لَمَّا مات السُّلطان مسعود، قال خاص بك لملكشاه: "سأقبِضُ عليك صُورةً، وأطلُبُ أخاك محمَّدًا لأُمَلِّكَه، فإذا جاء أمسَكْناه، وتستَقِلَّ أنت. قال: فافعَلْ. فما نَفَقَ خُبثُه على محمَّدٍ، وجاء إلى همذان، فبادر العَسكَرُ إليه، فقال: كلامُكم مع خاص بك فهو الوالِدُ، فوصل هذا القَولُ إلى خاص بك، فاطمَأَنَّ، وتلَقَّاه، وقَدَّمَ له تُحَفًا، ثمَّ قُتِلَ خاص بك، وخَلَّفَ أموالًا جزيلةً مِن بعضِها سبعون ألفَ ثوب أطلس. قال المؤيَّدُ: بَدَرَه السُّلطانُ مُحمَّد ثاني يوم مِن قُدومِه، وقتَلَه"، وقَتَلَ معه زنكي الجاندار، وألقى برأسَيهما، فتفَرَّقَ أصحابُهما، ولم ينتَطِحْ فيهما عَنزانِ، وأخذ مُحمَّدٌ مِن أموالِ خاص بك شيئًا كثيرًا واستقَرَّ مُحمَّدٌ في السلطنة وتمكَّنَ، وبَقِيَ خاص بك مُلقًى حتى أكلَتْه الكِلابُ، وكان صبيًّا تُركمانيًّا اتصل بالسُّلطانِ مَسعود، فتقَدَّمَ على سائر الأمراءِ، وكانت هذه خاتِمةَ أمْرِه.
مَلَكَ الفِرنجُ بالشَّامِ مَدينةَ عَسقلان، وكانت مِن جُملةِ مَملكةِ الظَّافِرِ بالله الفاطميِّ المصريِّ، وكان الفِرنجُ كُلَّ سَنةٍ يَقصِدونَها ويَحصُرونَها، فلا يَجِدونَ إلى مِلْكِها سَبيلًا، وكان الوُزراء بمِصرَ لهم الحُكمُ في البلاد، والحُكَّامُ معهم اسمٌ لا معنى تحته، وكان الوزراءُ كُلَّ سَنَةٍ يُرسِلونَ إليها الذَّخائِرَ والأسلِحةَ والأموال والرِّجالَ مَن يَقومُ بحِفظِها، فلمَّا كان في هذه السَّنَةِ قُتِلَ ابنُ السلار الوزيرُ، واختَلَفَت الأهواءُ في مصر، وولِيَ عَبَّاس الوَزارةَ، إلى أن استَقَرَّت قاعدة، فاغتَنَم الفرنج اشتغالَهم عن عسقلان، فاجتَمَعوا وحَصَروها، فصَبَرَ أهلُها، وقاتَلوهم قِتالًا شديدًا، حتى إنَّهم بعضَ الأيامِ قاتلوا خارِجَ السُّورِ، ورَدُّوا الفِرنجَ إلى خيامِهم مَقهورينَ، وتَبِعَهم أهلُ البَلَدِ إليها فأَيِسَ حينئذ الفِرنجُ مِن مِلْكِها، فبينما الفِرنجُ على عَزمِ الرَّحيلِ إذ أتاهم الخبَرُ أنَّ خِلافًا قد وقع بين أهلِ عَسقلان، وقُتِلَ بينهم قتلى، فصبَرَ الفِرنجُ، وكان سَبَبُ هذا الاختلاف أنَّهم لَمَّا عادوا عن قِتالِ الفِرنجِ قاهرينَ مَنصورينَ، ادَّعَت كلُّ طائفةٍ منهم أن النُّصرةَ مِن جِهتِهم كانت، وأنَّهم هم الذين رَدُّوا الفِرنجَ خاسِرينَ، فعَظُمَ الخِصامُ بينهم إلى أن قُتِلَ مِن إحدى الطائفتَينِ قَتيلٌ، واشتَدَّ الخَطبُ حينئذ، وتفاقَمَ الشَّرُّ، ووقعت الحَربُ بينهم، فقُتِلَ بينهم قتلى، فزاد طَمَعُ الفِرنجِ في عَسقلان، فزَحَفوا إليها وقاتَلوهم عليها، فلم يَجِدوا مَن يَمنَعُهم فمَلَكَوها.
لَمَّا مَلَك الخطا بلادَ ما وراءَ النَّهرِ، خَرَجَ منها الغُزُّ الأتراكُ وهم طائفةٌ مِن مُسلِمي التُّركِ، كانوا بما وراء النَّهرِ، فقَصَدوا خراسان وكانوا خَلقًا كثيرًا، فأقاموا بنواحي بَلخٍ يَرْعَون في مراعيها، فأراد الأميرُ قماج وهو صاحِبُ بلخ، إبعادَهم، فصانعوه بشَيءٍ مِن المال بَذَلوه له، فعاد عنهم، فأقاموا على حالةٍ حَسَنةٍ لا يؤذونَ أحدًا، يُقيمونَ الصَّلاةَ, ويُؤتُونَ الزَّكاةَ, ثمَّ إنَّ قماج عاوَدَهم وأمَرَهم بالانتِقالِ عن بلَدِه، فامتَنَعوا، وانضَمَّ بَعضُهم إلى بعضٍ، واجتَمَعَ معهم غَيرُهم من طوائِفِ التُّركِ، فسار قماج إليهم في عَشرةِ آلافِ فارِسٍ، فجاء إليه أمراؤُهم وسألوه أن يَكُفَّ عنهم، ويَترُكَهم في مَراعيهم، ويُعطونَه مِن كلِّ بَيتٍ مِئَتي دِرهمٍ فِضَّة، فلم يُجِبْهم إلى ذلك، وشَدَّدَ عليهم في الانتزاحِ عن بَلَدِه، فعادوا عنه، واجتَمَعوا وقاتلوه، فانضَمَّ إليه العسكَرُ الخُراساني, فلمَّا سَمِعوا بقُربِ الغز الأتراك منهم أجفَلوا مِن بينِ يَدَيه هاربين؛ لِما دخَلَ قُلوبَهم مِن خَوفِهم والرُّعبِ منهم؛ فلَمَّا فارقها السُّلطانُ سنجر والعَسكَر، دخَلَها الغز ونَهَبوها أفحَشَ نَهبٍ وأقبَحَه، وذلك في جمادى الأولى من هذه السَّنةِ، وقُتِلَ بها كثيرٌ مِن أهلِها وأعيانِها، ولَمَّا خرج سنجر مِن مَروٍ قَصَدَ إندرابة وأخَذَه الغزُّ أسيرًا، ثم عاودوا الغارةَ على مَروٍ في رَجَب مِن هذه السَّنةِ، فمَنَعَهم أهلُها، وقاتلوهم قِتالًا بَذَلوا فيه جُهدَهم وطاقَتَهم، ثمَّ إنَّهم عَجَزوا، فاستَسلَموا إليهم، فنَهَبوها أقبَحَ مِن النَّهبِ الأوَّلِ ولم يتركوا بها شَيئًا، وكان قد فارق سنجر جميعُ أمراءِ خُراسان ووزيرُه طاهر بن فخر الملك بن نظام الملك، ولم يَبْقَ عِندَه غيرُ نَفَرٍ يَسيرٍ مِن خواصِّه وخدَمِه، فلمَّا وصلوا إلى نيسابور أحضروا المَلِكَ سُليمان شاه بن السُّلطان محمد، فوصَلَ إلى نيسابور تاسِعَ عَشَرَ مِن جمادى الآخرة مِن هذه السَّنةِ، فاجتمعوا عليه، وخَطَبوا له بالسَّلطنةِ، وسار في هذا الشَّهرِ جَماعةٌ مِن العَسكَرِ السُّلطاني إلى طائفةٍ كَثيرةٍ مِن الغز، فأوقعوا بهم، وقَتَلوا منهم كثيرًا، وانهزم الباقونَ إلى أمرائِهم الغزيَّةِ فاجتَمَعوا معهم، ولَمَّا اجتَمَعَت العساكِرُ على المَلِك سُليمان شاه ساروا إلى مَرْوٍ يَطلُبونَ الغز، فبَرَز الغز إليهم، فساعةَ رآهم العَسكَرُ الخراساني انهزموا وولَّوا على أدبارِهم، وقَصَدوا نيسابور، وتَبِعَهم الغز، فمَرُّوا بطوس، فنَهَبوها، وسَبَوا نِساءَها، وقَتَلوا رجالَها، وخَرَّبوا مساجِدَها ومساكِنَ أهلِها، ولم يَسلَمْ مِن جَميعِ ولاية طوس إلَّا البلد الذي فيه مَشهَدُ عليِّ بنِ موسى الرضي، ومواضِعُ أُخَرُ لها أسوار، وساروا منها إلى نيسابور، فوَصَلوا إليها في شَوَّال سنة 549، ولم يَجِدوا دونها مانِعًا ولا مُدافعًا، فنهبوها نهبًا ذريعًا، وقَتَلوا أهلَها، فأكثَروا حتى ظنُّوا أنَّهم لم يُبقوا بها أحدًا، حتى إنَّه أُحصِيَ في مَحلَّتَينِ خَمسةَ عشَرَ ألفَ قَتيلٍ مِن الرجال دونَ النِّساءِ والصِّبيانِ، وسَبَوا نساءَها وأطفالها، وأخَذوا أموالهم، وبَقِيَ القتلى في الدُّروبِ كالتِّلالِ بَعضُهم فوقَ بَعضٍ، واجتَمَع أكثَرُ أهلِها بالجامِعِ المنيعي وتحصَّنوا به، فحصَرَهم الغز فعَجَزَ أهلُ نيسابور عن مَنْعِهم، فدخل الغزُّ إليهم فقَتَلوهم عن آخِرِهم، وكانوا يَطلُبونَ مِن الرَّجُلِ المال، فإذا أعطاهم الرجُلَ مالَه قَتَلوه، وقتلوا كثيرًا مِن أئمَّةِ العُلَماءِ والصَّالحينَ، وأحرقوا ما بها من خزائِنِ الكُتُبِ، ولم يَسلَمْ إلَّا بَعضُها. وحَصَروا شارستان، وهي منيعةٌ، فأحاطوا