لما كان يوم الجمعة الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة 678هـ ركب الأمير شمس الدين سنقر الأشقر من دار السعادة بعد صلاة العصر وبين يديه جماعة من الأمراء والجند مشاة، وقصد باب القلعةِ الذي يلي مدينة دمشق، فهجم منه ودخل القلعة واستدعى الأمراء فبايعوه على السلطنة، ولُقِّبَ بالملك الكامل، وأقام بالقلعة ونادت المنادية بدمشق بذلك، فلما أصبح يومَ السبت استدعى بالقضاة والعلماء والأعيان ورؤساء البلد إلى مسجد أبي الدرداء بالقلعة، وحَلَّفهم وحلف له بقية الأمراء والعسكر، وأرسل العساكر إلى غزة لحفظ الأطراف وأخذ الغلات، وفي يوم الخميس أول المحرم من هذه السنة ركب الملك الكامِلُ سنقر الأشقر بشعار السلطنة من قلعة دمشق إلى الميدان الأخضر، وبين يديه الأمراء مشاة بالخِلَع، ثم عاد، وفي يوم الجمعة ثانيه: خطب له على منبر الجامع بدمشق.
لما أعلن سنقر الأشقر نفسَه سلطانًا في دمشق كتب إلى الأمير عز الدين الأفرم وهو بالكرك يعتذر عن قيامِه بما كَلَّف به السلطان في الكرك، وأتبع الكتابَ بعسكر، فلما ورد كتابه جهزه الأفرم إلى السلطان قلاوون بمصر، فكتب السلطانُ عند وروده إلى الأشقر يقَبِّحُ فعله، وكتب أمراءُ مصر إليه بذلك، ويحثُّونه على الإذعان وترك الفتنة، وسار بالكتُبِ بلبان الكريمي، فوصل دمشقَ في ثامنه، وخرج سنقر الأشقر إلى لقائه وأكرمه، ولم يرجِعْ عما هو فيه، واستقر الأفرم بغزة، فوافاه عسكَرُ سنقر الأشقر بها، فاندفع من قُدَّامِهم إلى الرمل، وملك عسكر سنقر غزة واطمأنوا، فطرَقَهم الأفرم وأوقع بهم فانهزموا إلى الرملة، وأسَرَ من الأمراء عدة وغنم منهم مالًا وخيولًا وأثقالًا كثيرة، وبعث الأفرم بالبشارةِ على يد ناصر الدين محمد ولد الأمير بكتاش الفخري، فقدم في الخامس عشر بالأمراء المأسورين، فعفا السلطانُ عنهم وأحسن إليهم، وأعادهم على أخبازهم – عطاياهم-وجعلهم في عسكَرِه، ولما بلغ سنقر الأشقر كسرةُ عَسكرِه، جمع وحشد وبعث إلى الأمراء بغزة يَعِدُهم ويستميلهم، فقَدِمَ عليه شهاب الدين أحمد بن حجي أمير العربان بالبلاد القبلية، والأمير شرف الدين عيسى بن مهنا أمير العربان بالبلاد الشرقية والشمالية، وأتته النجداتُ مِن حلب وحماة ومن جبال بعلبك، واستخدم عدةً كبيرةً وبذل فيهم المال، وكَثُرت عنده بدمشق الأرجافُ أن عسكر مصر قد سار إليه، فاشتد استعدادُه، وجرَّد السلطان من القاهرة الأميرَ بدر الدين بكتاش الفخري أميرَ سلاح، ومعه الأمير بدر الدين الأيدمري والأمير حسام الدين أيتمش بن أطلس خان في أربعة آلاف فارس، فسار إلى غزة، واجتمعوا مع