لما انهزم جلال الدين من التتر على آمد نهب التتر سوادَ آمد وأرزن الروم وميافارقين، وقصدوا مدينةَ أسعرد، فقاتلهم أهلُها، فبذل لهم التترُ الأمان، فوَثِقوا منهم واستسلَموا، فلما تمكَّنَ التتر منهم وضَعُوا فيهم السيفَ وقتلوهم حتى كادوا يأتونَ عليهم، فلم يسلَمْ منهم إلَّا من اختفى، وقليل ما هم، ومدَّة الحصار كانت خمسة أيام، ثمَّ ساروا منها إلى مدينة طنزة، ففعلوا فيها كذلك، وساروا من طنزة إلى وادٍ بالقرب من طنزة يقال له وادي القريشية، فيه مياه جارية، وبساتين كثيرة، والطريق إليه ضيق، فقاتلهم أهل القريشية، فمنعوهم عنه، وامتنعوا عليهم، وقُتل بينهم كثيرٌ، فعاد التتر ولم يبلغوا منهم غرضًا، وساروا في البلاد لا مانع يمنَعُهم، ولا أحدَ يقِفُ بين أيديهم، فوصلوا إلى ماردين فنهبوا ما وجدوا من بلدها، واحتمى صاحِبُ ماردين وأهل دنيسر بقلعة ماردين، وغيرهم ممن جاور القلعة احتمى بها أيضًا، ثم وصلوا إلى نصيبين الجزيرة، فأقاموا عليها بعضَ نهار، ونهبوا سوادَها وقتلوا مَن ظَفِروا به، وغُلِّقَت أبوابها، فعادوا عنها، ومَضَوا إلى بلد سنجار، ووصلوا إلى الجبال من أعمال سنجار، فنهبوها ودخلوا إلى الخابور، فوصلوا إلى عرابان، فنَهَبوا وقتلوا وعادوا، ومضى طائفة منهم على طريق الموصل، فوصل القومُ إلى قرية تُسمَّى المؤنسة، وهي على مرحلة من نصيبين، بينها وبين الموصِل، فنهبوها واحتمى أهلُها وغيرهم بخان فيها، فقَتَلوا كلَّ من فيه، ومضى طائفةٌ منهم إلى نصيبين الروم، وهي على الفرات، وهي من أعمال آمد، فنهبوها وقتلوا من فيها، ثم عادوا إلى آمد، ثم إلى بلد بدليس، فتحصَّن أهلها بالقلعة وبالجبال، فقتلوا فيها يسيرًا، وأحرقوا المدينةَ، ثم ساروا من بدليس إلى خلاط، فحَصَروا مدينة من أعمال خلاط يقال لها: باكرى، وهي من أحصن البلاد، فملكوها عنوةً، وقتلوا كلَّ من بها، وقصدوا مدينة أرجيش من أعمال خلاط، وهي مدينة كبيرة عظيمة، ففعلوا كذلك.
حصر التترُ مراغة من أذربيجان، فامتنع أهلها، ثم أذعن أهلُها بالتسليم على أمانٍ طلبوه، فبذلوا لهم الأمان، وتسلَّموا البلدَ وقتلوا فيه إلَّا أنهم لم يُكثِروا القتل وجعلوا في البلد شحنةً، وعظُمَ حينئذ شأن التتر، واشتد خوفُ الناس منهم بأذربيجان، وليس في ملوك الإسلام من له رغبةٌ في الجهاد، ولا في نصرةِ الدين، بل كلٌّ منهم مُقبِلٌ على لهوه ولعبه وظُلمِ رَعيَّتِه، وقال الله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25].