بها، وقاتَلَهم أهلُها مِن فوقِ سُورِها، وقصدوا جوين فنَهَبوها، وقاتَلَهم أهل بحراباذ من أعمالِ جوين، وبَذَلوا نفوسَهم لله تعالى، وحَمَوا بَيضَتَهم, والباقي أتى النَّهبُ والقتلُ عليه، ثمَّ قصدوا أسفرايين فنَهَبوها وخَرَّبوها، وقتلوا في أهلِها فأكثَروا، ولَمَّا فَرَغَ الغزُّ مِن جوين وأسفرايين عاودوا نيسابور، فنَهَبوا ما بَقِيَ فيها بعد النَّهبِ الأول، وكان قد لحِقَ بشَهرستان كثيرٌ مِن أهلها، فحَصَرَهم الغزُّ واستولوا عليها، ونَهَبوا ما كان فيها لأهلِها ولأهلِ نيسابور، ونهبوا الحرمَ والأطفال، وفَعَلوا ما لم يفعَلْه الكُفَّارُ مع المُسلِمينَ، وكان العَيَّارون أيضًا ينهَبونَ نيسابورَ أشَدَّ مِن نهبِ الغُز ويفعلونَ أقبَحَ مِن فِعْلِهم، ثمَّ إنَّ أمرَ الملكِ سُليمانَ شاه ضَعُفَ، وكان قبيحَ السِّيرةِ سَيِّئ التدبيرِ، وإنَّ وَزيرَه طاهِرَ بنَ فخر الملك بن نظام الملك توفِّيَ في شوال سنة 548 فضَعُفَ أمرُه، واستوزر سُلَيمان شاه بعده ابنَه نظم الملك أبا علي الحَسَن بن طاهر وانحَلَّ أمرُ دَولَتِه بالكليَّة، ففارق خراسان في صفر سنة 549 وعاد إلى جرجان، فاجتمَعَ الأُمَراءُ وراسلوا الخان محمود بن محمد بن بغراخان، وهو ابنُ أخت السُّلطان سنجر، وخَطَبوا له على منابِرِ خُراسان، واستدعَوه إليهم، فمَلَّكوه أمورهم، وانقادوا له في شوال سنة 549، وسارُوا معه إلى الغزِّ وهم يحاصِرونَ هراة، وجرت بينهم حروبٌ، كان الظَّفَرُ في أكثَرِها للغز، ورَحَلوا في جُمادى الأولى من سنة 550 مِن على هراة إلى مَرْوٍ، وعاودوا المُصادرةَ لأهلِها.
هو المَلِكُ العادِلُ سَيفُ الدين أبو منصور عليُّ بنُ إسحاق المعروف بابن السلار، وزيرُ الظَّافِرِ العُبَيدي صاحِبِ مِصرَ، كان من أمراء الأكراد، وكان تربيةَ القَصرِ بالقاهرة، وتقَلَّبَت فيه الأحوالُ في الولايات بالصَّعيدِ وغَيرِه إلى أن تولى الوزارةَ للظَّافِرِ في رَجَب سنة 543. بعد أن تغَلَّبَ على ابنِ مصال وانتزَعَ منه الوزارةَ واستَمَرَّ العادِلُ في الوزارة إلى أن قُتِلَ، وكان ابنُ السلار مِن الأبطالِ المَشهورينَ شَهمًا مِقدامًا، عَمَرَ بالقاهرة مساجِدَ، وكان سُنِّيًّا مُسلِمًا حَسَنَ المُعتَقَدِ شافعيًّا، خَمَدَ بولايته ثائِرةَ الرَّفضِ بمِصرَ، مائلًا إلى أرباب الفَضلِ والصَّلاحِ؛ فقد احتَفَلَ بالحافِظِ أبي طاهرٍ السَّلفي لَمَّا ورد عليه بثغر الإسكندريةِ، وزاد في إكرامه، وعَمَرَ له هناك مدرسةً فَوَّضَ تَدريسَها إليه، وكان مع هذه الأوصافِ ذا سيرةٍ جائرةٍ، وسَطوةٍ قاطِعةٍ، يُؤاخِذُ النَّاسَ بالصَّغائِرِ والمُحَقَّراتِ، وكان قد وصَلَ مِن إفريقيَّةَ إلى الدِّيارِ المِصريَّة أبو الفتوح بن يحيى سنة 509، فسار إلى الديارِ المِصريَّة ومعه زوجته بلارة ابنةُ القاسم بن تميم بن المعز بن باديس، وولَدُه عباس وهو صَغيرٌ يَرضَعُ. نزل أبو الفتوح بالإسكندرية، فأقام بها مُدَّةً يسيرة، ثم توفِّيَ فتَزَوَّجَت امرأتهُ بلارة بابنِ السَّلار وأقامت عنده زمانًا، ثمَّ تَزَوَّجَ ابنُها العباس بمصرَ ورُزِقَ ولدًا سَمَّاه نصرًا، فكان عند جَدَّتِه بلارة في دار العادِلِ، والعادِلُ يحنو عليه ويُعِزُّه، ونَصرًا هذ هو الذي قَتَلَ العادِلَ على فِراشِه يومَ الخميس سادس المحرم بدار الوَزارة بالقاهرة بتدبيرٍ مِن والِدِه العَبَّاس وأسامة بن منقذ، وقيل: إنه قتل يوم السبت حادي عشر المحرم, وهذا نَصرُ بنُ عباس هو الذي قَتَلَ أيضًا حاكِمَ مِصرَ الظَّافِرَ إسماعيلَ بنَ الحافِظِ العُبَيدي.
كانت الحَربُ بين عَسكَرِ عبدِ المُؤمِنِ والعَرَبِ عند مدينة سطيف، وسَبَبُ ذلك أنَّ العَرَبَ- وهم بنو هلالٍ، والأبتح، وعدي، ورياح، وزغب، وغيرهم من العرب- لَمَّا مَلَك عبدُ المؤمِنِ بلادَ بني حَمَّاد اجتَمَعوا من أرض طرابلس إلى أقصى المغرب، وقالوا: إنْ جاوَرَنا عبدُ المؤمِنِ أجلانا من المَغرِبِ، وليس الرأيُ إلَّا إلقاءَ الجِدِّ معه، وإخراجَه من البلاد قبل أن يتمَكَّنَ، وتحالَفوا على التعاوُنِ والتَّضافُرِ، وألَّا يَخونَ بَعضُهم بعضًا، وعَزَموا على لقائِه بالرِّجالِ والأهلِ والمالِ؛ ليُقاتِلوا قِتالَ الحريم، واتَّصَل الخبَرُ بالملك رجار الفرنجي، صاحِبِ صقَليَّة، فأرسل إلى أمراءِ العَرَبِ، وهم محرز بن زياد، وجبارة بن كامل، وحسن بن ثعلب، وعيسى بن حسن وغيرهم يَحُثُّهم على لقاءِ عبدِ المؤمنِ ويَعرِضُ عليهم أن يُرسِلَ إليهم خمسةَ آلاف فارس من الفِرنجِ يُقاتِلونَ معهم على شَرطِ أن يُرسِلوا إليه الرَّهائِنَ، فشَكَروه وقالوا: ما بنا حاجةٌ إلى نَجدَتِه ولا نَستَعينُ بغير المُسلِمينَ، وساروا في عددٍ لا يحصى، وكان عبدُ المؤمن قد رحل من بجاية إلى بلادِ المغرب، فلَمَّا بلغه خبَرُهم جَهَّزَ جَيشًا من الموحِّدينَ يزيدُ على ثلاثين ألفَ فارس، واستعمل عليهم عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ الهنتاني، وسعدَ اللهِ بنَ يحيى، وكان العَرَبُ أضعافَهم، فاستجَرَّهم الموحِّدونَ وتَبِعَهم العَرَبُ إلى أن وصلوا إلى أرض سطيف بين جبال، فحَمَلَ عليهم جَيشُ عبد المؤمن فجأةً والعَرَبُ على غيرِ أُهبةٍ، والتقى الجَمعانِ، واقتتلوا أشَدَّ قتالٍ وأعظَمَه، فانجَلَتِ المعركةُ عن انهزامِ العَرَبِ ونُصرةِ المُوحِّدينَ، وتَرَك العَرَبُ جميعَ ما لهم من أهلٍ ومالٍ وأثاثٍ ونَعَمٍ، فأخذ الموحِّدونَ جميعَ ذلك، وعاد الجيشُ إلى عبدِ المُؤمِنِ بجَميعِه، فقَسَّمَ جميعَ الأموالِ على عَسكَرِه، وتَرَك النِّساءَ والأولادَ تحت الاحتياط، وكَّلَ بهم من الخَدَمِ الخِصيانِ مَن يَخدُمهم ويقومُ بحَوائِجِهم، وأمَرَ بصِيانتِهم، فلمَّا وصلوا معه إلى مراكش أنزَلَهم في المساكنِ الفَسيحةِ، وأجرى لهم النَّفَقاتِ الواسِعةَ، وأمَرَ عبدُ المؤمِنِ ابنَه مُحمَّدًا أن يكاتِبَ أُمَراءَ العَرَبِ ويُعلِمُهم أنَّ نِساءهم تحت الحِفظِ والصِّيانة، وأمَرَهم أن يَحضُروا ليُسَلِّمَ إليهم أبوه ذلك جَميعَه، وأنَّه قد بذل لهم الأمانَ والكَرامةَ، فلمَّا وَصَلَ كِتابُ مُحَمَّدٍ إلى العَرَبِ سارعوا إلى المسيرِ إلى مراكش، فلمَّا وصلوا إليها أعطاهم عبدُ المؤمِنِ نِساءَهم وأولادَهم، وأحسن إليهم وأعطاهم أموالًا جزيلةً، فاستَرَقَّ قُلوبَهم بذلك، وأقاموا عنده، وكان بهم حَفِيًّا، واستعان بهم على ولايةِ ابنِه مُحمَّدٍ للعَهدِ.