الأمير عز الدين الأفرم والأمير بدر الدين الأيدمري، وساروا جميعًا والمقَدَّم عليهم علم الدين سنجر الحلبي، فرحل عسكَرُ سنقر الأشقر من الرملة إلى دمشق، فخرج سنقر الأشقر في الثاني عشر صفر بعساكره وخيم بالجسورة خارج دمشق، ونزل عسكرُ مصر الكسوة والعقوة في يوم الاثنين السابع عشر بالجسورة، فوقعت الحرب في التاسع عشر، وثبت سنقر الأشقر وأبلى بلاء عظيمًا، ثم خامر من عسكَرِه طائفة كبيرة إلى عسكر مصر، وانهزم كثيرٌ منهم، ورجع عسكر حلب وحماة عنه إلى بلادِهم، وتخاذل عنه عسكرُ دمشق، وحمَلَ عليه الأمير سنجر الحلبي فانهزم منه، وهرب سنقر الأشقر وتَبِعَه بعض خواصه من الأمراء وساروا معه هم والأمير عيسى بن مهنا إلى برية الرحبة، وأقاموا بها أيامًا، وتوجهوا إلى الرحبة، وكان سنقر قبل ذلك قد بَعَثَ حرمه وأمواله إلى صهيون، ولما انهزم سنقر الأشقر تفرق عسكرُه في سائر الجهات، وغُلِّقَت أبواب دمشق، وزحف عسكر مصر إليها وأحاطوا بها، ونزلوا في الخيام ولم يتعرضوا لشيء، وأقام الأمير سنجر الحلبي بالقصر الأبلق في الميدان الأخضر خارج دمشق، فلما أصبح أمَرَ فنُوديَ بالأمان، وكان بقلعة دمشق الأميرُ سيف الدين الجكندار، وهو متوليها من جهة سنقر الأشقر، فأفرج عن الأمير ركن الدين بيبرس العجمي الجالق، والأمير حسام الدين لاجين المنصوري، والصاحب تقي الدين توبة، وحَلَّفَهم ألا يؤذوه إذا أطلقهم، ثم فتح باب القلعة، ونزل لاجين إلى باب الفرج فوقَفَ عليه، ومنع العسكَرَ من دخول المدينة، ونودِيَ بإطابة قلوب النَّاسِ وزينة البلد، فوقَفَ البشائر بالقلعة، وقدم كثيرٌ ممن كان مع سنقر الأشقر فأمنهم الأميرُ سنجر الحلبي، ثم في صفر من سنة 680هـ جردَ السلطان من دمشق الأميرَ عِزَّ الدين أيبك الأفرم والأمير علاء الدين كشتغدي الشمسي في عدة من الأجناد، فساروا إلى شيزر، فبعث سنقر الأشقر يطلب الصلحَ على أن يسلِّمَ شيزر، ويعَوَّضَ عنها الشغر وبكاس وكانتا، قد أخذت منه ومعهما فامية وكفر طلب وأنطاكية وعدة ضياع، مع ما بيده من صهيون وبلاطنس ونرزية واللاذقية، وشرط أيضًا أن يكون أميرًا بستمائة فارس، ويؤمر من عنده من الأمراء، فأُجيبَ إلى ذلك.
هو الأمير سيف الدين أبو بكر بن أسبهسلار وقد ولي شرطةَ مِصرَ عِدَّةَ سنين، وكان موصوفًا بالكرم المفرط، خيِّرًا في أموره، يشكُره الناس, وكان ممن زاد به السِّمَن– زيادة الوزن- حتى قاسى منه شِدَّة، وأشار عليه الطبيب بعدم النوم على جنبٍ، وبقي مدة لا يرمي جنبَه إلى الأرض خوفًا من أن يغرق في النومِ فيموت. مات في ربيع الآخر من هذه السنة، ودُفِنَ في القرافة.
