونظر في الأوقاف وكتب بحمايتِها، ورتَّبَ برسم مصالح المسجد في كل سنة خمسة آلاف درهم وأمر ببناء خان خارج البلد، ونقل إليه من القاهرة باب القصر المعروف بباب العيد، ونادى بالقدس ألا ينزل أحدٌ في زرع.
في هذه السنةِ قبض الأشكري صاحِبُ قسطنطينية على عزِّ الدين كيكاوس بن كيخسرو بن كيقباذ صاحِبِ بلاد الروم، وسَبَبُه أن الأشكري كان قد وقع بين كيكاوس وبين أخيه، فاستظهر أخوه عليه، فهرب كيكاوس وبقِيَ أخوه ركن الدين قليج أرسلان في سلطنة بلاد الرومِ، ثم سار كيكاوس إلى قسطنطينيَّة، فأحسن إليه الأشكري صاحبُ قسطنطينية. وإلى من معه من الأمراء، واستمَرُّوا كذلك مدة، فعزمت الأمراءُ والجماعة الذين كانوا مع عزِّ الدين على اغتيالِ الأشكري، والتغَلُّب على قسطنطينية، وبلغ ذلك الأشكريَّ، فقبض عليهم، واعتقَلَ عز الدين كيكاوس بن كيخسرو في بعض القلاعِ، وكحَلَ الأمراءَ والجماعةَ الذين كانوا عَزَموا على ذلك، فأعمى عيونَهم.
ورد الخبر أن هيتوم ملك الأرمن جمَعَ قوَّاتِه وسار إلى هرقلة، ونزل على قلعةِ صَرخد، فخرج البريدُ مِن قلعة الجبَلِ إلى حماة وحِمص بالمسير إلى حلب، فخرجوا وأغاروا على عَسكَرِ الأرمن، وقتَلوا منهم وأسَروا، فانهزم الأرمنُ واستنجدوا بالتَّتارِ، فقَدِمَ منهم من كان في بلادِ الروم وهم سبعُمائة فارس، فلما وصلوا إلى حارم رجعوا من كثرة الثلج، وقد هلك منهم كثيرٌ، ومع ذلك اهتم ملك الأرمن بالمسير إلى بلاد الشام، وأعدَّ ألف قباء –ثوب- تتري وألف سراقوج - لباس الرأس عند التتار- ألبسها الأرمن ليوهم أنهم نجدة من التتار، ولما ورد الخبَرُ بذلك خرج البريد إلى دمشق بخروج عسكَرِها إلى حمص، وخروج عسكر حماة، وألا يخرجُ عُربان الشام في هذه السنة إلى البرية، فخرَجَت العساكر، ووالت الغاراتِ مِن كل جهة، فانهزم الأرمنُ، ونزل العسكر على أنطاكية فقَتَل وأسر وغنم، وأغار العسكرُ أيضًا ببلاد الساحل على الفرنج حتى وصل إلى أبواب عكا.
كان مَلِكُ قشتالة ألفونسو ملك النصارى قد طلب من محمَّدِ بنِ يوسف بن الأحمر حاكِمِ غرناطةَ الساحِلَ من مالقةَ إلى المرية فاستعان ابنُ الأحمر بالمتطَوِّعة والمجاهدين الذين وفدوا إليه من المغربِ فهزم الأسبان واسترد منهم مدينةَ شريش وقادس، وأخذ ألفونسو أسيرًا. ثم اجتمع العدوُّ المخذول في جمع كبير، ونازلوا غرناطة فانتصر عليهم المسلمون، وقتلوا منهم مقتلةً عظيمة، وجُمِع من رؤوسِهم نحو خمسة وأربعين ألف رأس، فعملوها كومًا، وأذَّنَ المسلمونَ فَوقَه، وأسروا منهم عشرة آلاف أسير. وكان ذلك في رمضان. وانهزم ألفونسو إلى إشبيلية، وهي له، وكان قد دَفَنَ أباه بها بالجامع، فأخرجه من قبرِه خوفًا من استيلاء المسلمين، وحمله إلى طليطلة. واسترجع المسلمون اثنين وثلاثين بلدًا، من جملتِها إشبيلية ومرسية.
