كان شهابُ الدين إلياس بن إيلغازي بن أرتك، صاحب قلعة البيرة، قد سار في عسكره، وهو في مائتي فارس، إلى نور الدين وهو بعشترا، فلما وصل إلى قرية اللبوة، وهي من عمل بعلبك، رَكِبَ متصَيِّدًا، فصادف ثلاثمائة فارس من الفرنج قد ساروا للإغارة على بلاد الإسلام سابع عشر شوال، فوقع بعضُهم على بعض، واقتتلوا واشتَدَّ القتال، وصبَرَ الفريقان لا سيما المسلمون، فإنَّ ألف فارس لا يصبرون لحملة ثلاثمائة فارس إفرنجية، وكَثُرَ القتلى بين الطائفتين، فانهزم الفرنجُ، وعَمَّهم القتلُ والأسر، فلم يُفلِتْ منهم إلَّا من لا يُعتَدُّ به، وسار شهاب الدين برؤوس القتلى والأسرى إلى نور الدين، فركب نور الدين والعسكر، فلقوهم، فرأى نور الدين في الرؤوس رأسَ مُقَدَّم الإسبتار، صاحب حصن الأكراد، وكان من الشجاعة بمحلٍّ كبير، وكان شَجًا في حلوقِ المسلمين.
كان محمد بن سعيد بن مردنيش، ملك شرق الأندلس، قد اتفق هو والفرنج، وامتنع على عبد المؤمن وابنه يوسف من بعده، فاستفحل أمرُ ابن مردنيش، لا سيَّما بعد وفاة عبد المؤمن، فلمَّا كان هذه السَّنةَ جَهَّزَ إليه يوسفُ بن عبد المؤمن العساكِرَ الكثيرةَ مع أخيه عُمَرَ بنِ عبد المؤمن، فجاسوا بلادَه وخَرَّبوها، وأخذوا مدينتينِ مِن بلاده، وأخافوا عساكِرَ جنودِه، وأقاموا ببلادِه مُدَّةً يتنقَّلون فيها ويَجبُون الأموال، ثمَّ إن ابن مردنيش توفي فدخل أولادُه في طاعة ابن عبد المؤمن.
تحرَّكَ الفرنج لغزو ديار مصرَ؛ خوفًا من صلاح الدين ونور الدين محمود زنكي عندما بلغهم تمكُّنُه من ديار مصر وقطعُ آثار جند المصريين. فكاتبوا فرنجَ صقلية وغيرهم واستنجدوا بهم، فأمدوهم بالمالِ والسلاح والرجال، وساروا بالدبابات والمنجنيقات إلى دمياط، فنزلوا عليها في مستهَلِّ صفر بألف ومائة مركب، ما بين شين ومسطح وشلندي وطريدة، وأحاطوا بها برًّا وبحرًا، فأسرع صلاح الدين إلى دمياط وتحصَّنَ فيها، كما قام نور الدين محمود بالإسراع بغزو البلدانِ التي يسيطرون عليها، فحاصر الكرك، وأرسل كذلك نجدةً إلى صلاح الدين وكانت القوةُ تتحرك إثر القوة، وكان على رأسِ أحدِها والد صلاح الدين نجمُ الدين أيوب، واستمرَّ حصار الصليبيين لمدينة دمياط خمسين يومًا اضطروا بعدها لرفع الحصارِ عنها نتيجةَ الإمدادات التي كانت تصِلُ إلى دمياط من نور الدين محمود وشِدَّة مقاومة صلاح الدين، بالإضافة إلى دعم العاضد حاكم مصر الفاطمي، واستيلاء نور الدين على أجزاء من مملكة الصليبيين في بيت المقدس، ولِفَناءٍ وقع فيهم؛ وغرق من مراكبهم نحو الثلاثمائة مركب، فأحرَقوا ما ثَقُل عليهم حمله من المنجنيقات وغيرها، فغادروا دمياط, وتفرَّغَ صلاح الدين لتوطيد أقدامِه بمصر.