ورد الخبر بمسير التتار إلى البلاد الشامية وذلك لما بلغهم من حصول الاختلاف بين المسلمين، وافترق التتار ثلاث فرق: فرقة سارت من جهة بلاد الروم ومقدمهم صمغار وتنجي وطرنجي، وفرقة من جهة الشرق ومقدمهم بيدو بن طوغاي بن هولاكو وبصحبته صاحب ماردين، وفرقة فيها معظم العسكرِ وشِرارُ المغول ومقدَّمُهم منكوتمر بن هولاكو، فخرج من دمشقَ الأميرُ ركن الدين إياجي على عسكر، وانضم مع العسكر المحاصر لشيزر، وخرج من القاهرةِ الأمير بدر الدين بكتاش النجمي على عسكر، واجتمع الجميعُ على حماة، وراسلوا الأميرَ سنقر الأشقر في إخماد الفتنة والاجتماعِ على قتال التتار، فبعث إليهم عسكرًا من صهيون أقام حول صهيون، ونزل الحاج أزدمر من شيزر وخيم تحت قلعتها، ووقعت الجفلةُ في البلاد الحلبية، فسار منها خلق كثير إلى دمشق في النصف من جمادى الآخرة، وكثُرَ الاضطراب في دمشق وأعمالها، وعزم الناسُ على تركها والمسير إلى ديار مصر، فلما كان في الحادي عشر هجمت طوائف التتار على أعمال حلب، وملكوا عينتاب وبغراس ودربساك، ودخلوا حلَبَ وقد خلت من العسكَرِ، فقتلوا ونهبوا وسَبَوا، وأحرقوا الجامِعَ والمدارس ودارَ السلطنة ودور الأمراء، وأقاموا بها يومينِ يكثرون الفساد بحيث لم يسلم منهم إلا من اختفى في المغائر والأسربة، ثم رحلوا عنها في يوم الأحد ثالث عشر عائدين إلى بلادهم بما أخذوه، وتفَرَّقوا في مشاتيهم، وتوجه السلطان قلاوون من مصر بالعساكر إلى البلاد الشاميَّة يريد لقاء التتار، بعد ما أنفق في كل أميرٍ ألف دينار، وفي كل جندي خمسَمائة درهم، واستخلف على مصر بقلعة الجبل ابنه الملك الصالح عليها، فسار السلطان إلى غزة، وقدم عليه بغزة من كان في البلاد الشامية من عساكر مصر، وقدم عليه أيضًا طائفةٌ من أمراء سنقر الأشقر فأكرَمَهم، ولم ينزل السلطانُ بغزة إلى عاشر شعبان، فرحل منها عائدًا إلى مصر، بعد أن بلغه رجوعُ التتار.
هو ملك التتار، وصاحِبُ العراق والجزيرة وخراسان وغير ذلك، أبغا بن هولاكو بن تولي بن جنكيزخان, ويقال: اسمه أباقا، كان مقدامًا شجاعًا، عالي الهمة، لم يكن في إخوتِه مِثلُه، وهو على دينِ التتار لم يدخل في الإسلام، وكان ذا رأيٍ وحزم وخبرةٍ بالحرب، ولما توجَّه أخوه منكوتمر بالعساكِرِ إلى الشام لم يكن ذلك بتحريضِه، بل أشير عليه فوافق. قال الذهبي: "كان كافِرَ النفس، سفاكًا للدماء، قتل في الروم خلقًا كثيرًا؛ لكونهم دخلوا في طاعة الملك الظاهرِ، وفرحوا بمجيئه إليهم، وقد نفذ الملك الظاهر إليه رسُلَه وهديه" قال ابن عبد الظاهر في السيرة: "وصِفَتُه أنه شاب أسمر أكحل، ربع القامة، جهوري الصوت، فيه بحة يسيرة، عليه قباء نفطي رومي، وسراقوج بنفسجي، تزوج زوجةَ أبيه ألجي خاتون وهي كهلة" هلك أباقا بنواحي همذان عن نحو خمسين سنة، منها مدة ملكه سبع عشرة سنة، وقام في الملك بعده أخوه تكدار بن هولاكو، الذي اعتنق الإسلامَ بعد ذلك وتسمَّى بأحمد ولَقَّب نفسه بالسلطان فانقلبت بعد ذلك سياسةُ الدولة الإيلخانية ناحية بلاد الإسلام، وكان قد أرسل رسالة إلى السلطان قلاوون يُعلِمُه بإسلامه وما قام به من بناء المساجد والمدارس والأوقاف وتجهيز الحُجَّاج، وطلب منه كذلك العمَلَ على اجتماع الكلمة لإخماد الحروب والفِتَن والتحالُفِ ضدَّ الصليبيينَ.
سار السلطان قلاوون من ظاهر القاهرة فأتته رسلُ الفرنج وهو بمنزلة الروحا في تقريرِ الهدنة، فتقَرَّرَت بين مقدم بيت الإسبتار وسائر الإسبتارية بعكا، وبين السلطان وولده الملك الصالح لمدة عشر سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشر ساعات، أولُها يوم السبت الثاني والعشرين من المحرم، وتقررت الهدنة أيضًا مع متملك طرابلس الشام بيمند بن بيمند لمدة عشر سنين، أولها السابع والعشرين شهر ربيع الأول، وعادت الرسل، وتوجه الأمير فخر الدين أياز المقري الحاجب لتحليف الفرنج ومقدم الإسبتار على ذلك، فحلفهم.