هو الأميرُ حسام الدين لاجين العزيزي الجوكندار- حامل الجوكان مع السلطان في لعب الكرة- وهو مِن غِلمانِ العزيز بن الظاهر بن السلطان صلاح الدين ومن كبار أمراء دمشق, وهو من أكابِرِ الأمراء وأعظَمِهم قدرًا، جوادًا ديِّنًا فارسًا شجاعًا حازمًا، له في الحروبِ آثارٌ جميلةٌ، وكان محبًّا للفقراء وأخلاقهم، كثيرَ البِرِّ بهم، يجمَعُهم على السَّمَاعات التي يُضرَبُ بها المثل، وكان له يدٌ طولى في كَسرِ التتار بوقعة حمص سنة 659، وقتل مقدمهم بيدرًا، وكان قد تولى نيابةَ حلب، ومات كهلًا في التاسع عشر من محرم.
هو الملك الأشرف مظفر الدين موسى بن الملك المنصور أبو إبراهيم بن الملك المجاهد شيركوه بن الأمير ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه بن شادي بن مروان صاحب حمص، مَلَك حمصَ بعد وفاة أبيه، وطالت مدَّتُه بها، وكان فيه مداراةٌ للتَّتارِ واستمرَّ على ذلك إلى أن توفِّيَ بحمص يوم الجمعة حادي عشر من صفر عن غيرِ ولد ولا أخٍ ولا ولي، فبعث السلطانُ الظاهر بيبرس إلى الأمير عز الدين بيليك العلائي أحد الأمراء، فتسَلَّمَها في السابع عشر من هذا الشهر وحَلَفَ الناسُ بها للملك الظاهر، وتسَلَّمَ الرحبةَ أيضًا، وبعث السلطان إليها عشرين ألف دينار عينًا، وولى مدينة حران الأمير جمال الدين الجاكي، وولى مدينة الرقة أميرا آخر.
الشيخ الصالحُ محمد بن منصور بن يحيى الشيخ أبي القاسم القباري الإسكندراني كان مقيمًا بغيط له يقتاتُ منه ويعمَلُ فيه ويبذره، ويتورَّعُ جدًّا ويُطعِمُ الناس من ثماره. توفي في سادس شعبان بالإسكندرية وله خمس وسبعون سنة، وكان يأمرُ بالمعروف وينهى عن المنكر ويردَعُ الولاة عن الظلمِ فيَسمَعون منه ويطيعونَه لزهده، وإذا جاء الناسُ إلى زيارته إنما يكَلِّمُهم من طاقة المنزل وهم راضونَ منه بذلك، ولما توفي ترك من الأثاث ما يساوي خمسين درهمًا فبيع بمبلغ عشرين ألفًا.
في يومِ الخميس ثالث عشر شوال من هذه السنة، أركَبَ السلطانُ الظاهر بيبرس ولَدَه الملك السعيد بشِعارِ السَّلطنةِ ومشى في ركابِه حاملًا له الغاشيةَ، وأخذها الأمراءُ الكبار واحدًا بعد واحدٍ، وعليهم الخِلَعُ الفاخرة، والحُلَل الزاهرة، وزينت المدينةُ زينةً تامة، واستبشر بذلك الخاصَّةُ والعامة، وتقَرَّر أن يكون أتابكه الأمير عز الدين أيدمر الحلي.
كثُرَت الحرائقُ بالقاهرة ومِصرَ في مدَّة سفر السلطان الظاهر بيبرس، وأُشيعَ أنَّ ذلك من النصارى، ونزل بالناسِ مِن الحريق في كلِّ مكان شدَّةٌ عظيمة، ووُجِدَ في بعض المواضع التي احترقت نفطٌ وكبريت، فأمر السلطانُ بجمع النصارى واليهود، وأنكر عليهم هذه الأمورَ التي تفسَخُ عهدهم وأمَرَ بإحراقهم، فجُمِعَ منهم عالمٌ عظيم في القلعة، وأُحضِرَت الأحطاب والحلفاء، وأُمِرَ بإلقائهم في النار، فلاذُوا بعفوه وسألوا المنَّ عليهم، وتقَدَّم الأمير فارس الدين أقطاي أتابك العساكر فشَفَعَ فيهم، على أن يلتزموا بالأموالِ التي احتَرَقت، وأن يحملوا إلى بيتِ المال خمسين ألف دينار، فأفرج عنهم السلطانُ الظاهر، وتولى البطرك توزيعَ المال، والتزموا ألا يعودوا إلى شيءٍ مِن المنكرات، ولا يخرجوا عمَّا هو مرتب على أهلِ الذمَّة، وأُطلِقوا.