أرسل صلاح الدين إلى نور الدين يطلُبُ أن يرسِلَ إليه والِدَه نجم الدين أيوب، فجَهَّزه نور الدين وسَيَّرَه، وسيَّرَ معه عسكرًا، واجتمع معه من التجار خلق كثير، وانضاف إليهم من كان له مع صلاح الدين أُنس وصحبة، فخاف نور الدين عليهم من الفرنجِ، فسار في عساكره إلى الكرك، فحصَرَه وضيَّقَ عليه ونصب عليه المجانيق، فأتاه الخبَرُ أن الفرنج قد جمعوا له، وساروا إليه، وقد جعلوا في مقدمتهم إليه ابن هنفري وقريب بن الرقيق، وهما فارسا الفرنج في وقتهما، فرحل نور الدين نحو هذين المقَدَّمين ليلقاهما ومن معهما قبل أن يلتَحِقَ بهما باقي الفرنج، فلما قاربَهما رجعا واجتمعا بباقي الفرنج, وسلك نور الدين وسطَ بلادهم يسلُبُ ويَحرِق ما على طريقه من القرى إلى أن وصل إلى بلاد الإسلام، فنزل على عشترا، وأقام ينتظِرُ حركة الفرنج ليلقاهم، فلم يَبرَحوا من مكانهم، فأقام هو حتى أتاه خبر الزلزلة الحادثة فرحل, وأما نجمُ الدين أيوب فإنَّه وصل إلى مصر سالِمًا هو ومن معه وخرج العاضِدُ الحاكم الفاطمي فالتقاه؛ إكرامًا له.
هو قطبُ الدين مودود بن زنكي بن آقسنقر، المعروفُ بالأعرج صاحِبُ الموصل، وقد كان من أحسن الملوك سيرةً، وأعفِّهم عن أموال رعيَّته، مُحسِنًا إليهم، كثيرَ الإنعام عليهم، محبوبًا إلى كبيرهم وصغيرهم، عطوفًا على شريفهم ووضيعهم، كريمَ الأخلاق، حسَنَ الصحبة معهم, سريعَ الانفعال للخير، بطيئًا عن الشَّرِّ، جمَّ المناقب، قليلَ المعايب. تولى قطب الدين السلطنةَ بالموصل بعد موت أخيه سيف الدين غازي بن زنكي, وكان قطبُ الدين حسنَ السيرة، عادلًا في حكمه. وفي دولته عَظُمَ شأن جمال الدين محمد الوزير الأصبهاني المعروف بالجواد، وكان مدبِّرَ دولته, وصاحب رأيه الأمير زين الدين علي كجك، وكان نِعمَ المدبر والمشير لصلاحِه وخيرِه وحُسنِ مقاصده, ولم يزَلْ قطب الدين على سلطنته ونفاذ كلمتِه بالموصل وما حولها إلى أن توفي في شوال، وقيل في الثاني والعشرين من ذي الحجة. كان مرضُه حمى حادة، ولما اشتد مرضه أوصى بالملك بعده لابنه عماد الدين زنكي، ثم عدل عنه إلى ابنه الأكبر سيف الدين غازي, وكان له ثلاثةُ أولاد: سيف الدين غازي الذي تولى السلطنة بعده، وعز الدين مسعود تولى السلطنة بعد أخيه سيف الدين، وعماد الدين زنكي صاحب سنجار.
لَمَّا بلغ نور الدين محمودًا وفاةُ أخيه قطب الدين مودود، صاحِبِ الموصل، ومُلك ولده سيف الدين غازي الموصِلَ والبلاد التي كانت لأبيه، بعد وفاته، وقيام فخر الدين عبد المسيح بالأمرِ معه، وتحكُّمه عليه؛ أنِفَ لذلك وكَبِرَ لديه وعَظُمَ عليه، وكان يُبغِضُ فخر الدين؛ لما يبلغه عنه من خشونةِ سياسته، فقال: أنا أولى بتدبير أولاد أخي ومُلكِهم، وسار عند انقضاء العزاء جريدة في قلة من العسكر، وعبر الفرات، عند قلعة جعبر، مُستهَلَّ المحَرَّم، وقصد الرقةَ فحصَرَها وأخذها، ثم سار إلى الخابور فمَلَكَه جميعه، وملك نصيبين وأقام فيها يجمَعُ العساكر، فأتاه بها نور الدين محمد بن قرا أرسلان بن داود، صاحِبُ حصن كيفا، وكثُرَ جمعه، وكان قد ترك أكثر عساكره في الشام لحفظ ثغوره، فلما اجتمعت العساكر سار إلى سنجار فحصرها، ونصب عليها المجانيقَ وملَكَها، وسَلَّمَها إلى عماد الدين ابن أخيه قطب الدين، وكان قد جاءته كتُبُ الأمراء الذين بالموصل سرًّا، يبذلون له الطاعةَ، ويَحُثونه على الوصول إليهم، فسار إلى الموصل، وكان سيفُ الدين غازي وفخر الدين قد سيَّرا عز الدين مسعود بن قطب الدين إلى أتابك شمس الدين إيلدكز، صاحب همذان وبلد الجبل، وأذربيجان، وأصفهان، والري وتلك البلاد، يستنجده على عمه نور الدين محمود، فأرسل إيلدكز رسولًا إلى نور الدين ينهاه عن التعرُّضِ للموصل، ويقول له: إن هذه البلاد للسُّلطان، فلا تقصِدْها، فلم يلتفت إليه، فأقام نور الدين على الموصِل، فعزم مَن بها من الأمراء على مجاهرةِ فخر الدين عبد المسيح بالعِصيان، وتسليم البلد إلى نور الدين، فعلم ذلك، فأرسل فخر الدين إلى نور الدين بتسليمِ البلَدِ إليه على أن يُقِرَّه بيد سيف الدين، ويطلُب لنفسه الأمان ولماله، فأجابه إلى ذلك، وشرطَ أنَّ فخر الدين يأخذُه معه إلى الشام، ويعطيه عنده إقطاعًا يُرضيه، فتسَلَّم البلد ثالث عشر جمادى الأولى، ودخل القلعةَ من باب السر؛ لأنه لما بلغه عصيان عبد المسيح عليه، حلف ألَّا يدخلها إلا من أحصن موضع فيها، ولَمَّا ملكها أطلقَ ما بها من المكوس وغيرها من أبواب المظالمِ، وكذلك فعل بنصيبين وسنجار والخابور، وهكذا كان جميعُ بلاده من الشام ومصر، واستناب في قلعة الموصل خصيًّا له اسمه كمشتكين، ولقَّبَه سعد الدين، وأمر سيف الدين ألَّا ينفرد عنه بقليل من الأمور ولا بكثير، وحَكَّمَه في البلاد وأقطع مدينة سنجار لعماد الدين بن أخيه قطب الدين، وكان مقام نور الدين بالموصل أربعة وعشرين يومًا، واستصحب معه فخر الدين عبد المسيح، وغيَّرَ اسمه فسماه عبد الله، وأقطعه إقطاعًا كبيرًا.
هو الخليفةُ، المستنجد بالله، أبو المظفر يوسف بن المقتفي لأمر الله محمد بن المستظهر بن المقتدي العباسي. أمُّه كرجية اسمُها طاووس. عقد له أبوه بولاية العهد في سنة سبع وأربعين، وعمره يومئذ تسع وعشرون سنة. فلما احتُضِر المقتفي، رام طائفة عزل المستنجد، وبعثت حَظِيَّة المقتفي أم علي إلى الأمراء تعدهم وتمنيهم؛ ليبايعوا ابنَها علي بن المقتفي. قالوا: كيف هذا مع وجود ولي العهدِ يوسف؟ فقالت أنا أكفيكموه، فدبرت مؤامرة للتخلص من يوسف الذي اكتشف الأمر فاعتقلها وابنها علي، وثَبَت الأمرُ له، وتلقب بالمستنجد بالله. كان يقولُ الشعر، ونقش على خاتمه: من أحَبَّ نفسه عَمِلَ لها. كانت خلافته إحدى عشرة سنة وشهرًا وستة أيام، وصُلِّي عليه يوم الأحد قبل الظهر، ودُفن بدار الخلافة، ثمَّ نُقِل إلى التربة من الرصافة، وكان سببُ موته أنه مرض واشتد مرضه، وكان قد خافه أستاذ الدار عضد الدين أبو الفرج بن رئيس الرؤساء، وقطب الدين قايماز المقتفوي، وهو حينئذ أكبَرُ أمير ببغداد، فلما اشتد مرض الخليفة اتفقا، ووضعا الطبيبَ على أن يصِفَ له ما يؤذيه، فوصف له دخولَ الحمام، فامتنع لضَعفِه، ثم إنه دخل وأغلق الباب عليه فمات، وقيل إنَّ الخليفة كتب إلى وزيره مع طبيبه ابن صفية يأمُرُه بالقبض على أستاذ الدار وقطب الدين وصَلْبِهما، فاجتمع ابن صفية بأستاذ الدار، وأعطاه خط الخليفة، فقال له: تعود وتقول إنني أوصلت الخطَّ إلى الوزير، ففعل ذلك، وأحضر أستاذ الدار قطب الدين ويزدن وأخاه تنامش، وعرض الخط عليهم، فاتفقوا على قتل الخليفة، فدخل إليه يزدن وقايماز الحميدي، فحملاه إلى الحمام وهو يستغيث وألقياه، وأغلقا الباب عليه وهو يصيح إلى أن مات، ثم بعد وفاة المستنجد، أحضرَ هو وقطب الدين ابنه أبا محمد الحسن، وبايعاه بالخلافة، ولقباه المستضيء بأمر الله، وشرطا عليه شروطًا: أن يكون عضدُ الدين وزيرًا، وابنُه كمال الدين أستاذ الدار، وقطب الدين أمير العسكر، فأجابهم إلى ذلك، ولم يتول الخلافة من اسمُه الحسنُ إلَّا الحسن بن علي بن أبي طالب، والمستضيء بأمر الله، فبايعه أهلُ بيته البيعةَ الخاصة يوم توفي أبوه، وبايعه الناسُ في الغد في التاج بيعةً عامة، ويُذكَرُ أن الخليفة المستنجد بالله كان من أحسن الخلفاء سيرةً مع الرعية، عادلًا فيهم، كثير الرفق بهم، وأطلق كثيرًا من المكوس، ولم يترك بالعراق منها شيئًا، وكان شديدًا على أهل العيثِ والفسادِ والسعاية بالناس.