هو سُليمان شاه بن قتلمش القايوي التركماني جَدُّ مُؤَسِّس الدَّولة العُثمانيَّة، السُّلطان عثمان الأوَّل بن أرطغرل. كان حاكِمًا في بلدة ماهان, لَمَّا وقعت فتنةُ جنكيز خان سنة 621 ترك تلك سليمان مع قومه البلادَ مع من تركها من الملوكِ، وقصد بلادَ الروم، وكان قد سمع بدولةِ السلجوقية بها وعِظَمِ شَوكتِهم، وتَبِعَه خلقٌ كثير، فلمَّا وصلوا إلى أرزنجان قاتلوا الكفَّار وغنموا منهم شيئًا كثيرًا ثمَّ قَصَدوا صوبَ حَلَب من ناحية ألبستان، فوصلوا إلى نهر الفُرات أمام قلعة جعبر، ولم يعلموا المعبَرَ، فعبروا النهر فغلب عليهم الماءُ، فغرق سليمان شاه سنة 628، ثم أخرجوه ودفَنوه عند القلعة, وكان معه أولاده الثلاثة سنقور تكين، وكون طوغدي، وأرطغرل، فلما أصيبوا بأبيهم وتشَوَّش بالُهم رجعوا إلى إثرِهم، فلما وصلوا إلى موضعٍ يقال له بَاسين أُواسِي مضى سنقور وكون طوغدي إلى موطنهما الأصلي, وأما أرطغرل بك مع أبنائه الثلاثة كُندز وصارو بالي وعثمان، فمكثوا في نفس الموضع يجاهِدونَ فيه الكُفَّار.
وصل طائفةٌ من التتر من أذربيجان إلى أعمال إربل، فقتلوا من على طريقِهم من التركمان الإيوانية والأكراد الجوزقان وغيرهم إلى أن دخلوا بلدَ إربل، فنهبوا القرى، وقتَلوا من ظَفِروا به من أهلِ تلك الأعمال، وعَمِلوا الأعمالَ الشنيعة التي لم يُسمَع بمثلِها من غيرهم، وبرز مظفر الدين، صاحب إربل، في عسكره، واستمدَّ عساكِرَ الموصل فساروا إليه، فلمَّا بلَغَه عودَ التتر إلى أذربيجان أقام في بلاده ولم يتبعْهم، فوصلوا إلى بلد الكرخيني، وبلد دقوقا، وغير ذلك، وعادوا سالمينَ لم يذعرْهم أحدٌ، ولا وقف في وجوههم فارسٌ.
في أواخر هذه السنة أطاع أهل بلاد أذربيجان جميعها للتتر، وحملوا إليهم الأموالَ والثياب الخطائي، والخوبي، والعتابي، وغير ذلك، وسبب طاعتِهم أن جلال الدين لَمَّا انهزم على آمد من التتر، وتفَرَّقت عساكره، وتمزَّقوا كلَّ مُمزَّق، وتخطَّفَهم الناس، وفعل التترُ بديار بكر والجزيرة وإربل وخلاط ما فعلوا، ولم يمنَعْهم أحد، ولا وقف في وجوههم واقف، وملوكُ الإسلام منجحرون في الأثقاب، وانضاف إلى هذا انقطاعُ أخبار جلال الدين، فإنَّه لم يظهر له خبر، ولا علموا له حالة، سُقِطَ في أيديهم، وأذعنوا للتتر بالطاعة، وحملوا إليهم ما طلبوا منهم من الأموالِ والثياب، وكذلك مدينة تبريز التي هي أصل بلاد أذربيجان، ومرجع الجميعِ إليها وإلى من بها، فإنَّ ملك التتر نزل في عساكره بالقرب منها، وأرسل إلى أهلِها يدعوهم إلى طاعته، ويتهدَّدُهم إن امتنعوا عليه، فأرسلوا إليه المال الكثير، والتُّحَف من أنواع الثياب الإبريسم وغيرها، وكلُّ شيء حتى الخمر، وبذلوا له الطاعة، فأعاد الجوابَ يشكُرُهم، ويطلب منهم أن يحضُرَ مُقَدَّموهم عنده، فقصده قاضي البلد ورئيسُه، وجماعة من أعيان أهله، وتخلَّفَ عنهم شمس الدين الطغرائي، وهو الذي يرجع الجميعُ إليه، إلَّا أنه لا يظهر شيئًا من ذلك، فلمَّا حضروا عنده سألهم عن امتناع الطغرائي من الحضور فقالوا: إنه رجل منقطع، ما له بالملوك تعلُّق، ونحن الأصل، فسكت ثم طلب أن يحضروا عنده من صناع الثيابِ الخطائي وغيرها، ليستعمل لمَلِكهم الأعظم، فأحضروا الصُّنَّاع، فاستعملهم في الذي أرادوا، ووزن أهل تبريز الثمَن، وطلب منهم خركاة لملكه أيضًا، فعملوا له خركاة- بيت من الخشب- لم يُعمَل مِثلُها، وعملوا غشاءَها من الأطلس الجيد المزركش، وعملوا من داخلها السمور والقندر، فجاءت عليهم بجملة كثيرة، وقرر عليهم شيئًا من المال كلَّ سنة، وترددت رسلهم إلى ديوان الخلافة وإلى جماعة من الملوك يطلُبون منهم أنهم لا ينصرون خوارزم شاه. قال ابن خلكان: "ولقد وقفتُ على كتاب وصل من تاجرٍ مِن أهل الري في العام الماضي، قبل خروج التتر، فلما وصل التتر إلى الري وأطاعهم أهلها، وساروا إلى أذربيجان، سار هو معهم إلى تبريز، فكتب إلى أصحابه بالموصل يقول: إن الكافِرَ- لعنه الله- ما نَقدِرُ نَصِفُه، ولا نذكر جموعه حتى لا تنقطع قلوبُ المسلمين، فإن الأمر عظيم، ولا تظنوا أن هذه الطائفةَ التي وصلت إلى نصيبين والخابور، والطائفة الأخرى التي وصلت إلى إربل ودقوقا، كان قصدُهم النهب، إنما أرادوا أن يعلموا هل في البلاد من يردُّهم أم لا، فلما عادوا أخبروا ملكهم بخلو البلادِ مِن مانع ومدافع، وأنَّ البلاد خالية من ملك وعساكر، فقوي طمعُهم، وهم في الربيع يقصدونَك، وما يبقى عندكم مقامٌ إلَّا إن كان في بلد الغرب، فإنَّ عَزمَهم على قصدِ البلاد جميعها، فانظروا لأنفُسِكم، هذا مضمون الكتاب، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم".
تكامَلَ استيلاءُ التتر على إقليم أرمينية وخلاط وسائر ما كان بيد الخوارزمي، فوصلوا إلى شهزور فاهتَمَّ الخليفة المستنصر بالله غايةَ الاهتمام، وسيَّرَ عِدَّة رسل يستنجد الأشرفَ مِن مصر، ويستنجد العربان وغيرهم، وأخرج الخليفةُ الأموال، فوقع الاستخدام في جميع البلاد لحركة التتر، فندب الخليفةُ صاحب إربل مظفر الدين كوكبري بن زين الدين، وأضاف إليه عساكِرَ مِن عنده، فساروا نحوهم فهربت منهم التتار وأقاموا في مقابلتهم عدةَ شهور، ثم تمَرَّض مظفر الدين وعاد إلى بلده إربل، وتراجَعَت التتار إلى بلادِها.
خرج المَلِكُ الكامِلُ مِن القاهرة في جمادى الآخرة، واستخلفَ على مصر ابنَه المَلِك العادلَ أبا بكر، وقَدِمَ الأشرف والمعظم صاحِب الجزيرة بالعساكر، ومضى الكاملُ جريدة-الجريدة خَيْلٌ لا رَجَّالة فيها- إلى الشوبك والكرك، وسار إلى دمشقَ، ومعه الناصرُ داود بن الملك المعظَّم صاحب الكرك بعساكره، وأقام الكامِلُ بدمشق يسَرِّح العساكِرَ، وجعل في مقدِّمتِها ابنه الملك الصالح أيوب، وورد الخبر بدخول التتر بلاد خلاط، فأسرع الكامِلُ في الحركة، وخرج من دمشق، فنزل سلمية وقد اجتمع فيها بعساكِرَ يضيق بها الفضاءُ وسار منها في آخر رمضان على البرية، وتفرَّقَت العساكر في عدة طرق لكثرتِها، فهلك منها عدةٌ كثيرة من الناس والدواب، لقلَّة الماء، وأتته رسلُ ملوك الأطراف، وهم عز الدين بيقرا، وفخر الدين