هو هولاكو خان بن تولي خان بن جنكيز خان ملك التتار بن ملك التتار، وهو والِدُ مُلوكِهم، والعامَّةُ يقولون هولاوون مثل قلاوون، وقد كان هولاكو ملكًا جبارًا فاجرًا كفَّارًا- لعنه الله- قتل من المسلمين شرقًا وغربًا ما لا يَعلَمُ عَدَدَهم إلَّا الذي خلقهم، وسيجازيه على ذلك شَرَّ الجزاء، كان لا يتقيَّدُ بدين من الأديان، وإنما كانت زوجتُه تنصَّرَت وكان هو يترامى على محبَّة المعقولات، ولا يتصوَّر منها شيئًا، قال الشيخ قطب الدين: "كان من أعظَمِ ملوك التتار، وكان شجاعًا حازمًا مدبِّرًا، ذا همة عالية، وسطوةٍ ومهابة، ونهضةٍ تامة، وخبرة بالحروب، ومحبَّة في العلوم العقلية من غير أن يتعقَّل منها شيئًا، وكان أهلُها من أفراخ الفلاسفة لهم عنده وجاهة ومكانة، اجتمع له جماعة من فضلاء العالم، وجمع حُكماء مملكته، وأمَرَهم أن يرصدوا الكواكب. وكان يطلق الكثيرَ من الأموال والبلاد. وهو على قاعدةِ المغول في عدم التقيدِ بدين، لكن زوجته ظفر خاتون قد تنصَّرَت، وكانت تفضِّلُ النصارى على سائر الخلق، وكان سعيدًا في حروبه وحصاراته. طوى البلاد، واستولى على الممالكِ في أيسرِ مدة، وهزم الجيوش، وأباد الملوك، وقتل الخليفةَ، وأمراء العراق، وصاحبَ الشام، وصاحب ميافارقين". كانت همته في تيسير مملكتِه وتملك البلاد شيئًا فشيئًا، قال النجم أحمد بن البواب النقاش: "عزم هولاكو على زواجِ بنت ملك الكرج، فقالت له: حتى تُسلِمَ، فقال: عرفوني ما أقولُ, فعرضوا عليه الشهادتينِ فأقَرَّ بهما، وشَهِدَ عليه بذلك الفيلسوف الخواجة نصير الدين الطوسي، وفخر الدين المنجم. فلما بلغها ذلك أجابت. فحضر القاضي فخر الدين الخلاطي، فتوكَّل لها النصير، وللسلطان الفخر المنجم، وعقدوا العقدَ باسم تامار خاتون بنت الملك داود بن إيواني على ثلاثين ألف دينار، قال لي ابن البواب: وأنا كتبت الكتابَ في ثوب أطلس أبيض، فعَجِبتُ مِن إسلامه. قلت(الذهبي): إن صحَّ هذا فلعله قالها بفمه لعَدَمِ تقيُّدِه بدين، ولم يدخُلِ الإسلامُ إلى قلبه، فالله أعلم". هلك بمرض الصَّرعِ واجتمعت التتار على ولده أبغا، كان هلاكُه في سابع ربيع الآخر بعلَّة الصرع، فإنه حصل له الصرعُ منذ قتل الملك الكامل صاحب ميافارقين، فكان يعتريه في اليوم المرَّة والمرتين, ولما عاد من كسرةِ ابن عمه بركة خان له أقام يجمع العساكر، وعزم على العَودِ لقتال بركة خان، فزاد به الصرعُ، ومرض نحوًا من شهرين، وهلك، فأخفَوا موته، وصبروه، وجعلوه في تابوت، ثم أظهروا موتَه. وكان موته بمدينة مراغة، ودفن بقلعة تلا, وبنيت عليه قبة, وكان ابنه أبغا غائبًا فطلبوه ثمَّ مَلَّكوه، وقيل كان موتُه في سنة 664هـ.