سار صلاحُ الدين عن مصر إلى بلاد الفرنج، فأغار على أعمال عسقلان والرملة، وهجمَ على ربض غزة فنهَبه، وأتاه ملك الفرنج في قِلَّةٍ مِن العسكر مسرعين لرَدِّه عن البلاد، فقاتلهم وهزمهم، وأفلت ملكُ الفرنج بعد أن أشرف أن يؤخَذَ أسيرًا. عاد صلاحُ الدين إلى مصر، وعَمِلَ مراكب مفصلة، وحملها قطعًا على الجبال في البر، وقصَدَ إيلة، فجمع قطع المراكب وألقاها في البحر، وحصر إيلة برًّا وبحرًا، وفتحها في العشر الأُوَل من ربيع الآخر، واستباح أهلَها وما فيها، وعاد إلى مصر.
كان بمصر دار للشحنة تُسمَّى دار المعونة يُحبَسُ فيها من يريد حبسه، فهدمها صلاح الدين، وبناها مدرسة للشافعية، وأزال ما كان بها من الظُّلم، وبنى دار العدل مدرسة للشافعية أيضًا، وبنى مدرسة أخرى للمالكية، وعزل القضاة المصريين، وكانوا شيعةً، وأقام قاضيًا شافعيًا في مصر، وولَّى قضاء القضاة بها لصدر الدين عبد الملك بن درباس المارداني الشافعي، فاستناب في سائر المعاملات قُضاة شافعية، ومن حينئذ اشتهر مذهبُ الشافعي ومذهب مالك بديار مصر، وتظاهر الناس بهما، واختفى مذهب الشيعة من الإمامية الإسماعيلية. وبطل من حينئذ مجلسُ الدعوة بالجامع الأزهر وغيره، واشترى تقيُّ الدين عمر بن أخي صلاح الدين منازِلَ العز بمصر، وبناها مدرسة للشافعية، كما أبطل صلاحُ الدين الأذان بحيَّ على خير العمل، محمد وعلي خير البشر، فكانت أوَّل وصمة دخلت على الدولة الفاطميَّة، ثم أمر أن يُذكَرَ في الخطبة يوم الجمعة الخلفاء الراشدون أبو بكر وعمر وعثمان ثم علي، ثم أمر أن يذكر العاضِدُ في الخطبة بكلام يحتمل التلبيسَ على الشيعة، فكان الخطيب يقول: اللهم أصلِحِ العاضد لدينِك، لا غيرُ، ثم أمر صلاح الدين بتغيير شعار الفاطميين، وأبطل ذِكرَ العاضد من الخطبة، وكان الخطيبُ يدعو للإمام أبي محمد، فتخالُه العامة والروافض العاضِدَ، وهو يريد أبا محمد الحسن المستضئ بأمر الله الخليفة العباسي! ثم أعلن بالعزم على إقامة الخطبة العباسيَّة.