سار أُسطولُ رجار مَلِكِ الفرنج بصقليَّةَ إلى مدينة بونة- وهي أوَّلُ حَدٍّ مِن بلادِ إفريقيَّةَ- وكان المُقَدَّمُ عليهم فتاه فيلب المهدوي، فحَصَرَها واستعان بالعَرَبِ عليها، فأخَذَها في رجب، وسَبى أهلَها، ومَلَكَ ما فيها، غيرَ أنَّه أغضى عن جماعةٍ مِن العُلَماءِ والصَّالحينَ، حتى خَرَجوا بأهليهم وأموالِهم إلى القُرى، فأقام بها عَشرةَ أيَّامٍ، وعاد إلى المهديَّةِ وبَعضِ الأسرى معه، وعاد إلى صقليَّةَ، فقَبَضَ رجار على فيلب المهدوي؛ لِما اعتَمَدَه مِن الرِّفقِ بالمُسلِمينَ في بونة, وكان يقالُ إن فيلب وجميع فتيانه مُسلِمونَ يَكتُمونَ ذلك، وشَهِدوا عليه أنَّه لا يصومُ مع المَلِك، وأنَّه مُسلِمٌ، فجَمَعَ رجار الأساقِفةَ والقُسوسَ والفُرسانَ، فحَكَموا بأنْ يُحرَقَ، فأُحرِقَ في رمضانَ، وهذا أوَّلُ وَهَنٍ دَخَلَ على المُسلِمينَ بصقليَّةَ.
في هذه السَّنَةِ وقِيلَ التي بعدَها، مَلَكَ نورُ الدينِ محمودُ بن زِنكي قَلعةَ تَلِّ باشِرَ، وهي شَماليَّ حَلَب مِن أَمنَعِ القِلاعِ، وسَببُ مِلْكِها أن الفِرنجَ لمَّا رأوا أن نورَ الدينِ مَلَكَ دِمشقَ خافوهُ، وعَلِموا أنه يَقوَى عليهم، ولا يَقدِرون على الانتِصافِ منه، لِمَا كانوا يَرَوْنَ منه قبلَ مِلْكِها، فراسَلَهُ مَن بهذه القَلعةِ مِن الفِرنجِ، وبَذَلوا له تَسليمَها، فسَيَّرَ إليهم الأَميرَ حَسَّان المنبجيَّ، وهو من أَكابرِ أُمراءِه، وكان أَقطَعهُ ذلك الوَقتَ مَدينةَ منبج، وهي تُقارِب تَلَّ باشِرَ، وأَمَرَهُ أن يَسيرَ إليها ويَتَسلَّمَها، فسار إليهم وتَسلَّمَها منهم، وحَصَّنَها ورَفَعَ إليها من الذَّخائرِ ما يَكفِيها سِنينَ كَثيرةً.
سَيَّرَ الخَليفةُ العبَّاسيُّ المُقتَفِي لأَمرِ الله عَسكرًا إلى تَكريتَ لِيَحصُروها، وأَرسلَ معهم مُقدَّمًا عليهم أبا البَدرِ بن الوَزيرِ عَوْنِ الدِّينِ بن هُبيرَة وتُرشُكَ، وهو مِن خَواصِّ الخَليفةِ، وغَيرَهما، فجَرَى بين أبي البَدرِ وتُرشُكَ مُنافرَةً فكَتَبَ ابنُ الوَزيرِ للخَليفةِ يشكو من تُرشكَ، فأَمرَ الخَليفةُ بالقَبضِ على تُرشكَ، فعَرَفَ ذلك، فأَرسلَ إلى مَسعودِ بِلال، صاحِبِ تَكريت، وصالَحَهُ وقَبَضَ على ابنِ الوَزيرِ ومَن معه مِن المُتَقدِّمينَ، وسَلَّمَهم إلى مَسعودِ بِلالٍ فانهَزمَ العَسكرُ وغَرَقَ منه كَثيرٌ، وسار مَسعودُ بِلالٍ وتُرشكُ من تَكريتَ إلى طَريقِ خراسان فنَهَبَا وأَفسَدا، فسار المُقتَفِي عن بغداد لدِفْعِهِما، فهَرَبا من بين يَديهِ، فقَصَدَ تَكريتَ، فحَصَرَها أَيامًا وجَرَى له مع أَهلِها حُروبٌ مِن وَراءِ السُّورِ، فقُتِلَ من العَسكرِ جَماعةٌ بالنُّشَّابِ، فعاد الخَليفةُ عنها، ولم يَملِكها.
سُئِلَ شَيخُ الإسلامِ ابنِ تَيميَّةَ عن المَشهَدِ المَنسوبِ إلى الحُسينِ رضي الله عنه بمَدينةِ القاهرةِ:هل هو صَحيحٌ أم لا؟ وهل حُمِلَ رَأسُ الحُسينِ إلى دِمشقَ، ثم إلى مصر، أم حُمِلَ إلى المَدينَةِ من جِهَةِ العِراقِ؟ وهل لِمَا يَذكُرهُ بعضُ الناسِ مِن جِهَةِ المَشهَدِ الذي كان بعَسقلان صِحَّةٌ أم لا؟ ومَن ذَكَرَ أَمرَ رَأسِ الحُسينِ، ونَقْلِه إلى المَدينةِ النَّبويَّةِ دون الشامِ ومصر؟ ومَن جَزَمَ مِن العُلماءِ المُتقدِّمينَ والمُتأخِّرينَ بأن مَشهدَ عَسقلانَ ومَشهدَ القاهرةِ مَكذوبٌ، وليس بصَحيحٍ؟ وليَبسُطوا القَولَ في ذلك لأَجلِ مَسِيسِ الضَّرورَةِ والحاجةِ إليه، مُثابِينَ مَأجُورِينَ. فأجاب: "الحمدُ لله، بل المَشهدُ المَنسوبُ إلى الحُسينِ بنِ عَلِيٍّ رضي الله عنهما الذي بالقاهرةِ كَذِبٌ مُختَلقٌ، بلا نِزاعٍ بين العُلماءِ المَعروفِينَ عند أَهلِ العِلمِ، الذين يَرجِع إليهم المسلمون في مِثلِ ذلك لِعِلْمِهِم وصِدْقِهم. ولا يُعرَف عن عالِمٍ مُسَمَّى مُعروفٌ بعِلْمٍ وصِدْقٍ أنه قال: إن هذا المَشهدَ صَحيحٌ. وإنما يَذكرُه بعضُ الناسِ قَوْلًا عمَّن لا يُعرَف، على عادةِ مَن يَحكِي مَقالاتِ الرَّافِضَةِ وأَمثالِهم مِن أَهلِ الكَذِب. فإنهم يَنقُلونَ أَحاديثَ وحِكاياتٍ، ويَذكُرون مَذاهِبَ ومَقالاتٍ. وإذا طالَبتَهُم بمَن قال ذلك ونَقَلَهُ، لم يكُن لهم عِصمَةٌ يَرجِعُون إليها. ولم يُسَمُّوا أَحَدًا مَعروفًا بالصِّدقِ في نَقلِه، ولا بالعِلمِ في قَولِه، بل غايةُ ما يَعتَمِدون عليه أن يقولوا: أَجمَعَت الطائِفَةُ الحَقَّةُ. وهُم عند أَنفُسِهم الطائِفةُ الحَقَّة، الذين هم عند أَنفُسِهم المؤمنين، وسائرُ الأُمَّةِ سِواهُم كُفَّارٌ. وهكذا كلُّ ما يَنقُلونَه من هذا البابِ. يَنقُلون سِيَرًا أو حِكاياتٍ وأَحاديثَ، إذا ما طالَبتَهُم بإسنادِها لم يُحيلُوكَ على رَجُلٍ مَعروفٍ بالصِّدقِ، بل حَسْبُ أَحَدِهم أن يكون سَمِعَ ذلك مِن آخرَ مِثلِه، أو قَرأَهُ في كِتابٍ ليس فيه إسنادٌ مَعروفٌ، وإن سَمُّوا أَحَدًا، كان من المَشهُورِين بالكَذِبِ والبُهتان. لا يُتَصَوَّر قَطُّ أن يَنقُلوا شيئًا مما لا يُعرَف عند عُلماءِ السُّنَّةِ إلا وهو عن مَجهولٍ لا يُعرَف، أو عن مَعروفٍ بالكَذِب. ومن هذا البابِ نَقْلُ الناقلِ: أن هذا القَبرَ الذي بالقاهرةِ مَشهدُ الحُسينِ رضي الله عنه؛ بل وكذلك مَشاهدُ غيرُ هذا مُضافَةٌ إلى قَبرِ الحُسينِ رضي الله عنه، فإنه مَعلومٌ باتِّفاقِ الناسِ: أن هذا المَشهدَ بُنِيَ عامَ بِضعٍ وأربعين وخمسمائة، وأنه نُقِلَ مِن مَشهدٍ بعَسقلانَ، وأن ذلك المَشهدَ بعَسقلانَ كان قد أُحدِثَ بعدَ التِّسعين والأربعمائة. فأَصلُ هذا المَشهدِ القاهريِّ: هو ذلك المَشهدُ العَسقلانيُّ. وذلك العَسقلانيُّ مُحْدَثٌ بعدَ مَقتلِ الحُسينِ بأَكثرَ من أربعمائة وثلاثين سَنَةً، وهذا القاهريُّ مُحْدَثٌ بعدَ مَقتَلِه بقَريبٍ من خمسمائة سَنَةٍ. وهذا مما لم يُتنازَع فيه اثنان ممَّن تَكلَّم في هذا البابِ من أَهلِ العِلمِ، على