ورد الخبر بدخول منكوتمر أخي أبغا بن هولاكو بن طلوي بن جنكيزخان إلى بلاد الروم بعساكر المغول، وأنه نزل بين قيسارية والأبلستين، فبعث السلطان قلاوون الكشافة، فلقوا طائفةً من التتار أسروا منهم شخصًا وبعثوا به إلى السلطان، فقَدِمَ إلى دمشق في العشرينَ مِن جمادى الأولى، فأتاه السلطانُ ولم ينزل به حتى أعلَمَه أن التتار في نحو ثمانين ألفًا، وإنهم يريدونَ بلاد الشام في أول رجب، فشرع السلطانُ في عرض العساكر، واستدعى الناس، فحضَرَ الأمير أحمد بن حجي من العراق في جماعة كبيرةٍ مِن آل مراتكون زهاء أربعة آلاف فارس، وقدمت نجدةٌ من الملك المسعود خضر بن الظاهر بيبرس صاحب الكرك، وقدمت عساكِرُ مصر وسائر العربان والتركمان وغيرهم، فوردت الأخبار بمسير التتار، وأنهم انقَسَموا فسارت فرقةٌ مع الملك أبغا بن هولاكو إلى الرحبة ومعه صاحب ماردين، وفرقة أخرى من جانب آخر، فخرج بجكا العلائي في طائفة من الكشافة إلى جهة الرحبة، وجفل الناسُ من حلب إلى حماة وحمص حتى خلت من أهلها، وعَظُم الإرجاف، وتتابع خروج العساكر من دمشق إلى يوم الأحد سادس عشر جمادى الآخرة، فخرج السلطانُ إلى المرج، بمن بقي من العساكر وأقام به إلى آخر الشهر، ثم رحل يريد حمص فنزل عليها في حادي عشر رجب ومعه سائر العساكر، وحضر الأمير سنقر الأشقر من صهيون ومعه بعض أمرائه فسُرَّ السلطان قلاوون بذلك وأكرمهم وأنعم عليهم، وكان ذلك في ثاني عشر فنزل سنقر الأشقر على الميسرة، وقويت الأراجيف بقرب العدو، ووصل التتارُ إلى أطراف بلاد حلب، وقدم منكوتمر إلى عين تاب، ونازل الملك أبغا قلعة الرحبة في السادس عشر جمادى الآخرة، ومعه نحو ثلاثة آلاف فارس، وتقدم منكوتمر قليلًا قليلًا حتى وصل حماة، وأفسد نواحيها وخرب جواسقَ الملك المنصور صاحب حماة وبستانه فورد الخبر إلى السلطان قلاوون بذلك وهو على حمص، وأن منكوتمر في خمسين ألفًا من المغول وثلاثين ألفًا من الكرج والروم والأرمن والفرنجة، وأنَّه قد قفز إليه مملوك الأمير ركن الدين بيبرس العجمي الجالق ودله على عورات المسلمين، ثم ورد الخبَرُ بأن منكوتمر قد عزم أن يرحل عن حماة، ويكون اللقاء في يوم الخميس رابع عشر رجب، واتفق عند رحيله أن يدخل رجلٌ منهم إلى حماة وقال للنائب: اكتُبِ الساعة إلى السلطان قلاوون على جناحِ الطائر بأن القَومَ ثمانون ألف مقاتل، في القلب منهم أربعةٌ وأربعون ألفًا من المغول وهم طالبون القلب، وميمنتهم قوية جدًّا، فيقوي ميسرة المسلمين، ويحترز على السناجق، فسقط الطائر بذلك وعلم بمقتضاه، وبات المسلمون على ظهور خيولهم، وعند إسفار الصباح من يوم الخميس رابع عشر شهر رجب: ركب السلطان ورتب العساكِرَ: وجعل في الميسرة الأميرَ سنقر الأشقر ومن معه من الأمراء، ثم اختار السلطانُ مِن مماليكه مائتي فارس، وانفرد عن العصائب ووقف على تل، فكان إذا رأى طلبًا قد اختل أردفه بثلاثمائةٍ مِن مماليكه، فأشرَفت كراديس التتار وهم مِثْلَا عساكر المسلمين، ولم يعتدُّوا منذ عشرين سنة مثل هذه العِدَّة، ولا