نزل التتارُ على البيرة، فجهَّز السلطانُ بيبرس مِن فَورِه الأميرَ بدر الدين الخازندار- ممسك خزانة المال- على البريد؛ ليخرج أربعة آلاف فارس من بلاد الشام، وركبَ السلطان من موضِعِه وساق إلى القلعة، وعيَّنَ الأمير عز الدين إيغان المعروف باسم الموت لتقدمةِ العساكر، فخرجوا من القاهرة جرائدَ- خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها- في رابع شهر ربيع الأول، ثم عين الأمير جمال الدين المحمدي، والأمير جمال الدين أيدغدي الحاجي، ومعهما أربعة آلاف أخرى، فبرزوا ثانيَ يوم خروجِ الأمير عز الدين إيغان إلى ظاهر القاهرة، وساروا في عاشِرِه، وفي يوم السبت رابع ربيع الآخر: شرع السلطانُ في السفر، وخرج بنفسه في خامس شهر ربيع الآخر ومعه عساكر كثيرة، فوقع فناءٌ في الدواب هلك منها عددٌ كثير، وصارت الأموالُ مطروحة، والسلطانُ لا يقَصِّرُ في المسير، ونزل السلطانُ غزة في العشرين منه، فورد الخبَرُ بأن العدو نصب على البيرة سبعة عشر منجنيقًا، فكتم ذلك ولم يعلم به سوى الأمير شمس الدين سنقر الرومي والأمير سيف الدين قلاوون فقط، وكتب السلطان للأميرِ إيغان: " متى لم تدركوا قلعةَ البيرة وإلَّا سُقتُ إليها بنفسي جريدة، فساق الأمير إيغان العسكر، ورحل السلطان من غزة، ونزل قريبًا من صيداء، وأتاه قسطلان يافا بتقادم، ونزل السلطانُ بيبني في السادس عشر، فورد البريدُ من دمشق بأن بطاقة الملك المنصور صاحب حماة سقطت بأنَّه وصل إلى البيرة بالعساكر، صحبة الأمير عز الدين إيغان وجماعة الأمراء يوم الاثنين، وأن التتارَ عندما شاهدوهم هربوا، ورموا مجانيقَهم وغرقوا مراكِبَهم، وكان من حين كتابتِها بالبيرة إلى حين وصولها يبني أربعة أيام، ثم توالت كتُبُ الأمراء بالبشارة، فكتب بذلك إلى القاهرة وغيرها، وكتب السلطانُ بعمارة ما خُرِّبَ من البيرة، وحمل آلات القتال والأسلحة إليها من مصر والشام، وأن يُعَبَّأ فيها كل ما يحتاجُ إليه أهلها في الحصار لمدة عشر سنين، وكتب للأمراء ولصاحب حماة بالإقامة على البيرة، حتى ينظف الخندق من الحجارة التي ردَمَها العدوُّ فيه، فكان الأمراءُ ينقلون الحجارة على أكتافهم مدة.