اختِلافِ أَصنافِهم، كأَهلِ الحَديثِ، ومُصَنِّفِي أَخبارِ القاهرةِ، ومُصَنِّفِي التَّواريخِ. وما نَقَلَهُ أَهلُ العِلمِ طَبقَةٌ عن طَبقَةٍ. فمِثلُ هذا مُستَفيضٌ عندهم. وهذا بينهم مَشهورٌ مُتَواتِرٌ، سَواءٌ قِيلَ: إن إضافَتَهُ إلى الحُسينِ صِدقٌ أو كَذِبٌ، لم يَتَنازَعوا أنه نُقِلَ من عَسقلانَ في أواخرِ الدولةِ العُبيديَّةِ. وإذا كان أَصلُ هذا المَشهدِ القاهريِّ مَنقولٌ عن ذلك المَشهدِ العَسقلانيِّ باتِّفاقِ الناسِ وبالنَّقْلِ المُتَواتِر؛ فمن المَعلومِ أن قَولَ القائلِ: إن ذلك الذي بعَسقلانَ هو مَبْنِيٌّ على رَأسِ الحُسينِ رضي الله عنه قَوْلٌ بلا حُجَّةٍ أَصلًا. فإن هذا لم يَنقُلهُ أَحَدٌ من أَهلِ العِلمِ الذين مِن شَأنِهم نَقلُ هذا. لا من أَهلِ الحَديثِ، ولا من عُلماءِ الأَخبارِ والتَّواريخِ، ولا من العُلماءِ المُصَنِّفين في النَّسَبِ؛ نَسَبِ قُريشٍ، أو نَسَبِ بَنِي هاشِمٍ ونَحوِه. وذلك المَشهدُ العَسقلانيُّ، أُحدِثَ في آخِرِ المائةِ الخامسةِ، لم يكُن قَديمًا، ولا كان هناك مَكانٌ قَبلَه أو نَحوَه مُضافٌ إلى الحُسينِ، ولا حَجَرٌ مَنقوشٌ ولا نَحوُه ممَّا يُقالُ: إنه عَلامةٌ على ذلك. فتَبَيَّنَ بذلك أن إِضافةَ مِثلِ هذا إلى الحُسينِ قَوْلٌ بلا عِلمٍ أصلًا. وليس مِن قائِلٍ ذلك ما يَصلُح أن يكون مُعتَمَدًا، لا نَقْلٌ صَحيحٌ ولا ضَعيفٌ، بل لا فَرقَ بين ذلك وبين أن يَجيءَ الرَّجلُ إلى بَعضِ القُبورِ التي بأَحَدِ أَمصارِ المسلمين، فيَدَّعِي أن في واحدٍ منها رَأسَ الحُسينِ، أو يَدَّعِي أن هذا قَبرُ نَبِيٍّ من الأَنبياءِ، أو نحوَ ذلك ممَّا يَدَّعِيهِ كَثيرٌ من أَهلِ الكَذِبِ والضَّلالِ. وإذا كان ذلك المَشهدُ العَسقلانيُّ قد قال طائفةٌ: إنه قَبرُ بَعضِ النَّصارَى، أو بَعضِ الحَواريِّينَ –وليس مَعَنَا ما يَدُلُّ على أنه قَبرُ مُسلِمٍ، فَضلًا عن أن يكون قَبرًا لرَأسِ الحُسينِ- كان قَولُ مَن قال: إنه قَبرُ مُسلِمٍ –الحُسينِ أو غَيرِه- قَوْلًا زُورًا وكَذِبًا مَردودًا على قائلِه. فهذا كافٍ في المَنْعِ مِن أن يُقال: هذا مَشهدُ الحُسينِ. ثم نقول: بل نحن نَعلَم ونَجزِم بأنه ليس فيه رَأسُ الحُسينِ، ولا كان ذلك المَشهدُ العَسقلانيُّ مَشهَدًا للحُسينِ، من وُجُوهٍ مُتعدِّدَةٍ: منها: أنه لو كان رَأسُ الحُسينِ هناك لم يَتأَخَّر كَشْفُه وإِظهارُه إلى ما بعدَ مَقتَلِ الحُسينِ بأكثرَ من أربعمائة سَنَةٍ. ودَولةُ بَنِي أُمَيَّة انقَرَضَت قبلَ ظُهورِ ذلك بأَكثرَ من ثلاثمائة وبِضعٍ وخمسين سَنَةً. وقد جاءت خِلافَةُ بني العبَّاسِ وظَهَرَ في أَثنائِها من المَشاهِدِ بالعِراقِ وغَيرِ العِراقِ ما كان كَثيرٌ منها كَذِبًا. وكانوا عند مَقتَلِ الحُسينِ بكَربَلاء قد بَنوا هناك مَشهدًا. وكان يَنتابُه أُمراءُ عُظماءُ، حتى أَنكرَ ذلك عليهم الأئمَّةُ. وحتى إن المُتوَكِّل لمَّا تَقدَّموا له بأَشياءَ يُقال: إنه بالَغَ في إِنكارِ ذلك وزادَ على الواجبِ. دَعْ خِلافةَ بَنِي العبَّاسِ في أَوائلِها، وفي حالِ استِقامَتِها، فإنهم حينئذٍ لم يكونوا يُعَظِّمونَ المَشاهِدَ، سَواءٌ منها ما كان صِدقًا أو كَذِبًا، كما حَدَثَ فيما بعدُ؛ لأن الإسلامَ كان حينئذٍ ما يَزالُ في قُوَّتِه وعُنفُوانِه. ولم يكُن على عَهدِ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ وتابِعيهم من ذلك شيءٌ في بِلادِ الإسلامِ، لا في الحِجازِ، ولا اليَمنِ، ولا الشامِ، ولا العِراقِ، ولا مصر، ولا خُراسان، ولا المَغربِ، ولم يكُن قد أُحدِثَ مَشهدٌ، لا على قَبرِ نَبِيٍّ، ولا صاحِبٍ، ولا أَحَدٍ من أَهلِ البيتِ، ولا صالِحٍ أَصلًا، بل عامَّةُ هذه المَشاهِدِ مُحْدَثَةٌ بعدَ ذلك. وكان ظُهورُها وانتِشارُها حينَ ضَعُفَت خِلافةُ بني العبَّاسِ، وتَفَرَّقَت الأُمَّةُ، وكَثُرَ فيهم الزَّنادِقَةُ المُلَبِّسُونَ على المسلمين، وفَشَت فيهم كَلِمةُ أَهلِ البِدَعِ، وذلك في دَولةِ المُقتَدِر في أَواخرِ المائَةِ الثالثةِ، فإنه إذ ذاك ظَهَرَت القَرامِطَةُ العُبيدِيَّةُ القَدَّاحِيَّة بأَرضِ المَغربِ. ثم جاؤوا بعدَ ذلك إلى أَرضِ مصر. فإذا كان مع كلِّ هذا لم يَظهَر حتى مَشهدٌ للحُسينِ بعَسقلانَ، مع العِلمِ بأنه لو كان رَأسُه بعَسقلانَ لكان المُتقَدِّمون من هؤلاءِ أَعلمَ بذلك من المُتأخِّرين، فإذا كان مع تَوَفُّرِ الهِمَمِ والدَّواعِي والتَّمَكُّنِ والقُدرَةِ لم يَظهَر ذلك، عُلِمَ أنه باطِلٌ مَكذوبٌ، مِثلُ ما يَدَّعِي أنه شَريفٌ عَلَوِيٌّ. وقد عُلِمَ أنه لم يَدَّعِ هذا أَحَدٌ من أَجدادِه، مع حِرصِهِم على ذلك لو كان صَحيحًا، فإنه بهذا يُعلَم كَذِبُ هذا المُدَّعِي، الوجهُ الثاني: أن الذين جَمَعوا أَخبارَ الحُسينِ ومَقتَلِهِ مِثلُ أبي بكرِ بن أبي الدنيا، وأبي القاسمِ البَغَويِّ وغَيرِهما لم يَذكُر أَحَدٌ منهم أن الرَّأسَ حُمِلَ إلى عَسقلانَ ولا إلى القاهرةِ. وقد ذَكَرَ نحوَ ذلك أبو الخَطَّابِ بنُ دُحيةَ في كِتابِه المُلَقَّب بـ ((العلم المشهور في فضائل الأيام والشهور)) ذَكَرَ أن الذين صَنَّفُوا في مَقتَلِ الحُسينِ أَجمَعوا أن الرَّأسَ لم يَغتَرِب، وذَكَرَ هذا بعدَ أن ذَكَرَ أن المَشهَدَ الذي بالقاهرةِ كَذِبٌ مُختَلَق، وأنه لا أَصلَ له، وبَسَطَ القَولَ في ذلك، كما ذَكَرَ في يومِ عاشُوراءَ ما يَتَعلَّق بذلك. الوجهُ الثالث: أن الذي ذَكَرَهُ مَن يُعتَمَد عليه مِن العُلماءِ والمُؤرِّخين: أن الرَّأسَ حُمِلَ إلى المَدينةِ، ودُفِنَ عند أَخيهِ الحَسَنِ. ومن الَمعلوم: أن الزُّبيرَ بنَ بَكَّارٍ، صاحِبَ كتابِ ((الأنساب)) ومحمدَ بنَ سَعدٍ كاتِبَ الواقِديِّ صاحِبَ ((الطبقات))، ونَحوَهُما مِن المَعروفين بالعِلمِ والثِّقَةِ والاطِّلاعِ، أَعلمُ بهذا البابِ، وأَصدَقُ فيما يَنقُلونَه