جمعوا مثل جَمعِهم هذا، فإنَّ أبغا عرض من سيره صحبة أخيه منكوتمر فكانوا خمسة وعشرين ألف فارس منتخبة، فالتحم القتال بين الفريقين بوطأة حمص، قريبًا من مشهد خالد بن الوليد، ويوم الخميس رابع عشر رجب، من ضحوة النهار إلى آخره، وقيل من الساعة الرابعة، فصدمت ميسرة التتار ميمنة المسلمينَ صَدمةً شديدة ثبتوا لها ثباتًا عظيمًا، وحملوا على ميسرةِ التتار فانكسرت وانتَهَت إلى القلب وبه منكوتمر، وصَدَمَت ميمنة التتار ميسرة المسلمين، فانكسرت الميسرةُ وانهزم من كان فيها، وانكسر جناحُ القلب الأيسر، وساق التتار خلفَ المسلمين حتى انتهوا إلى تحت حمص وقد غُلِّقَت أبوابها، ووقعوا في السوقةِ والعامة والرجَّالة والمجاهدين والغلمان بظاهر حمص، فقتلوا منهم خلقًا كثيرًا وأشرف الناس على التلاف، ولم يعلم المسلمون من أهل الميسرة بما جرى للمسلمين أهل الميمنة من النصر، ولا علم التتار الذين ساقوا خلف المسلمين ما نزل بميسرتِهم من الكسرة، ووصل بعض المنهزمين إلى صفد، وكثيرٌ منهم دخل دمشق، ومر بعضُهم إلى غزة، فاضطرب الناسُ بهذه البلاد وانزعجوا انزعاجًا عظيمًا، وأما التتار الذين ساقوا خلف المنهزمين من المسلمين أصحاب الميسرة، فإنهم نزلوا عن خيولهم وأيقنوا بالنَّصرِ، وأرسلوا خيولهم ترعى في مرج حمص، وأكلوا ونهبوا الأثقال والوطاقات والخزانة وهم يحسبون أن أصحابهم ستُدرِكُهم، فلما أبطأوا عليهم بعثوا من يكشف الخبر، فعادت كشافتُهم وأخبرتهم أن منكوتمر هرب، فركبوا وردُّوا راجعين، هذا ما كان من أمر ميمنة التتار وميسرة المسلمين، وأما ميمنة المسلمين فإنها ثبتت وهزمت ميسرة التتار حتى انتهت إلى القلب، إلا الملك المنصورَ قلاوون فإنه ثبت تحت السناجق –الرماح-، ولم يبقَ معه غير ثلاثمائة فارس، والكوسات تضرب، وتقدَّم سنقر الأشقر، وبيسري، وطيبرس الوزيري، وأمير سلاح، وأيتمش السعدي، ولاجين نائب دمشق، وطرنطاي نائب مصر، والدواداري، وأمثالهم من أعيان الأمراء إلى التتار، وأتاهم عيسى بن مهنا فيمن معه، فقتلوا من التتار مقتلةً عظيمة، وكان منكوتمر مقدم التتار قائمًا في جيشه، فلما أراده الله من هزيمته نزل عن فرسه ونظر من تحت أرجل الخيل، فرأى الأثقالَ والدواب فاعتقد أنَّها عساكر، ولم يكن الأمرُ كذلك، بل كان السلطان قلاوون قد تفرقت عنه عساكِرُه ما بين منهزم ومَن تقدم القتال، حتى بقي معه نحو الثلاثمائة فارس لا غير، فنهض منكوتمر من الأرض ليركَبَ فتقنطر عن فرسِه، فنزل التتار كلُّهم لأجله وأخذوه، فعندما رآهم المسلمون قد ترجَّلوا حملوا عليهم حملةً واحدة كان الله معهم فيها، فانتصروا على التتار، وقيل إنَّ الأمير عز الدين أزدمر الحاج حمل في عسكر التتار وأظهر أنه من المنهزِمين، فقَدِمَهم وسأل أن يوصَلَ إلى منكوتمر، فلما قرب منه حمل عليه وألقاه عن فَرَسِه إلى الأرض، فلما سقط نزل التتارُ إليه من أجل أنه وقع، فحمل المسلمون عليهم عند ذلك، فلم يثبُت منكوتمر وانهزم وهو مجروح، فتبعه جيشه وقد افترقوا فرقتين: فرقة أخذت