بن الدامغاني، ورسل الخليفة المستنصر بالله، وألبسوه خِلعة السلطنة، فاستدعى الكامل عند ذلك رسلَ الخوارزمي، ورسول الكرج، ورسل حماة وحمص، ورسول الهند ورسل الفرنج، ورسل أتابك سعد صاحب شيراز، ورسل صاحب الأندلس ولم تجتَمِعْ هذه الرسلُ عند ملك في يومٍ واحدٍ قَطُّ غيره، وقَدِمَ عليه بهاء الدين اليزدي - شيخ رباط الخلاطية - من بغداد وجماعة من النخاس، يحثُّونه على الغزاة، فرحل التتر عن خلاط، بعد منازلتها عدَّةَ أيام، وجاء الخبَرُ برحيلهم والكامل بحرَّان، فجهَّز عماد الدين بن شيخ الشيوخ رسولًا إلى الخليفة، وسار إلى الرَّها، وقَدَّم الكامِلُ العساكِرَ إلى آمد، وسار بعدهم، فنزل على آمد، ونصبَ عليها عِدَّة مجانيق، فبعث إليه صاحِبُها يستعطِفُه، ويبذل له مائة ألف، وللأشرفِ عشرين ألف دينار، فلم يقبَلْ، وما زال عليها حتى أخذها، في سادس عشر ذي الحجة، وحضر صاحبُها إليه بأمان، فوكل به حتى سلم جميعَ حصونها، فأعطى السلطانُ حصن كيفا لابنه الملكِ الصالح نجم الدين أيوب.
بعث الملكُ المنصور عمر بن علي بن رسول، صاحبُ اليمن، عسكرًا إلى مكة، وفيها الشَّريفُ راجح بن قتادة، فمَلَكَها من الأمير شجاع الدين طغتكين، نائب الملك الكامل، وفرَّ شجاع الدين إلى نخلة ثم إلى ينبع، وكتب يُعلِمُ الملك الكامل بذلك، فبعث إليه الكامِلُ عسكرًا سار بهم إلى مكَّة، فقدموها في شهر رمضان، ومَلَكوها بعدما قتلوا جماعة، وكان مُقَدَّم العسكر الأمير فخر الدين يوسف بن الشيخ.
بعد أن تخلى الموحِّدون عن الأندلس بدأت تتساقَطُ المدن الإسلامية فيها واحدة تلوَ الأخرى في أيدي القوى الصَّليبية غيرَ أنَّ مقاطعة غرناطة استطاع أن يسيطرَ عليها محمد الغالب بن يوسف بن أحمد بن نصر بن الأحمر الذي اعتصم بها، وأقام قلعةً عُرِفَت باسم قلعة الحمراء أو قصر الحمراء وجعلها مركزًا له ولأسرته من بعده، وملجأً لجموع المسلمين الهاربين من أنحاءِ الأندلس، ثمَّ أعلن نفسَه أميرًا على الأندلس بعد أن استولى على جيان ووادي آش وبسطة، وتمت له غرناطة تمامًا والتي أصبحت عاصمتَه، واستطاع أن يضمَّ لها عددًا من الدويلات الأخرى, وظلَّت دولةُ الإسلام في الأندلُسِ بغرناطة إلى سقوطها بيد الفرنج سنة 897 (1492م).
قام الملك الكامِلُ الأيوبي صاحِبُ مصر بفتح آمد، وأخرجَ منها صاحبها الملك المسعود بن مودود بعد حصار طويل، وتسلم منه جميعَ القلاع التي كانت بيده، وبَقِيَ حِصنُ كيفا عاصيًا، فبعث الكامل أخاه الأشرف وأخاه شهاب الدين غازي، ومعهما صاحب آمد تحت الحوطة، فسألهم صاحِبُ آمد في تسليمِ الحصن فلم يسَلِّموا البلد، فعذَّبَه الأشرفُ عذابًا عظيمًا، وكان يُبغِضُه، ولا زال الأشرف يحاصر حصن كيفا حتى تسَلَّمَها، ووجد عند مسعود المذكور خمسمائة بنت من بنات الناس للفِراش، وكان الملك المسعود هو آخِرُ ملوك بني الأرتق، ثمَّ قام الملك الكامل بتوليةِ ابنه نجم الدين أيوب آمد وحصن كيفا، وأبقى الملك المسعود عنده في مصر، حبسه مدةً ثم أفرج عنه وأقطعه إمرةً في مصر.