من الجاهِلين والكَذَّابين، ومِن بَعضِ أَهلِ التَّواريخِ الذين لا يُوثَق بِعِلْمِهِم ولا صِدْقِهِم، بل قد يكون الرَّجلُ صادِقًا، ولكن لا خِبرةَ له بالأَسانيدِ حتى يُمَيِّزَ بين المَقبولِ والمَردودِ، أو يكون سَيِّءَ الحِفْظِ أو مُتَّهَمًا بالكَذِبِ أو بالتَّزَيُّدِ في الرِّوايَةِ، كحالِ كَثيرٍ من الإخبارِيِّين والمُؤَرِّخين، لا سيما إذا كان مِثلَ أبي مِخنَفٍ لُوطِ بنِ يحيى وأَمثالِه. ومَعلومٌ أن الواقِديَّ نَفسَهُ خَيرٌ عند الناسِ من مِثلِ هِشامِ بنِ الكلبيِّ، وأَبيهِ محمدِ بنِ السائبِ وأَمثالِهِما، وقد عُلِمَ كَلامُ الناسِ في الواقديِّ، فإن ما يَذكُرهُ هو وأَمثالُه إنما يُعتَضَدُ به، ويُستَأنسُ به، وأما الاعتِمادُ عليه بمُجرَّدِهِ في العِلمِ فهذا لا يَصلُح. فإذا كان المُعتَمد عليهم يَذكُرون أن رأسَ الحُسينِ دُفِنَ بالمَدينةِ، وقد ذَكَرَ غَيرُهم أنه إما أن يكون قد عادَ إلى البَدَنِ، فدُفِنَ معه بكَربَلاء، وإما أنه دُفِنَ بحَلَب، أو بدِمشق أو نحوَ ذلك من الأَقوالِ التي لا أَصلَ لها، ولم يَذكُر أَحَدٌ ممَّن يُعتَمَد عليه أنه بعَسقلانَ – عُلِمَ أن ذلك باطِلٌ، إذ يُمتَنَع أن يكون أَهلُ العِلمِ والصِّدقِ على الباطلِ، وأَهلُ الجَهلِ والكَذِبِ على الحَقِّ في الأُمورِ النَّقلِيَّةِ، التي إنما تُؤخَذ عن أَهلِ العِلمِ والصِّدقِ، لا عن أَهلِ الجَهلِ والكَذِبِ. الوجهُ الرابع: أن الذي ثَبَتَ في صَحيحِ البُخاريِّ: أن الرَّأسَ حُمِلَ إلى قُدَّامِ عُبيدِ الله بن زِيادٍ، وجَعَلَ يَنكُت بالقَضيبِ على ثَناياهُ بحَضرَةِ أَنسِ بنِ مالكٍ، وفي المُسنَدِ: أن ذلك كان بحَضرَةِ يَزيدَ بنِ مُعاوِيةَ. وهذا باطِلٌ. فإن أبا بَرزَةَ، وأَنسَ بنَ مالكٍ كانا بالعِراقِ، لم يكُونَا بالشامِ، ويَزيدُ بن مُعاوِيةَ كان بالشامِ، لم يكُن بالعِراقِ حِينَ مَقتلِ الحُسينِ، فمَن نَقَلَ أنه نَكَتَ بالقَضيبِ ثَناياهُ بحَضرَةِ أَنسٍ وأبي بَرزَةَ قُدَّامَ يَزيدَ فهو كاذِبٌ قَطْعًا، كَذِبًا مَعلومًا بالنَّقلِ المُتواتِرِ. ومَعلومٌ بالنَّقلِ المُتَواتِرِ: أن عُبيدَ الله بنَ زيادٍ كان هو أَميرُ العِراقِ حين مَقتلِ الحُسينِ، وقد ثَبَتَ بالنَّقلِ الصَّحيحِ: أنه هو الذي أَرسلَ عُمرَ بنَ سعدِ بن أبي وَقَّاصٍ مُقَدَّمًا على الطائفَةِ التي قاتَلَت الحُسينَ، وكان عُمَرُ قد امتَنَع من ذلك، فأَرغَبَهُ ابنُ زيادٍ وأَرهَبَهُ حتى فَعَلَ ما فَعَلَ. والمَقصودُ هنا أن نَقْلَ رَأسِ الحُسينِ إلى الشامِ لا أَصلَ له زَمَنَ يَزيدَ. فكيف بِنَقْلِه بعدَ زَمَنِ يَزيدَ؟ وإنما الثابتُ هو نَقْلُه من كَربَلاء إلى أَميرِ العِراقِ عُبيدِ الله بن زيادٍ بالكُوفةِ. والذي ذَكَرَ العُلماءُ: أنه دُفِنَ بالمَدينَةِ. الوجهُ الخامس: أنه لو قُدِّرَ أنه حُمِلَ إلى يَزيدَ، فأيُّ غَرَضٍ كان لهم في دَفنِه بعَسقلانَ، وكانت إذ ذاكَ ثَغْرَةً يُقيمُ به المُرابِطون؟ فإن كان قَصْدُهُم تَعْفِيَةَ خَبَرِهِ فمِثلُ عَسقلانَ تُظهِرُهُ لكَثرَةِ مَن يَنتابُها للرِّباطِ. وإن كان قَصْدُهُم بَركَةَ البُقعَةِ فكيف يَقصِدُ هذا مَن يُقال: إنه عَدُوٌّ له، مُسْتَحِلٌّ لِدَمِهِ، ساعٍ في قَتْلِه؟! ثم مِن المَعلومِ: أن دَفْنَهُ قَريبًا عندَ أُمِّهِ وأَخيهِ بالبَقيعِ أَفضلُ له. الوجهُ السادس: أن دَفْنَهُ بالبَقيعِ هو الذي تَشهَدُ له عادَةُ القَومِ. فإنهم كانوا في الفِتَنِ، إذا قَتَلوا الرَّجُلَ -لم يكُن منهم- سَلَّمُوا رَأسَهُ وبَدَنَهُ إلى أَهلِه، الوجهُ السابع: أنه لم يُعرَف قَطُّ أن أَحَدًا، لا مِن أَهلِ السُّنَّةِ، ولا من الشِّيعَةِ، كان يَنتابُ ناحِيةَ عَسقلانَ لأَجلِ رَأسِ الحُسينِ، ولا يَزورونَهُ ولا يَأتونَهُ. كما أن الناسَ لم يكونوا يَنتابون الأَماكِنَ التي تُضافُ إلى الرَّأسِ في هذا الوَقتِ، كمَوضِعٍ بحَلَب. فإذا كانت تلك البِقاعُ لم يكُن الناسُ يَنتابونَها ولا يَقصِدونَها، وإنما كانوا يَنتابون كَربَلاء؛ لأن البَدَنَ هناك، كان هذا دَليلًا على أن الناسَ فيما مضى لم يكونوا يَعرِفون أن الرَّأسَ في شَيءٍ من هذه البِقاعِ، ولكن الذي عَرَفوهُ واعتَقَدوهُ هو وُجودُ البَدَنِ بكَربَلاء، حتى كانوا يَنتابونَهُ في زَمنِ أَحمدَ وغَيرِه، حتى إن في مَسائِلِه، مَسائلَ فيما يُفعَل عند قَبرِه، ذَكَرَها أبو بكرٍ الخَلَّالُ في جامِعِه الكَبيرِ في زِيارَةِ المَشاهِدِ. ولم يَذكُر أَحَدٌ من العُلماءِ أنهم كانوا يَرون مَوضِعَ الرَّأسِ في شيءٍ من هذه البِقاعِ غيرَ المَدينةِ. فعُلِمَ أن ذلك لو كان حَقًّا لكان المُتقَدِّمون به أَعلمَ. ولو اعتَقَدوا ذلك لعَمِلُوا ما جَرَت عادَتُهم بعَمَلِه، ولأَظهَروا ذلك وتَكَلَّموا به، كما تَكَلَّموا في نَظائِرِهِ. فلمَّا لم يَظهَر عن المُتقَدِّمين –بقَوْلٍ ولا فِعْلٍ- ما يَدُلُّ على أن الرَّأسَ في هذه البِقاعِ عُلِمَ أن ذلك باطِلٌ، والله أعلم. الوجهُ الثامن: أن يُقال: ما زال أَهلُ العِلمِ في كلِّ وَقتٍ وزَمانٍ يَذكرون في هذا المَشهَدِ القاهريِّ المَنسوبِ إلى الحُسينِ: أنه كَذِبٌ مُبِينٌ، كما يَذكرون ذلك في أَمثالِه من المَشاهِدِ المَكذوبَةِ؛ فقد ذَكَرَ أبو الخَطَّابِ بن دُحيةَ في كِتابِه ((العِلم المشهور)) في هذا المَشهَدِ فَصْلًا مع ما ذَكَرَهُ في مَقتلِ الحُسينِ مِن أَخبارٍ ثابتَةٍ وغيرِ ثابتَةٍ، ومع هذا فقد ذَكَرَ أن المَشهَدَ كَذِبٌ بالإجماعِ، وبَيَّنَ أنه نُقِلَ من عَسقلانَ في آخرِ الدُّوَلِ العُبيديَّةِ، وأنه وُضِعَ لأَغراضٍ فاسِدَةٍ، وأنه بعدَ ذلك بقَليلٍ أَزالَ الله تلك الدَّولةَ وعاقَبَها بنَقيضِ قَصْدِها. وما زال ذلك مَشهورًا بين أَهلِ العِلمِ حتى أَهلِ عَصْرِنا، مِن ساكِنِي الدِّيارِ المِصريَّةِ، القاهرَةِ وما حَولَها والله أعلم. ".