نحو سلمية والبرية، وفرقة أخذت جهة حلب والفرات، وأما ميمنة التتار التي كسرت ميسرة المسلمين، فإنها لما رجعت من تحت حمص كان السلطان قد أمر أن تلف السناجق ويبطل ضرب الكوسات، فإنَّه لم يبق معه إلَّا نحو الألف، فمرت به التتار ولم تعرض له، فلما تقدموه قليلًا ساق عليهم، فانهزموا هزيمةً قبيحة لا يلوون على شيء، وكان ذلك تمام النصر، وهو عند غروبِ الشمس من يوم الخميس، ومر هؤلاء المنهزمون من التتار نحو الجبل يريدون منكوتمر، فكان ذلك من تمام نعمة الله على المسلمين، وإلَّا لو قدر الله أنهم رجعوا على المسلمين لما وجدوا فيهم قوة، ولكِنَّ الله نصر دينه، وهزَمَ عَدُوَّه مع قوتهم وكثرتهم، وانجلَت هذه الواقعة عن قتلى كثيرة من التتار لا يحصى عددهم، وعاد السلطانُ في بقية يومه إلى منزلتِه بعد انقضاء الحرب، وكتب البطائِقَ بالنصرة وبات ليلةَ الجمعة إلى السحر في منزلته، فثار صياحٌ لم يشك النَّاسُ في عود التتار، فبادر السلطان وركب وسائِرُ العساكر، فإذا العسكر الذي تبع التتار وقت الهزيمة قد عاد، وقتل من التتار في الهزيمة أكثَرَ ممن قتل في المصاف، واختفى كثيرٌ منهم بجانب الفرات، فأمر السلطان أن تُضرَمَ النيران بالأزوار التي على الفرات، فاحترق منهم طائفة عظيمة، وهلك كثير منهم في الطريق التي سلكوها من سلمية، وفي يوم الجمعة: خرج من العسكر طائفة في تتبع التتار، مقدمهم الأمير بدر الدين بيليك الأيدمري، ورحل السلطان من ظاهر حمص إلى البحيرة ليبعد عن الجيف، وقتل من التتار صمغار، وهو من أكبر مقدميهم وعظمائهم، وكانت له إلى الشام غارات عديدة، واستشهد من المسلمين زيادة على مائتي رجل، وأمَّا أبغا بن هولاكو ملك التتار فإنه لم يشعر وهو على الرحبة إلا وقد وقعت بطاقة من السلطانِ إلى نائب الرحبة، بما منَّ الله به من النصر وكسرةِ التتار فعندما بلغه ذلك بدق بشائر القلعة رحل إلى بغداد، ووصل الأميرُ بدر الدين الأيدمري إلى حلب، وبعث في طلب التتار إلى الفرات، ففَرُّوا من الطلب وغرق منهم خلق كثير، وعبرت طائفة منهم على قلعة البيرة، فقاتلهم أهلُها وقتلوا منهم خمسمائة، وأسروا مائة وخمسين، وتوجَّه منهم ألف وخمسمائة فارس إلى بغراس، وفيهم أكابِرُ أصحاب سيس وأقاربهم فخرج عليهم الأميرُ شجاع الدين السيناني بمن معه، فقتَلَهم وأسَرَهم عن آخرهم بحيث لم يُفلِتْ منهم إلا دون العشرين، وتوجَّه منهم على سلمية نحو أربعة آلاف، فأخذ عليهم نواب الرحبة الطرقات والمعابر، فساروا في البرية فماتوا عطشًا وجوعًا، ولم يسلم منهم إلا نحو ستمائة فارس، فخرج إليهم أهل الرحبة فقتلوا أكثرهم، وأحضروا عِدَّةً منهم إلى الرحبة ضُرِبت أعناقهم بها، وأدرك بقية التتار الملك أبغا، وفيهم أخوه منكوتمر وهو مجروح، فغضب عليه وقال: " لم لا مت أنت والجيش ولا انهزمت" وغضب أيضًا على المقدمين، فلما دخل أبغا بغداد سار منها إلى جهة همذان وتوجه منكوتمر إلى بلاد الجزيرة فنزل بجزيرة ابن عمر، وكانت الجزيرة لأمه قد أعطاها إياها أبوه هولاكو لما أخذها.