رحل السلطانُ بيبرس إلى قريبِ عيونِ الأساور من وادي عارة وعرعرة، فلما كان بعد عشاءِ الآخرِ أمر العسكَرَ كُلَّه فلبسوا آلة الحرب، وركِبَ آخِرَ الليل وساق إلى قيسارية، فوافاها بكرةَ نهار الخميس تاسع جمادى الأولى على حين غفلةٍ مِن أهلها، وضرب عليها بعساكِرِه، وللوقت ألقى الناسُ أنفُسَهم في خندقها، وأخذوا سكك الحديدِ التي برسم الخيولِ مع المقاود والشبح، وتعلَّقوا فيها من كل جانبٍ حتى صعدوا، وقد نُصِبَت المجانيق ورمي بها، فحرقوا أبوابَ المدينة واقتحموها، فَفَرَّ أهلها إلى قلعتها، وكانت من أحصَنِ القلاع وأحسَنِها وتعرف بالخضراء، وكان قد حمل عليها الفرنجُ العُمُدَ الصوان، وأتقنوها بتصليبِ العُمُدِ في بنيانها، حتى لا تُعمَلَ فيها النقوبُ ولا تقَعُ إذا علقت، فاستمر الزحف والقتال عليها بالمجانيق والدبابات والزحَّافات ورمي النشَّاب، وخرجت جريدة- خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها- من عسكر السلطان إلى بيسان مع الأمير شهاب الدين القيمري، فسَيَّرَ جماعة من التركمان والعربان إلى أبوابِ عكا، فأسروا جماعةً مِن الفرنج، هذا والقتال ملِحٌّ على قلعة قيسارية، والسلطانُ مقيمٌ بأعلى كنيسةٍ تجاه القلعة ليمنَعَ الفرنج من الصعودِ إلى علو القلعةِ، وتارة يركَبُ في بعضِ الدبَّابات ذوات العجل التي تجري حتى يصل إلى السور ليرى النقوبَ بنَفسِه، وأخذ السلطانُ في يده يومًا من الأيامِ تُرسًا وقاتل، فلم يرجِعْ إلَّا وفي ترسِه عِدَّةُ سِهامٍ، فلما كان في ليلةِ الخميس النصف من جمادى الأولى: سلَّم الفرنجُ القلعةَ بما فيها، فتسلق المسلمونَ من الأسوار، وحرقوا الأبواب ودخلوها من أعلاها وأسفَلِها، وأذِّنَ بالصبحِ عليها، وطلع السلطانُ ومعه الأمراء إليها، وقسَّمَ المدينة على الأمراء والمماليك والحلقة، وشرع في الهدمِ ونزل وأخذ بيَدِه قطاعةً وهدَمَ بنَفسِه، فلما قارب الفراغَ مِن هدم قيسارية بعث السلطانُ الأمير سنقر الرومي والأمير سيف الدين المستعرب في جماعة، فهدموا قلعةً كانت للفرنج عند الملوحة قريب دمشق، وكانت عاتية حتى دكُّوها دكًّا، وفي السادس عشر: سار السلطانُ جريدة إلى عثليث، وسير الأمير سنقرًا السلاح دار، والأمير عز الدين الحموي، والأمير سنقرًا الألفي إلى حيفا، فوصلوا إليها، ففر الفرنجُ إلى المراكب وتركوا قلعَتَها، فدخلها الأمراءُ بعد ما قتلوا عِدَّةً من الفرنج وبعد ما أسروا كثيرًا، وخربوا المدينة والقلعة وأحرقوا أبوابها في يومٍ واحد، وعادوا بالأسرى والرؤوس والغنائم سالمين، ووصل السلطانُ إلى عثليث فأمر بتشعيثِها وقطْع أشجارها، فقُطِعَت كلُّها وخربت أبنيتها في يوم واحد، وعاد إلى الدهليز بقيسارية، وكمَّل هَدْمَها حتى لم يدَعْ لها أثرًا، وقدمت منجنيقات من الصبيبة وزرد خاناه من دمشق، وورد عِدَّة من الفرنج للخدمة، فأكرَمَهم السلطان وأقطعهم الإقطاعات، وفي التاسع عشر: رحل السلطان من قيسارية، وسار من غير أن يَعرِفَ أحدٌ قَصْدَه فنزل على أرسوف مستهلَّ جمادى الآخرة، ونقل إليها من الأحطاب ما صارت حولَ المدينة كالجبال الشاهقة وعَمَل منها ستائر، وحفر سربين من خندق المدينة إلى خندق القلعةِ وسَقَفَه بالأخشاب، وعمل السلطان طريقًا من الخندقين إلى القلعة، وردمت الأحطابُ في