هو حاكِمُ مصر الظافِرُ أبو مَنصورٍ إسماعيلُ بن الحافظِ لدِينِ الله عبدِ المجيدِ بن محمدِ بن المُستَنصِر مَعَدِّ بن الظاهرِ عليِّ بن الحاكمِ الفاطميُّ العُبيديُّ، المصريُّ، الإسماعيليُّ. وَلِيَ الأَمرَ بعدَ أَبيهِ خَمسةَ أَعوامٍ. وكان شابًّا جَميلًا وَسيمًا لَعَّابًا عاكِفًا على الأَغاني والسَّراري، استَوْزَرَ الأَفضلَ سليمَ بن مصالٍ فَسَاسَ الإِقليمَ. وانقَطعَت في أَيامِه الدَّعوةُ له ولآبائِهِ العُبيدِيِّين من سائرِ الشامِ والمَغربِ والحَرمَينِ, وبَقِيَ لهم إِقليمُ مصر, وقد خَرجَ على وَزيرِه ابنِ مصالٍ. العادلُ بن السَّلَّارِ، وحارَبَه وظَفَرَ به، واستَأصَلَهُ، واستَبَدَّ بالأَمرِ, وكان ابنُ السَّلَّارِ مِن أَجَلِّ الأُمراءِ الأَكرادِ سُنِّيًّا حَسَنَ المُعتَقَدِ شافِعيًّا. وفي أَيامِ الظافرِ قَدِمَ من إفريقية عبَّاسُ بن يحيى بن تَميمِ بن المُعِزِّ بن باديس مع أُمِّهِ صَبِيًّا. فتَزَوَّجَ العادلُ بها قبلَ أن يَتوَلَّى الوِزارةَ، ثم تَزَوَّجَ عبَّاسٌ، ووُلِدَ له نَصرٌ، فأَحَبَّهُ العادلُ، فاتَّفَقَ عبَّاسٌ وأُسامةُ بن مُنقِذ على قَتلِ العادلِ، وأن يَأخُذ عبَّاسٌ مَنصِبَهُ. فذَبحَ نَصرٌ العادلَ على فِراشِه في المُحرَّم سَنةَ 548هـ، وتَمَلَّكَ عبَّاسٌ وتَمَكَّنَ. عاشَ الظافِرَ اثنتين وعِشرينَ سَنةً, وكانت مُدَّةُ حُكمِه أَربعَ سِنينَ وسَبعةَ أَشهُر وأَربعةَ عشرَ يومًا، وكان سَببُ قَتلِه أن نصرَ بن عبَّاسٍ كان مَلِيحًا، فمالَ إليه الظافرُ وأَحَبَّه، وجَعلَه من نُدَمائِه وأَحبابِه الذين لا يَقدِر على فِراقِهم ساعةً واحدةً، فاتَّهَمَهُ مُؤيِّدُ الدولةِ أُسامةُ بن مُنقِذ بأنه يُفْحِشُ به وذَكرَ ذلك لأَبيهِ عبَّاسٍ فانزَعجَ لذلك وعَظُمَ عليه، فذَكرَ الحالَ لوَلَدِه نَصرٍ، فاتَّفَقا على قَتلِه، فحَضَرَ نَصرٌ عند الظافرِ وقال له: أَشتَهِي أن تَجيءَ إلى داري لدَعوةٍ صَنعتُها، ولا تُكثِر من الجَمعِ؛ فمَشَى معه في نَفَرٍ يَسيرٍ مِن الخَدَمِ لَيلًا، فلمَّا دَخلَ الدارَ قَتَلَه وقَتَلَ مَن معه، وأَفلَتَ خادمٌ صَغيرٌ اختَبأَ فلم يَرَوهُ، ودَفَنَ القَتلَى في دارِه، ثم هَربَ الخادمُ الصغيرُ الذي شاهَدَ قَتْلَه، من دارِ عبَّاسٍ عند غَفْلَتِهم عنه، وأَخبرَ أَهلَ القَصرِ بقَتْلِ نَصرِ بن عبَّاسِ للظافرِ، ثم رَكِبَ عبَّاسٌ من الغَدِ وأَتَى القَصرَ, وقال: أين مولانا؟ فطَلَبوهُ فلم يَجدِوه, فخَرجَ جِبريلُ ويوسفُ أَخَوَا الظافرِ، فقال لهم عبَّاسٌ: أين مولانا؟ قالا: سَلْ ابنَك، فغَضِبَ. وقال: أنتُما قَتَلْتُماهُ، وضَرَبَ رِقابَهُما في الحالِ ليُبعِدَ التُّهمةَ عنه, ثم أَجلسَ الفائزُ بنَصرِ الله أبا القاسمِ عيسى بنَ الظافرِ إسماعيلَ ثاني يَومٍ قُتِلَ أَبوهُ، وله من العُمرِ خمسُ سِنين. حَمَلَهُ عبَّاسٌ على كَتفِه وأَجلَسهُ على سَريرِ المُلْكِ وبايَعَ له الناسُ، وأَخَذَ عبَّاسٌ من القَصرِ من الأَموالِ والجَواهِر والأَعلاقِ النَّفيسَةِ ما أَرادَ، ولم يَترُك فيه إلا ما لا خَيرَ فيه.
تَمَلَّك نُورُ الدِّين محمودُ بن زِنكي مَدينةَ دِمشق، وأَخذَها مِن صاحِبِها مُجيرِ الدِّين أبق بن محمد بن بوري بن طغتكين، وكان سَببُ جِدِّهِ في مِلْكِها أن الفِرنجَ لمَّا مَلَكوا في العام الماضي مَدينةَ عَسقلان لم يكُن لنورِ الدين طَريقٌ لإزعاجِهِم عنها لاعتِراضِ دِمشق بينه وبين عَسقلان، كما أن الفِرنجَ لمَّا مَلَكوا عَسقلان طَمِعوا في دِمشق، حتى أنهم استَعرَضوا كلَّ مَن بدِمشق مَملوكًا أو جارِيةً من النَّصارَى، فمَن أرادَ المُقامَ بها تَركوهُ، ومَن أرادَ العَوْدَ إلى وَطنِه أَخذوهُ قَهرًا شاء صاحِبُه أم أَبَى، وكان لهم على أَهلِها كلَّ سَنةٍ قَطيعةٌ يَأخُذونها منهم، فكان رُسُلُهم يدخلون البلدَ ويَأخُذونها منهم، فلمَّا رأى نورُ الدين ذلك خافَ أن يَملِكَها الفِرنجُ فلا يَبقَى له حينئذٍ بالشامِ مُقامٌ، فأَعْمَلَ الحِيلةَ في أَخْذِها حيث عَلِمَ أنها لا تَملِك قُوَّةً، لأن صاحِبَها متى رأى غَلَبَتَهُ عليه راسَلَ الفِرنجَ واستَعانَ بهم فأَعانوهُ لِئَلَّا يَملِكَها؛ فراسَلَ نورُ الدينِ محمودٌ مُجيرَ الدينِ صاحِبَ دِمشق واستَمالَهُ، وواصَلَهُ بالهَدايا، وأَظهرَ له المَودَّةَ حتى وَثِقَ به، فلمَّا لم يَبقَ عنده من الأُمراءِ أَحَدٌ قَدَّمَ أَميرًا يُقال له: عَطَا بن حَفَّاظ السُّلَمِيُّ الخادِمُ، وكان شَهْمًا شُجاعًا، وفَوَّضَ إليه أَمْرَ دَولتِه، فكان نورُ الدينِ لا يَتمكَّن معه مِن أَخْذِ دِمشق، فقَبَضَ مُجيرُ الدينِ على عَطَا الخادمِ فقَتَلهُ، فسار نورُ الدينِ حينئذٍ إلى دِمشقَ، وكان قد كاتَبَ مَن بها من الأَحداثِ واستَمالَهُم، فوَعَدوهُ بالتَّسليمِ إليه، فلمَّا حَصَرَ نورُ الدينِ البلدَ أَرسلَ مُجيرُ الدينِ إلى الفِرنجِ يَبذُل لهم الأَموالَ وتَسليمَ قَلعةِ بعلبك إليهم ليِنجِدوه وليُرَحِّلُوا نورَ الدينِ عنه، فشَرَعوا في جَمْعِ فارِسِهِم وراجِلِهم ليُرَحِّلُوا نورَ الدينِ عن البلدِ، فإلى أن اجتَمَعَ لهم ما يُريدون تَسلَّم نورُ الدينِ البلدَ، فعادوا بخُفَّيْ حُنَينٍ، وأما كَيفِيَّةُ تَسليمِ دِمشق فإنه لمَّا حَصرَها ثارَ الأَحداثُ الذين راسَلَهم، فسَلَّموا إليه البلدَ من البابِ الشرقيِّ ومَلَكَهُ، وحَصَرَ مُجيرَ الدينِ في القَلعةِ، وراسَلَهُ في تَسليمِها وبَذَلَ له أَقطاعًا من جُملَتِه مَدينةُ حِمْصَ، فسَلَّمَها إليه وسار إلى حِمصَ، ثم إنه راسَلَ أَهلَ دِمشق ليُسلِّموا إليه، فعَلِمَ نورُ الدينِ ذلك فَخافَهُ، فأَخَذَ منه حِمصَ، وأَعطاهُ عِوَضًا عنها بالس، فلم يَرْضَهَا، وسار منها إلى العِراقِ، وأَقامَ ببغداد وابتَنَى بها دارًا بالقُربِ من النِّظامِيَّة، وتُوفِّي بها.