هو الشيخ الإمام العلامة المحدِّث، الأديبُ النَّسَّابة: عز الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني الجزري الموصلي المعروف بابن الأثير، مصنف كتاب (أُسْد الغابة في أسماء الصحابة)، وكتاب (الكامل في التاريخ)، وهو من أحسنها سردًا للحوادث ابتدأه من المبتدأ إلى سنة ثمان وعشرين وستمائة، ولد بجزيرة ابن عمر، في سنة 550، ونشأ بها، وأخواه العلامة مجد الدين والوزير ضياء الدين، ثم تحوَّلَ بهم أبوهم إلى الموصل، فسَمِعوا بها، واشتغلوا وبرعوا وسادوا. كان ابن الأثير إمامًا علامة، أخباريًّا أديبًا، متفنِّنًا رئيسًا محتشمًا، عالِمًا بالأنساب والتواريخ وأيام العرب، وله كتاب خاص بتاريخ الأتابكة الذين عاش في ظلهم، وكان منزله مأوى طلبة العلم، ولقد أقبل في آخر عمره على الحديث إقبالًا تامًّا، وسمع العاليَ والنازل, ووزر لبعض أتابكة الموصل وأقام بها في آخر عمره موقرًا مُعظَّمًا إلى أن توفي بها، وكان يتردد إلى بغداد. قدم ابن الأثير الشام رسولًا، فحدَّث بدمشق وحلب. قال ابن خلكان: " لَمَّا وصلت إلى حلب في أواخر سنة 626 كان عز الدين ابن الأثير مقيمًا عند الطواشي شهاب الدين طغريل الخادم أتابك الملك العزيز بن الملك الظاهر صاحب حلب، وكان الطواشي كثير الإقبال عليه حَسَنَ الاعتقاد فيه مُكْرِمًا له، فاجتمعت به فوجدته رجلًا مكملًا في الفضائل وكرم الأخلاق وكثرة التواضع، فلازمت التردادَ إليه" وأمَّا ابن الأثير الجزري الآخر فهو أخوه أبو السعادات المبارك مصنف كتاب جامع الأصول، وأخوهما الوزير ضياء الدين أبو الفتح نصر الله كان وزيرًا للملك الأفضل علي بن صلاح الدين، توفي ابن الأثير عن خمس وسبعين سنة- رحمه الله- في الموصل، ودُفِنَ بها.
هو السلطانُ المَلِكُ المعَظَّم: مظفر الدين أبو سعيد كوكبري بن علي بن بكتكين بن محمد التركماني، صاحب إربل، وابنُ صاحبها, وقد مصرَها الملك زين الدين علي كوجك. ثمَّ وهبها لأولاد مظفر الدين صاحب الموصل، وكان يوصَفُ بقوةٍ مُفرِطة، وطال عمره، وله أوقافٌ وبر ومدرسة بالموصل. ولد مظفر الدين في المحرم، 549، بإربل. تولى مظفَّرُ الدين إربل بعد وفاةِ أبيه وأقام بها مدَّةً وانتقل إلى الموصِلِ، ثمَّ دخل الشام واتصل بالملك الناصرِ صلاحِ الدين فأكرمه كثيرًا، وكانت له آثارٌ حسنة، وقد عمر الجامِعَ المظفري بسفحِ قاسيون، وكان قد هَمَّ بسياقة الماء إليه من ماء بذيرة، فمنعه المعظم من ذلك، واعتَلَّ بأنه قد يمُرُّ على مقابر المسلمين بالسفوح، وكان يهتَمُّ بعمل المولد الشريف اهتمامًا زائدًا حتى إنه كان يرقُصُ بنفسِه ويمارس هذه البدعةَ بنَفسِه، وقد صنَّف الشيخ أبو الخطاب ابن دحية له مجلدًا في المولد النبوي سماه " التنوير في مولد البشير النذير "، فأجازه على ذلك بألف دينار، وقد طالت مدته في الملك في زمان الدولة الصلاحية، وقد كان محاصِرًا عكا، وإلى هذه السنة محمود السيرة