ثار على إبراهيم بن زكريا بن يحيى الثاني أمير الحفصيين في تونس رجل يدعى أحمد بن مرزوق يعرف بابن أبي عمارة الذي قوي أمره، حتى تنازل إبراهيم لابنه أبي فارس أمير مدينة بجاية من قبل أبيه فلقب نفسه بالمعتمد وسار إلى قتال ابن أبي عمارة غير أنه هزم وقُتِلَ، فما كان من أبيه إلا أن هرب باتجاه تلمسان فأدركه بعض أتباع ابن أبي عمارة فحُمِلَ إلى بجاية وقُتِلَ فيها عام 683هـ.
قام سانشو بن ملك قشتالة بالخروج على أبيه لينتزع منه الملك، فاستنجد الملك ألفونسو بأبي يوسف يعقوب بن عبد الحق سلطان بني مرين بالمغرب فأنجده بمال يستعين به على حشد الجنود، كما اجتاز السلطان بنفسِه البحر إلى الأندلس فأغار على أراضي قشتالة وحاصر قرطبة وغزا طليطلة، أمَّا أمير غرناطة أبو عبد الله محمد بن نصر بن الأحمر فأراد أن يصانع سانشو فزحف على المنكب التي كانت تحتلها قوات بني مرين؛ مما اضطر السلطان المريني أن يتخلى عن مؤازرة ألفونسو وعاد ليستردَّ المنكب وكادت أن تقع بينه وبين ابن نصر ملك غرناطة فتنة تفاداها ابن نصر بالتفاهم معه والتخلي له عن المنكب، وعاد السلطانُ المريني إلى المغرب وقد مكنت عودته وانسحابه من إنجاد ألفونسو أن تغلب سانشو على أبيه وهَزَمَه فأصبح طريدًا إلى أن توفي بعد سنتين.
قاضي القضاة شمس الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن إبراهيم بن أبي بكر بن خَلِّكان البرمكي الأربلي الشافعي، ولد بإربل سنة 608, وكان فاضلًا بارعًا متفننًا كريمًا جوادًا ممدوحًا فيه ستر وحِلمٌ وعفو، وعارفًا بالمذهب حسن الفتاوى جيد القريحة بصيرًا بالعربية علَّامة في الأدب والشعر وأيام الناس، كثيرَ الاطلاع حلو المذاكرة وافِرَ الحرمة، فيه رياسة كبيرة، قدم الشام في شبيبته, ودخل مصرَ وسكنها مدَّةً وتأهل بها وناب بها في القضاءِ عن القاضي بدر الدين السنجاري، ثم قدم الشام على القضاء في ذي الحجة سنة تسع وخمسين منفردًا بالأمر ثم أقيم معه في القضاء ثلاثة قضاة, ثم عزل عن القضاء سنة تسع وستين بالقاضي عز الدين بن الصائغ، ثم عزل ابن الصائغ بعد سبع سنين به، وقد كان المنصب بينه وبين ابن الصائغ دولًا يُعزل هذا تارة ويولى هذا، ويُعزَلُ هذا ويولى هذا، وابن خلكان هو أوَّلُ من جدد في أيامه قضاءَ القضاة من سائر المذاهب، فاشتغلوا بالأحكامِ بعد ما كانوا نوابًا له، وقد درَّس ابن خلكان في عدة مدارس لم تجتمع لغيره، ولم يبقَ معه في آخر وقت سوى الأمينية، وبيَدِ ابنه كمال الدين موسى النجيبية، توفي ابن خلكان بالمدرسة النجيبية في إيوانها يوم السبت آخر النهار، في السادس والعشرين من رجب، ودفن من الغد بسفح قاسيون عن ثلاث وسبعين سنة، له مصنفات أشهرها وفيات الأعيان وقد اشتهر كثيرًا وأنباء أبناء الزمان فيه أكثر من ثمانمائة ترجمة, وله مجاميع أدبية.
في خامس المحرم خرجت تجريدة -الجريدة خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها - من قلعة كركر إلى حصار قلعة قطيبا إحدى قلاع آمد، فأخذوها من أيدي التتار، وأقيم فيها الرجالُ وعملت بها الأسلحة والغلال، فصارت من حصون الإسلام المنيعة، وأخذت أيضًا قلعة كختا من النصارى بسؤال أهلها، فتسَلَّمَها أمراء السلطان قلاوون، بمدينة حلب، وشحنت بالأسلحة وغيرها، وصارت مسلطة على الأرمن.