اجتَمعَ جَمْعٌ كَثيرٌ من الإسماعيليةِ من قهستان، بلغت عُدَّتُهم سَبعةَ آلافِ رَجلٍ ما بين فارسٍ وراجلٍ، وساروا يُريدون خُراسانَ لاشتِغالِ عَساكرِها بالأَتراكِ الغُزِّ، وقَصَدوا أَعمالَ خواف وما يُجاوِرُها، فلَقِيَهم الأَميرُ فرخشاه بن محمود الكاسانيُّ في جَماعةٍ من حَشَمِه وأَصحابِه، فعَلِمَ أنه لا طاقةَ له بهم، فتَرَكهُم وسار عنهم، وأَرسلَ إلى الأَميرِ محمدِ بن أنر، وهو مِن أَكابرِ أُمراءِ خُراسان وأَشْجَعِهِم، يُعرِّفُه الحالَ، وطلب منه المَسيرَ إليهم بعَسكَرِه ومَن قَدَرَ عليه من الأُمراءِ ليَجتَمِعوا عليه ويُقاتِلوهُم، فسار محمدُ بن أنر في جَماعةٍ من الأُمراءِ وكَثيرٍ من العَسكرِ، واجتَمَعوا هم وفرخشاه، وواقَعُوا الإسماعليةَ وقاتَلوهُم، وطالَت الحَربُ بينهم، ثم نَصَرَ الله المسلمين وانهَزَم الإسماعيليةُ، وكَثُرَ القَتلُ فيهم، وأَخَذَهُم بالسَّيفِ مِن كلِّ مَكانٍ، وهَلَكَ أَعيانُهم وسادَتُهم. بَعضُهم قُتِلَ، وبَعضُهم أُسِرَ، ولم يَسلَم منهم إلا القَليلُ الشَّريدُ، وخَلَت قِلاعُهم وحُصونُهم مِن حَامٍ ومانِعٍ، فلَولا اشتِغالُ العَساكرِ بالغُزِّ الأَتراكِ (التُّركمان) لكانوا مَلَكوها بلا تَعَبٍ ولا مَشَقَّةٍ، وأَراحُوا المسلمين منهم، ولكن لله أَمْرٌ هو بالِغُه.
كان نَجمُ الدينِ أيوبُ نائِبَ بعلبك، وعلى قَلعَتِها رَجلٌ يُقالُ له الضَّحَّاكُ البِقاعيُّ، فكاتَبَ نَجمُ الدينِ نورَ الدينِ محمودًا، ولم يَزَل نورُ الدينِ يَتلَطَّف البِقاعيَّ حتى أَخَذَ منه القَلعةَ ثم استَدعَى نَجمَ الدينِ أيوبَ إليه بدمشق فأَقطَعَهُ إِقطاعًا حَسَنًا، وأَكرَمهُ. مِن أَجلِ أَخيهِ أَسَدِ الدينِ، فإنه كانت له اليَدُ الطُّولَى في فَتحِ دِمشقَ، وجَعلَ الأَميرَ شَمسَ الدولةِ بوران شاه بن نِجمِ الدينِ شِحْنَةَ دِمشقَ، ثم مِن بَعدِه جَعلَ أَخاهُ صَلاحَ الدينِ يُوسفَ هو الشِّحْنَةَ، وجَعلَهُ مِن خَواصِّهِ لا يُفارِقه حَضَرًا ولا سَفَرًا، لأنه كان حَسَنَ الشَّكلِ حَسَنَ اللَّعِبِ بالكُرَةِ، وكان نورُ الدينِ يُحِبُّ لَعِبَ الكُرَةِ لِتَمرينِ الخَيلِ وتَعلِيمِها الكَرَّ والفَرَّ.
استَولَى شملةُ التُّركمانيُّ على خوزستان، وكان قد جَمَعَ جَمْعًا كَثيرًا من التُّركمانِ وسار يريد خوزستان، وصاحِبُه حينئذٍ ملكشاه بنُ محمودٍ السَّلجوقيُّ، فسَيَّرَ الخَليفةُ إليه عَسكرًا، فلَقِيَهم شملةُ في رجب، وقاتَلَهم، فانهَزَم عَسكرُ الخَليفةِ، وأَسَرَ وُجُوهَهُم، ثم أَحسَنَ إليهم وأَطلَقَهم، وأَرسلَ يَعتَذِر، فقَبِلَ عُذرَهُ، وسار إلى خوزستان فمَلَكَها وأَزاحَ عنها ملكشاه بنَ مَحمودٍ، ثم سار الغُزُّ الأَتراكُ التُّركمانُ إلى نيسابور، فمَلَكوها بالسَّيفِ، فدَخَلوها وقَتَلوا محمدَ بنَ يحيى الفَقيهَ الشافعيَّ ونَحوًا من ثلاثين ألفًا، وكان السُّلطانُ سنجر له اسمُ السَّلطَنَةِ، وهو مُعتَقلٌ لا يُلتَفَتُ إليه، حتى إنه أراد كَثيرًا من الأيام أن يَركَب، فلم يكُن له مَن يَحمِل سِلاحَه، فشَدَّهُ على وَسَطِه ورَكِبَ، وكان إذا قُدِّمَ له طَعامٌ يَدَّخِر منه ما يَأكلُه وَقتًا آخرَ، خَوفًا من انقِطاعِه عنه، لِتَقصيرِهِم في واجِبِه.
مات في سَنةِ 548هـ رجار مَلِكُ صِقِلِّية ومَلَكَ وَلدُه غليالم، وكان فاسِدَ التَّدبيرِ، فخَرجَ من حُكمِه عِدَّةٌ من حُصونِ صِقِلِّية، فلمَّا كان هذه السَّنَةُ قَوِيَ طَمعُ الناسِ فيه، فخَرجَ عن طاعَتِه جَزيرةُ جربة وجَزيرةُ قرقنة، وأَظهَروا الخِلافَ عليه، وخالَفَ عليه أَهلُ إفريقية، فأَوَّلُ مَن أَظهرَ الخِلافَ عليه، من أَهلِ إفريقية، عُمَرُ بنُ أبي الحُسينِ الفِرياني بمَدينةِ صَفاقس، وكان رجار قد استَعمَلَ عليها، لمَّا فَتَحَها، أَباهُ أبا الحُسينِ، وكان من العُلماءِ الصَّالِحين، فأَظهَرَ العَجْزَ والضَّعْفَ، فقال أبو الحُسينِ: استَعْمِل وَلَدِي عُمَرَ فاستَعمَلَه، وأَخَذَهُ رَهينَةً معه إلى صِقِلِّية، فلمَّا وَجَدَ عُمَرُ هذه الفُرصةَ دَعَا أَهلَ المَدينةِ إلى الخِلافِ وقال: يَطلُع جَماعةٌ منكم إلى السُّورِ، وجَماعةٌ يَقصِدون مَساكِنَ الفِرنجِ والنَّصارَى جَميعِهم، ويَقتُلُونهم كُلَّهُم، فلم تَطلُع الشمسُ حتى قَتَلوا الفِرنجَ عن آخرِهِم، وكان ذلك أَوَّلَ سَنةِ 551هـ، ثم أَتبَعَهُ أبو محمدِ بن مطروح بطَرابلُس وبعدَهُما محمد بن رشيد بقابس، وسار عَسكرُ عبدِ المؤمنِ إلى بونة فمَلَكَها وخَرجَت جَميعُ إفريقية عن حُكمِ الفِرنجِ ما عدا المَهدِيَّة وسوسة، وأَرسلَ عُمَرُ بن أبي الحُسينِ إلى زويلة، وهي مَدينةٌ قَريبةٌ إلى المَهديَّة، يُحَرِّضُهم على الوُثوبِ على مَن معهم فيها من النَّصارَى، ففَعَلوا ذلك، وقَدِمَ عَربُ البلادِ إلى زويلة، فأَعانوا أَهلَها على مَن بالمَهدِيَّة من الفِرنجِ، وقَطَعوا الميرةَ عن المَهدِيَّة. فلمَّا اتَّصَلَ الخَبرُ بغليالم مَلِكِ صِقِلِّية أَحضَرَ أبا الحُسينِ وعَرَّفَه ما فعل ابنُه، فأَمَرَ أن يَكتُب إليه يَنهاهُ عن ذلك، ويَأمُرهُ بالعَوْدِ إلى طاعَتِه، ويُخَوِّفُه عاقِبةَ فِعْلِه، فقال: مَن قَدِمَ على هذا لم يَرجِع بِكتابٍ؛ فأَرسلَ مَلِكُ صِقِلِّية إليه رَسولًا يَتَهَدَّدهُ، ويَأمُرهُ بِتَرْكِ ما ارتَكَبَهُ، فلم يُمَكِّنهُ عُمَرُ مِن دُخولِ البلدِ يَومَه ذلك، فلمَّا كان الغَدُ خَرجَ أَهلُ البلدِ جَميعُهم ومعهم جَنازةٌ، والرَّسولُ يُشاهِدهُم، فدَفَنوها وعادوا، وأَرسلَ عُمَرُ إلى الرَّسولِ يقول له: هذا أبي قد دَفنتُه، وقد جَلستُ للعَزاءِ به، فاصنَعوا به ما أَردتُم، فعاد الرَّسولُ إلى غليالم فأَخبرَهُ بما صَنعَ عُمَرُ بن أبي الحُسينِ، فأَخذَ أَباهُ وصَلَبَهُ، فلم يَزَل يَذكُر الله تعالى حتى مات، وأمَّا أَهلُ زويلة فإنهم كَثُرَ جَمعُهم بالعَربِ وأَهلِ صفاقس وغَيرِهم، فحَصَروا المَهدِيَّة وضَيَّقوا عليها، وكانت الأَقواتُ بالمَهدِيَّة قَليلةً.