كان سببُه أن صلاح الدين يوسف بن أيوب سار عن مصر في صفر إلى بلاد الفرنج غازيًا، ونازل حصن الشوبك، وبينه وبين الكرك يوم، وحصره، وضيَّقَ على مَن به من الفرنج، وأدام القتال، وطلبوا الأمانَ واستمهلوه عشرة أيام، فأجابهم إلى ذلك، فلما سمع نور الدين بما فعله صلاح الدين سار عن دمشق قاصدًا بلاد الفرنج؛ ليدخل إليها من جهة أخرى، فقيل لصلاح الدين: إن دخل نور الدين بلاد الفرنج وهم على هذه الحال: أنت من جانب ونور الدين من جانب، مَلَكَها، ومتى زال الفرنجُ عن الطريق وأخذ مُلكَهم لم يبقَ بديار مصر مقامٌ مع نور الدين، وإن جاء نور الدين إليك وأنت هاهنا، فلا بد لك من الاجتماعِ به، وحينئذ يكون هو المتحَكِّم فيك بما شاء، إن شاء تركك وإن شاء عزلك، فقد لا تقدِرُ على الامتناع عليه؛ والمصلحة الرجوع إلى مصر، فرحل عن الشوبك عائدًا إلى مصر، ولم يأخُذْه من الفرنج، وكتب إلى نور الدين يعتذر باختلال الديار المصرية لأمور بلغته عن بعض شيعته العَلَويين، وأنهم عازمون على الوثوبِ بها، وأطال الاعتذار، فلم يقبلها نور الدين منه، وتغيَّرَ عليه وعزم على الدخول إلى مصر وإخراجه عنها، وظهر ذلك فسَمِعَ صلاح الدين الخبر، فجمع أهله، وفيهم أبوه نجم الدين أيوب، وخاله شهاب الدين الحارمي، ومعهم سائر الأمراء، وأعلمهم ما بلغه من عزم نور الدين وحركته إليه، واستشارهم فلم يجِبْه أحد بكلمة واحدة، فقام تقي الدين عمر بن أخي صلاح الدين، فقال: إذا جاءنا قاتلناه، ومنعناه عن البلاد، ووافقه غيره من أهلهم، فشتم نجم الدين أيوب، وأنكر ذلك، واستعظمه، وشتَمَ تقيَّ الدين وأقعده، وقال لصلاح الدين: أنا أبوك، وهذا خالك شهاب الدين، ونحن أكثَرُ محبة لك من جميع ما ترى، وواللهِ لو رأيت أنا وخالك هذا نورَ الدين، لم يمكِنَّا إلا أن نقَبِّلَ الأرض بين يديه، ولو أمَرَنا أن نضرب عنقك بالسيف لفعَلْنا، فإذا كنا نحن هكذا، فما ظنُّك بغيرنا؟ وكل من تراه عندك من الأمراء لو رأوا نور الدين وحْدَه لم يتجاسَروا على الثبات على سروجِهم، وهذه البلاد له، ونحنُ مماليكه ونوَّابُه بها، فإن أراد عزلَك سَمِعْنا وأطعنا؛ والرأيُ أن تكتب كتابًا تقول فيه: بلغني بأنك تريد الحركةَ لأجل البلاد، فأيُّ حاجة إلى هذا؟ يرسل المولى نجابًا يضع في رقبتي مِنديلًا ويأخُذُني إليك، وما هاهنا من يمنَعُ عليك! وأقام الأمراء وغيرهم وتفَرَّقوا على هذا، ففعل صلاح الدين ما أشار به، فترك نور الدين قَصْدَه واشتغل بغيره، فكان الأمرُ كما ظنه أيوب، فتوفِّيَ نور الدين ولم يقصدْه، وملك صلاح الدين البلاد، وكان هذا من أحسَنِ الآراء وأجوَدِها.
لما مات العاضد غَسَّله ابنه داود وصلى عليه، وجلس على الشدَّة، واستدعى صلاح الدين ليبايعَه، فامتنع، وبعث إليه: أنا نائبٌ عن أبيك في الحُكم ولم يوصِ بأنَّك وليُّ عهده، وقبَضَ عليه وعلى بقيَّةِ أولاد العاضد وأقاربه، ونقله هو وجميع أقاربه وأهله إلى دار المظفر من حارة برجوان، ووكل عليهم وعلى جميع ذخائر القصر، وفَرَّق بين الرجال والنساء حتى لا يحصُلَ منهم نسل. وأُغلِقَت القصور وتُمُلِّكَت الأملاك التي كانت لهم، وضُرِبَت الألواح على رِباعِهم، وفُرِّقَت على خواص صلاح الدين كثيرٌ منها وبِيعَ بَعضُها. وأعطى القصر الكبير لأمرائه فسكنوا فيه. وأسكن أباه نجم الدين أيوب في اللؤلؤة على الخليج، وصار كل من استحسن من الغز الأتراك (التركمان) دارًا أخرج صاحِبَها منها وسكَنَها، ونُقلوا إلى قلعة الجبل، وهم ثلاثة وستون نفرًا، فمات منهم إلى ربيع الأول سنة أربع وعشرين وستمائة ثلاثة وعشرون. وتولى وضع القيود في أرجلهم الأمير فخر الدين الطبنا أبو شعرة بن الدويك والي القاهرة.