الخندق، فتحَيَّل الفرنجُ وأحرقوها كلَّها، فأمر السلطان بالحفر من باب السربين إلى البحرِ، وعمل سروبًا تحت الأرض يكون حائطُ خندق العدو ساترًا لها، وعمل في الحائط أبوابًا يرمي التراب منها وينزل في السروب حتى تساوي أرضُها أرض الخندق، وأحضر المهندسين حتى تقَرَّر ذلك، وولي أمرَه للأمير عز الدين أيبك الفخري، فاستمر العمل، والسلطان بنفسِه ملازم العمل بيده في الحفرِ وفي جر المنجنيقات ورمي الترابِ ونَقلِ الأحجار، أسوةً لغيره من الناس، وكان يمشي بمفرده وفي يده ترسٍ، تارة في السَّرَب وتارة في الأبوابِ التي تفتح، وتارة على حافةِ البحر يرامي مراكِبَ الفرنج، وكان يجرُّ في المجانيق، ويطلع فوق الستائر يرمي من فوقها، ورمى في يوم واحد ثلاثمائة سهم بيده، وحضر في يومٍ إلى السرب وقُدَّ في رأسه خلف طاقة يرمي منها، فخرج الفرنج بالرماح وفيها خطاطيف ليجبذوه فقام وقاتلهم يدًا بيد وكان معه الأميرُ سنقر الرومي، والأمير بيسري، والأمير بدر الدين الخازندار، فكان سنقر يناوله الحجارةَ حتى قتل فارسين من الفرنج، ورجعوا على أسوأ حال، وكان يطوفُ بين العساكر في الحصار بمفردِه، ولا يجسِرُ أحد ينظر إليه ولا يشير إليه بإصبُعِه، بل كان الناسُ فيها سواءً في العمل، حتى أثرت المجانيق في هدمِ الأسوار، وفُرِغَ من عمل الأسربة التي بجانبي الخندق، وفتحت فيها أبواب متسعة، فلما تهيأ ذلك وقع الزحفُ على أرسوف في يوم الخميس ثامن رجب، ففتحها الله في ذلك اليوم عندما وقَعَت الباشورة – الباشورة حائط ظاهر الحصن يختفي وراءه الجند عند القتال- فلم يشعر الفرنج إلا بالمسلمين قد تسلقوا وطلعوا القلعة، ورفعت الأعلام الإسلامية على الباشورة، وحَفَّت بها المقاتلة وطُرِحَت النيران في أبوابها، هذا والفرنجُ تقاتل، فدفع السُّلطانُ سنجقه للأميرِ سنقر الرومي وأمَرَه أن يؤمِّنَ الفرنج من القتل، فلما رآه الفرنجُ تركوا القتالَ، وسلَّمَ السنجق للأمير علم الدين سنجر المسروري المعروف بالخياط الحاجب، ودُلِّيَت له الحبال من القلعة فربطها في وسطِه والسنجق معه، ورفع إليها فدخَلَها وأخذ جميعَ سيوف الفرنج وربَطَهم بالحبال وساقهم إلى السلطانِ والأمراء صفوف وهم ألوف، وأباح السلطانُ القلعة للناس، وكان بها من الغِلالِ والذخائر والمال شيءٌ كثير، وكان فيها جملةٌ من الخيول والبغال لم يتعرض السلطان لشيءٍ منه، إلا ما اشتراه ممَّن أخذه بالمال ووجد فيها عِدَّةً من أسرى المسلمين في القيود فأُطلِقوا، وقَيَّد الفرنجَ بقيودهم، وعيَّنَ السلطانُ جماعةً مع الأسرى من الفرنج ليسيروا بهم، وقسَّم أبراج أرسوف على الأمراء، وأمر أن يكون أسرى الفرنجِ يتولون هدم السورِ، فهُدِمَت بأيديهم، وأمرَ السلطان بكشف بلاد قيسارية وعمَل متحَصَّلِها، فعُمِلَت بذلك أوراقٌ، وطَلَبَ قاضي دمشق وعدوله ووكيل بيت المال، وتقدم بأن يملك الأمراءُ المجاهدون من البلاد التي فتحها الله عليه، وكتبت تواقيع كل منهم من غير أن يطَّلعوا على ذلك، فلما فرغت التواقيعُ فُرِّقَت على أربابها، وكتب بذلك مكتوبٌ جامع بالتمليك ورحل السلطانُ من أرسوف بعد استكمال هدمِها في يوم الثلاثاء الثالث عشر شهر رجب إلى غزة وسار منها إلى مصر ودخل السلطان من القاهرة في يوم الخميس حادي عشر شعبان والأسرى بين يديه.