وصولُ رسل صاحب بلاد سيلان من أرض الهند واسمه أبو أنكيه بكتابه، وهو صحيفة ذهب عرض ثلاثة أصابع في طول نصف ذراع بداخلها شيء أخضر يشبه الخوص، إلى السلطان قلاوون بمصر مكتوب فيه بقلم لم يوجد في القاهرة من يحسن قراءته، فسئل الرسل عنه فقالوا " إنه يتضمن السلام والمحبة وإنه ترك صحبة صاحب اليمن وتعلق بمحبة السلطان، ويريد أن يتوجه إليه رسول، وذكر أن عنده أشياء عدها من الجواهر والفيلة والتحف ونحوها، وأنه عبأ تقدمة إلى أبواب السلطان، وأن في مملكة سيلان سبعًا وعشرين قلعة، وبها معادن الجواهر والياقوت، وأن خزائنه ملآنة من الجواهر.
خرج أرغون بن أبغا على عمه تكدار المسمى أحمد سلطان بخراسان، فسار إليه وهزمه ثم أسره، فقامت الخواتين مع أرغون، وسألن الملك تكدار أحمد في الإفراج عنه وتوليته خراسان، فلم يرضَ بذلك، وكانت المغول قد تغيرت على تكدار، لكونه دخل في دين الإسلام وإلزامه لهم بالإسلام، فثاروا وأخرجوا أرغون من الاعتقال، وطرقوا ألناق نائب تكدار ليقتُلوه ففَرَّ منهم فأدركوه وقتلوا تكدار أيضًا في العام التالي، وأقاموا أرغون بن أبغا ملكًا، فولى أرغون وزارته سعد الدولة اليهودي، وولى ولديه خربندا وقازان خراسان، وعمل أتابكهما الأمير نوروز.
هو شهاب الدين عبد الحليم بن الشيخ الإمام العلامة مجد الدين عبد السلام أبي البركات بن عبد الله بن أبي القاسم بن تيمية الحراني، والد تقي الدين شيخ الإسلام ابن تيمية، مفتي الفرق، الفارق بين الفرق، كان له فضيلة حسنة، ولديه فضائل كثيرة، وكان له كرسي بجامع دمشق يتكلم عليه عن ظاهر قلبهِ، وولي مشيخةَ دار الحديث السكَّرية بالقصاعين، وبها كان سكَنُه، كان إمامًا في المذهب الحنبلي وَلِيَ القضاء على كُرهٍ، ثم اعتزله كان زاهدًا وَرِعًا مشهورَ الصَّلاحِ، توفي في دمشق عن 55 عامًا ودفن بمقابر الصوفيَّة رحمه الله.
بعد خروج ابن أبي عمارة على دولة الحفصيين بتونس خلع أميرَها إبراهيم بن زكريا الحفصي وبويع أبو حفص عمر الأول بن يحيى بن عبد الواحد الحفصي، أما أبو زكريا يحيى بن أبي إسحاق فقد استقَلَّ بمدينة بجاية وقسطينة وبونة، وأقام دولة لهم بالمغرب الأوسط واتخذَ مِن بجاية عاصمةً له.
هو الإمام العالم المصَنِّف الفقيه الحنفي أبو الفضل عبد الله بن محمود بن مودود الموصلي، ولد بالموصل سنة 599هـ (1203م) له أصحاب وحلقة أشغال، ومن مصنفاته: "المختار في الفتوى" و"الاختيار لتعليل المختار" و"الوقاية" و"شرح الجامع الكبير للشيباني"، تولى قضاء الكوفة فترة، ثم استقَرَّ في بغداد يفتي ويدرس في مسجد الإمامِ أبي حنيفة. قال ابن الفوطي: "كان عالمًا بالفقه والخلاف والأصول، سمع الكثيرَ في صباه وألحق الأحفاد بالأجداد، وكان صبورًا على السماع، ولي قضاء الكوفة، ثم فوض إليه تدريس مشهد الإمام أبي حنيفة، فكان على ذلك إلى أن توفي في العشرين من محرم" مات ببغداد ودفن بمشهد أبي حنيفة، وكان يومًا مشهودًا.