هو صاحِبُ مصرَ العاضد لدين الله خاتم الدولة العُبيدية: أبو محمد عبد الله بن الأمير يوسف بن الحافظ لدين الله عبد المجيد بن محمد بن المستنصر، العبيدي الحاكمي المصري الإسماعيلي المُدَّعي هو وأجدادُه أنهم فاطميون. ولد سنة 546. وليَ الحُكمَ بعد وفاة ابن عمه الفائز، وكان أبوه يوسف أحد الأخوين اللذين قتلهما عباس بعد الظافر، واستقر الأمر للعاضد اسمًا، والصالحُ بن رزيك الرافضي كان المتحكِّمَ في الحكم. كان العاضِدُ مليح النظم، قويَّ الرفض، يناظر على الإمامة والقَدَر, وكان سبَّابًا خبيثًا متخلِّفًا شديدَ التشيُّع، متغاليًا في سبِّ الصحابة- رضوانُ الله عليهم أجمعين- وإذا رأى سنيًّا استحل دمه، وسار وزيره الصالح بن رزيك في أيامه سيرةً مذمومة؛ فإنه احتكر الغَلَّات، فارتفع سعرها، وقتل أمراء الدولة خَشيةً منهم، وأضعف أحوالَ الدولة المصرية، فقتَلَ مُقاتِلَتَها، وأفنى ذوي الآراء والحزم منها، وكان كثيرَ التطلع إلى ما في أيدي الناس من الأموال، وصادرَ أقوامًا ليس بينه وبينهم تعلُّق، وفي أيام العاضد ورد أبو عبد الله الحسين بن نزار بن المستنصر من المغرب ومعه عساكر وحشود، فلما قارب بلاد مصر غدرَ به أصحابه وقبضوه وحملوه إلى العاضِدِ، فقتله صبرًا، ووزَرَ للعاضد بعد رزيك بن الصالح, الملك أبو شجاع شاوِر السعدي وهو سُنِّي، ثم استوزر له أسد الدين شيركوه عم صلاح الدين الأيوبي، فلم تطُل أيامه، ومات بالخانوق بعد شهرين وأيام, وقام بعده صلاح الدين الأيوبي الذي شرعَ يَطلُبُ مِن العاضد أشياءَ مِن الخيل والرَّقيقِ والمال ليزيد بذلك مِن ضَعفِه, ثم قبض عليه صلاحُ الدين فحبَسَه في قصره مُضَيِّقًا عليه، لا يعلم كثيرًا مما يجري في دولته، وكان صلاح الدين قد استفتى الفقهاء في قَتلِ العاضد، فأفتوه بجواز ذلك؛ لِما كان عليه العاضِدُ وأشياعه من انحلال العقيدة وفساد الاعتقاد، وكثرة الوقوع في الصحابة والاستهتار بذلك. فقطعَ الخطبة للعاضد، وخطب للخليفة العباسي المستضيء بالله في أول جمعة من المحرم، وتسلَّمَ صلاح الدين القصرَ بما حوى من النفائس والأموال، وقبض أيضًا على أولاد العاضد وآله، فسجنَهم في بيت من القصر، وقمع غلمانهم وأنصارهم، وعفى آثارَهم. هلك العاضد يوم عاشوراء غَمًّا لَمَّا سمع بقطع خطبته وإقامة الدعوة للمستضيء. وقيل: سُقِيَ سمًّا. قال ابن خلكان: "من عجيب الاتفاق أنَّ العاضد في اللغة القاطِع، يقال: عضدتُ الشيءَ فأنا عاضدٌ له، إذا قطعته، فكأنه عاضدٌ لدولتِهم، وكذا كان؛ لأنَّه قطَعَها". قال الذهبي: "تلاشى أمرُ العاضد مع صلاح الدين إلى أن خلعه، وخطبَ لبني العباس، واستأصل شأفةَ بني عُبَيد، ومحقَ دولةَ الرفض, وكانوا أربعة عشر متخَلِّفًا لا خليفة، والعاضِدُ في اللغة أيضًا القاطع، فكان هذا عاضدًا لدولة أهلِ بيته". وبهلاك العاضد انتهت دولة الفاطميين، وكانت جميع مدة ملكهم من حين ظهر المهدي بسجلماسة في ذي الحجة من سنة 299 إلى أن هلك العاضد 272 سنة وشهر تقريبًا.
هو السلطانُ علاءُ الدين خوارزم شاه تكش بن الملك أرسلان شاه بن أطسز، وقيل: هو من ولد طاهر بن الحسين, كان ملكًا مشهورًا، عنده آدابٌ وفضائلُ، ومعرفةٌ بمذهبِ أبي حنيفة، وبنى مدرسةً بخوارزم للحنفيَّةِ، وكان شُجاعًا جوادًا، ملَكَ الدنيا من السِّندِ والهندِ وما وراء النهرِ إلى خراسانَ إلى بغدادَ؛ فإنَّه كان نوَّابُه في حلوان. وكان في ديوانه مائةُ ألف مقاتل، وهو الذي كسر مملوكُه عسكرَ الخليفةِ وأزال دولةَ بني سلجوق، وكان حاذقًا بعلمِ الموسيقى، لم يكن أحدٌ ألعبَ منه بالعودِ. قيل: إنَّ الباطنيَّةَ جهزوا عليه من يقتُلُه، وكان يحترسُ كثيرًا، فجلس ليلةً يلعبُ بالعود، فاتفق أنه غنى بيتًا بالعجمي معناه: قد أبصرتك، وفهمه الباطني، فخاف وارتعد فهرب، فأخذوه وحمل إليه، فقرره فاعترف فقتله. وكان يباشر الحروب بنفسِه، وذهبت عينه في القتال. وكان قد عزم على قصد بغداد، وحشد فوصل إلى دهستان فتوفي بها في رمضان، وحمل إلى خوارزم، ودفن عند أهلِه، وقام بعده ولده خوارزم شاه محمد، ولُقِّب علاء الدين بلقبه, وقيل: حصل له خوانيق فأشير عليه بترك الحركة، فامتنع وسار، فاشتدَّ مرضُه ومات.