لمَّا حَصرَ أهالي أفريقية المَهدِيَّة سَيَّرَ إليها صاحِبُ صِقِلِّية عِشرينَ شِينِيًّا –سُفن كبيرة- فيها الرِّجالُ والطَّعامُ والسِّلاحُ، فدَخَلوا البلدَ، وأَرسَلوا إلى العَربِ وبَذَلوا لهم مالًا لِيَنهَزِموا، وخَرَجوا من الغَدِ، فاقتَتَلوا هُم وأَهلُ زَوِيلةَ، فانهَزَمَت العَربُ، وبَقِيَ أَهلُ زَوِيلةَ وأَهلُ صفاقس يُقاتِلون الفِرنجَ بِظَاهِرِ البلدِ، وأَحاطَ بهم الفِرنجُ، فانهَزَم أَهلُ صفاقس ورَكِبوا في البَحرِ فنَجوا، وبَقِيَ أَهلُ زَوِيلةَ، فحَمَلَ عليهم الفِرنجُ فانهَزَموا إلى زَويلةَ، فوَجَدوا أَبوابَها مُغلَّقَة فقاتَلوا تحتَ السُّورِ، وصَبَروا حتى قُتِلَ أَكثرُهم ولم يَنجُ إلا القليلُ فتَفَرَّقوا، ومَضَى بَعضُهم إلى عبدِ المؤمنِ، فلمَّا قُتِلُوا هَرَبَ مَن بها مِن الحُرَمِ والصِّبيانِ والشُّيوخِ في البَرِّ، ولم يُعرِّجوا على شيءٍ مِن أَموالِهم، ودَخلَ الفِرنجُ زَوِيلةَ وقَتَلوا مَن وَجَدوا فيها من النِّساءِ والأَطفالِ، ونَهَبوا الأَموالَ، واستَقَرَّ الفِرنجُ بالمَهدِيَّة إلى أن أَخَذَها عبدُ المؤمن منهم.
أَرسلَ السُّلطانُ محمدُ بنُ مَحمودِ بنِ ملكشاه إلى الخَليفةِ المُقتَفِي يَطلُب منه أن يُخطَب له في بغداد، فلم يُجِبهُ إلى ذلك، فسار من همذان إلى بغداد لِيُحاصِرَها، فانجَفَلَ الناسُ وحَصَّنَ الخَليفةُ البلدَ، وجاء السُّلطانُ محمدُ فحَصَرَ بغدادَ، ووَقَفَ تِجاهَ التَّاجِ مِن دارِ الخِلافَةِ في جَحْفَلٍ عَظيمٍ، ورَموا نَحوَهُ النُّشَّابَ، وقاتَلَت العامَّةُ مع الخَليفةِ قِتالًا شَديدًا بالنِّفْطِ وغَيرِه، واستَمَرَّ القِتالُ مُدَّةً، فبينما هُم كذلك إذ جاءَهُ الخَبرُ أن أَخاهُ قد خَلَفَهُ في همذان، فانشَمَرَ عن بغداد إليها، في رَبيعٍ الأوَّل من سَنةِ اثنتين وخمسين، وتَفَرَّقَت عنه العَساكِرُ الذين كانوا معه في البلادِ، وأَصابَ الناسَ بعدَ ذلك القِتالِ مَرَضٌ شَديدٌ، ومَوْتٌ ذَريعٌ، واحتَرَقَت مَحالٌّ كَثيرةٌ من بغداد، واستَمَرَّ ذلك فيها مُدَّةَ شَهرَينِ.
جَمَعَ نورُ الدينِ بنُ محمودٍ صاحِبُ الشامِ، العَساكِرَ بحَلَب، وسار إلى قَلعةِ حارِم، وهي للفِرنجِ غَربيَّ حَلَب، فحَصَرَها وَجَدَّ في قِتالِها، فامتَنَعَت عليه بحَصَانَتِها، وكَثرَةِ مَن بها من فِرسانِ الفِرنجِ ورَجَّالَتِهم، فلمَّا عَلِمَ الفِرنجُ ذلك جَمَعوا فارِسَهم وراجِلَهم من سائرِ البلادِ، وحَشَدوا، واستَعَدُّوا، وساروا نَحوَها لِيُرَحِّلُوه عنها، فلمَّا قارَبوهُ طَلَبَ منهم المُصَافَّ، فلم يُجِيبوهُ إليه، وراسَلوهُ، وتَلَطَّفوا الحالَ معه، فلمَّا رأى أنه لا يُمكِنهُ أَخْذُ الحِصنِ، ولا يُجيبُونَه إلى المُصَافِّ، وكان بالحِصنِ شَيطانٌ مِن شَياطِينِهم يَعرِفون عَقْلَهُ ويَرجِعون إلى رَأيهِ، فأَرسلَ إليهم يقول: إننا نَقدِر على حِفْظِ القَلعَةِ، وليس بنا ضَعْفٌ، فلا تُخاطِروا أنتم باللِّقاءِ، فإنه إن هَزَمَكُم أَخَذَها وغَيرَها، والرَّأيُ مُطاوَلَتُه؛ فأَرسَلوا إليه وصالَحوهُ على أن يُعطوهُ نِصفَ أَعمالِ حارِم، فاصطَلَحوا على ذلك، ورَحَلَ عنهم.
حِصنُ شيزر قَريبٌ مِن حماة، بينهما نِصفُ نَهارٍ، وهو على جَبلٍ عالٍ مَنيعٍ لا يُسلَك إليه إلا مِن طَريقٍ واحدةٍ. وكان لآلِ مُنقِذ الكِنانِيِّين يَتَوارثونَهُ من أَيامِ صالِحِ بنِ مرداس، ثم تُوفِّي سُلطانُها وبَقِيَ بعدَه أَولادُه، فبَلَغَ نورَ الدينِ عنهم مُراسلةُ الفِرنجِ، فاشتَدَّ حِنقُه عليهم، وانتَظرَ فُرصةً تُمَكِّنُهُ، فلمَّا خَرِبَت القَلعةُ من الزَّلزلَةِ لم يَنجُ من بني مُنقِذٍ الذين بها أَحَدٌ، وخَرِبَت القَلعةُ وسَقطَ سُورُها وكلُّ بِناءٍ فيها، ولم يَنجُ منها إلا الشَّريدُ، فبادَرَ إليها بَعضُ أُمرائِه، وكان بالقُربِ منها فمَلَكَها وتَسلَّمَها نورُ الدينِ منه، فمَلَكَها وعَمَّرَ أَسوارَها ودُورَها، وأَعادَها جَديدةً.
انقَرَضَت دَولةُ المُلَثَّمِين(المُرابِطِين) بالأندلس، وسَببُ ذلك أن عبدَ المؤمن لمَّا استَعمَل ابنَه أبا سَعيدٍ عَلِيًّا على الجَزيرَةِ الخَضراءِ ومالقة، عَبَرَ أبو سعيدٍ البحرَ إلى مالقة، واتَّخَذَها دارًا، وكاتَبَهُ أَميرُ المُرابِطين بالأندلس ميمونُ بنُ بَدرٍ اللَّمتُوني، صاحِبُ غرناطة، أن يُوَحِّد ويُسَلِّم إليه غرناطة، فقَبِلَ أبو سعيدٍ ذلك منه وتَسَلَّم غرناطة، فسار ميمون إلى مالقة بأَهلِه ووَلَدِه، فتَلَقَّاهُ أبو سعيدٍ، وأَكرَمَهُ، ووَجَّهَهُ إلى مراكش، فأَقبلَ عليه عبدُ المؤمن وانقَرَضَت دَولةُ المُلَثَّمِين ولم يَبقَ لهم إلا جَزيرةُ ميورقة مع حمو بن غانية.