سارت طائفةٌ مِن الترك من ديارِ مِصرَ مع قراقوش مملوكِ تقي الدين عمر بن أخي صلاح الدين يوسف بن أيوب، إلى جبال نفوسة، واجتمع بمسعود بن زمام المعروف بمسعود البلاط، وهو من أعيان العرب هناك، وكان خارجًا عن طاعة عبدِ المؤمن وأولاده، فاتفقا، وكثُرَ جمعهما، ونزلا على طرابلس الغرب فحاصراها وضَيَّقا على أهلها، ثم فُتِحَت فاستولى قراقوش، وأسكن أهلَه قصرها، وملك كثيرًا من بلاد إفريقية ما خلا المهدية وصفاقس وقفصة وتونس وما والاها من القرى والمواضع، وصار مع قراقوش عسكرٌ كثير، فحكَمَ على تلك البلاد بمساعدة العربِ بما جُبِلَت عليه من التخريبِ والنهب، والإفساد بقطع الأشجار والثمار، وغير ذلك، فجمع بها أموالًا عظيمةً وجعلها بمدينة قابس، وقَوِيَت نفسه وحَدَّثَته بالاستيلاء على جميع إفريقية؛ لبعد أبي يعقوب بن عبد المؤمن صاحِبِها عنها.
جمع أبو يعقوب يوسف بن عبد المؤمن عساكِرَه، وسار من إشبيلية إلى الغزو، فقصد بلاد الفرنج، ونزل على مدينة رندة، وهي بالقرب من طليطلة شرقًا منها، وحصرها، واجتمعت الفرنجُ على بن الأذفونش ملك طليطلة في جمع كثير، فلم يَقدِروا على لقاء المسلمين، فاتَّفَق أن الغلاء اشتدَّ على المسلمين، وعَدِمت الأقوات عندهم، وهم في جمع كثير، فاضطُروا إلى مفارقة بلاد الفرنج، فعادوا إلى إشبيلية، وأقام أبو يعقوب بها سنة 571، وهو في ذلك يجهز العساكِرَ ويُسَيِّرُها إلى غزو بلاد الفرنج في كل وقت، فكان فيها عدة وقائع وغزوات ظهر فيها من العرب من الشجاعة ما لا يُوصَف، وصار الفارس من العرب يَبرُز بين الصفين ويطلُب مبارزة الفارس المشهور من الفرنج، فلا يبرُز إليه أحد، ثم عاد أبو يعقوب إلى مراكش.
اجتمع الفرنج وساروا إلى بلد حوران من أعمال دمشق للغارة عليه، وبلغ الخبر إلى نور الدين محمود، وكان قد برز ونزل هو وعسكره بالكسوة، فسار إليهم مجدًّا، وقَدِمَ بجموعه عليهم، فلما عَلِموا بقُربه منهم دخلوا إلى السواد، وهو من أعمال دمشق أيضًا، ولحِقَهم المسلمون وتخَطَّفوا مَن في ساقتهم ونالوا منهم، وسار نور الدين فنزل في عشترا، وسيَّرَ منها سرية إلى أعمال طبرية، فشنُّوا الغارات عليها، فنَهَبوا وسَبَوا، وأحرقوا وخربوا، فسمع الفرنج ذلك، فرحلوا إليهم ليمنعوه عن بلادهم، فلما وصلوا كان المسلمون قد فَرَغوا من نهبِهم وغنيمتِهم، وعادوا وعبَروا النهر، وأدركهم الفرنجُ، فوقف مقابِلَهم شجعان المسلمين وحُماتهم يقاتلونهم، فاشتد القتال وصبر الفريقان، الفرنج يرومون أن يلحقوا الغنيمة فيردُّوها، والمسلمون يريدون أن يمنعونهم عنها لينجو بها من قد سار معها، فلما طال القتالُ بينهم وأبعدت الغنيمة وسلِمَت مع المسلمين، عاد الفرنج ولم يقدروا أن يستردُّوا منها شيئًا.
رحَلَ صلاح الدين يوسف بن أيوب من مصر بعساكِرِه جميعِها إلى بلاد الفرنج يريدُ حَصرَ الكرك، والاجتماع مع نور الدين محمود والاتِّفاق على قصد بلاد الفرنج من جِهَتينِ، كل واحد منهما في جهة بعسكرِه، وسبب ذلك أنَّ نور الدين لَمَّا أنكر على صلاح الدين عَودَه من بلاد الفرنج في العام الماضي، وأراد نور الدين قَصْدَ مصر وأخْذَها منه، أرسل يعتذر، ويَعِدُ من نفسه بالحركةِ على ما يقَرِّرُه نور الدين، فاستقَرَّت القاعدة بينهما أنَّ صلاح الدين يخرجُ مِن مصر ونور الدين يسيرُ من دمشق، فأيُّهما سبق صاحبَه يقيمُ إلى أن يصِلَ الآخَرُ إليه، وتواعدا على يومٍ معلومٍ يكون فيه وصولُهما، فسار صلاح الدين عن مصر؛ لأن طريقه أصعَبُ وأبعَدُ وأشَقُّ، ووصل إلى الكرك وحصره، وأمَّا نور الدين فإنه لَمَّا وصل إليه كتاب صلاح الدين برحيله من مِصرَ فَرَّقَ الأموال، وحصَّل الأزواد وما يحتاج إليه، وسار إلى الكرك فوصَلَ إلى الرقيم، وبينه وبين الكرك مرحلتان. فلما سمع صلاحُ الدين بقُربِه خافه هو وجميعُ أهله، واتَّفَق رأيهم على العود إلى مصر، وترك الاجتماع بنور الدين؛ لأنهم علموا أنَّه إن اجتمعا كان عزلُه على نور الدين سهلًا. فلما عاد أرسل الفقيهُ عيسى إلى نور الدين يعتَذِرُ عن رحيله، بأنه كان قد استخلف أباه نجمَ الدين أيوب على ديار مصرَ، وأنَّه مريض شديد المرض، ويخاف أن يَحدُثَ عليه حادث الموت، فتخرج البلاد عن أيديهم، وأرسل معه من التُّحَف والهدايا ما يجِلُّ عن الوصف؛ فجاء الرسولُ إلى نور الدين وأعلَمَه ذلك، فعظم عليه وعَلِمَ المراد من العَود، إلَّا أنه لم يُظهِر للرسول تأثرًا، بل قال له: حِفظُ مِصرَ أهَمُّ عندنا مِن غيرنا، وسار صلاح الدين إلى مصرَ فوجد أباه قد قضى نحْبَه.
لَمَّا سار سيفُ الدين غازي، صاحِبُ الموصل، ومَلَك البلادَ الجزريَّةَ، أرسل صلاح الدين أيضًا إلى المَلِك الصالح يعتبُه حيث لم يُعلِمْه قصد سيف الدين بلادَه وأخْذَها، ليحضُرَ في خدمته ويكُفَّ سيف الدين، وكتب إلى كمالِ الدين والأمراء يقول: "لو أنَّ نور الدين يعلَمُ أنَّ فيكم من يقومُ مقامي، أو يثِقُ به مِثلَ ثِقتِه بي، لسلم إليه مصر التي هي أعظَمُ ممالكه وولاياته، ولو لم يُعجِّلْ عليه الموت لم يعهَدْ إلى أحد بتربيةِ ولَدِه والقيام بخدمته غيري، وأراكم قد تفَرَّدتُم بمولاي وابنِ مولاي دوني، وسوف أصِلُ إلى خدمته، وأجازي إنعامَ والدِه بخدمةٍ يظهَرُ أثَرُها، وأجازي كلًّا منكم على سوءِ صنيعه في ترك الذَّبِّ عن بلادِه".
كانت الفتنةُ ببغدادَ بين أمير العسكَرِ قطب الدين قايماز المظفري والخليفةِ المستضيء بأمرِ الله، وسَبَبُها أنَّ الخليفة أمرَ بإعادة عَضدِ الدين ابن رئيس الرؤساءِ إلى الوزارة، فمنع منه قُطب الدين، وأغلق بابَ النوبي وباب العامة، وبقيت دار الخليفة كالمحاصَرة، فأجاب الخليفةُ إلى تَركِ وَزارته، فقال قطب الدين: "لا أقنَعُ إلا بإخراج عضد الدينِ مِن بغداد؛ فأمر بالخروجِ منها" فالتجأ عضدُ الدين إلى صدر الدين شيخِ الشيوخ عبد الرحيم بن إسماعيل، فأخذه إلى رباطِه وأجاره، ونقله إلى دارِ الوزير بقطفتا، فأقام بها، ثمَّ عاد إلى بيته في جُمادى الآخرة.