والسريرة، وكانت له دار ضيافة للوافدين من أي جهة على أي صفة، وكانت صدقاته في جميع القرب والطاعات على الحرمينِ وغيرهما. بنى أربع خوانك للزمنى- ذوو الأمراض المزمنة- والأضراء، وكان يأتيهم كل اثنين وخميس، ويسألُ كل واحد عن حاله، ويتفقده، ويباسطه ويمزح معه, وبنى دارًا للنساء، ودارًا للأيتام، ودارًا للُّقَطاء، ورتَّب بها المراضع, وكان يدورُ على مرضى البيمارستان, وله دار مضيف ينزلها كل وارد، ويعطى كل ما ينبغي له, وبنى مدرسة للشافعية والحنفية، وكان يمدُّ بها السماط، ويحضر السماعَ كثيرًا، لم يكن له لذَّةٌ في شيء غيره. وكان يمنع من دخول منكَر بلدَه، وبنى للصوفية رباطين، وكان ينزل إليهم لأجل السَّماعات, ويفتَكُّ من الفرنجِ في كلِّ سنةٍ خَلقًا من الأُسارى، حتى قيل: إن جملة من استفَكَّه من أيديهم ستون ألف أسير، مات ليلة الجمعة، رابع عشر رمضان, وكانت وفاته بقلعة إربل، وأوصى أن يُحمَل إلى مكة فلم يتَّفِقْ، فدفن بمشهد علي, وقد عاش اثنتين وثمانين سنة.
جهَّز الملكُ الكامِلُ عسكرًا من الغزِّ والعربان إلى ينبع، من أرضِ الحجاز عليهم علاء الدين آق سنقر الزاهدي في شوَّال وعِدَّتُهم سبعمائة، وسبَبُ ذلك ورودُ الخبر بمسير الشريف راجح من اليمن بعسكر إلى مكةَ، وأنَّه قَدِمَها في صفر، وأخرج من بها من المصريين بغيرِ قتال، ثم إنَّ ابن رسول بعث إلى الشريف راجح بن قتادة بخزانة مالٍ، ليستخدم عسكرًا، فلم يتمكَّنْ من ذلك؛ لأنَّه بلغه أنَّ السلطان الملك الكامل بعث الأميرَ أسد الدين جغريل، أحدَ المماليك الكاملية، إلى مكة بسبعمائة فارس، وحضر جغريل إلى مكة، ففَرَّ منه الشريف راجح بن قتادة إلى اليمن، وملك جغريل مكَّةَ في شهر رمضان، وأقام العسكَرَ بها، وحجَّ بالنَّاسِ، وترك بمكةَ ابن محلي، ومعه خمسون فارسًا، ورجع إلى مصر، ثم بعثَ الملك المنصور عمرُ بن علي بن رسول ملك اليمن عسكرًا إلى مكة، مع الشهاب بن عبد الله، ومعه خزانةُ مال، فقاتله المصريون وأسَروه، وحملوه إلى القاهرة مُقَيَّدًا.
سارت العساكر المستنصرية بصحبة الأمير سيف الدين أبي الفضائل إقبال الخاص المستنصري إلى مدينة إربل وأعمالها، وذلك لمرض مالكِها مظفر الدين كوكبري بن زين الدين، وأنَّه ليس له من بعده من يملك البلاد، فحين وصَلَها الجيشُ منَعَه أهلُ البلد فحاصروه حتى افتتحوه عنوةً في السابع عشر من شوال، وجاءت البشائرُ بذلك فضُرِبَت الطبول ببغداد بسَبَبِ ذلك، وفَرِحَ أهلُها، وكتب التقليدُ عليها لسيف الدين أبي الفضائل إقبال، فرتَّبَ فيها المناصِبَ وسار فيها سيرةً جيدة، وامتدح الشعراءُ هذا الفتحَ مِن حيث هو، وكذلك مدحوا فاتحَها سيف الدين أبا الفضائل.
أنشأها القاضي أستاذ دار الخليفة المستعصم الصاحب محيي الدين ابن الشيخ جمال الدين أبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي أيَّامَ الملك الصالح عماد الدين، كان قد حصل على أموالٍ وكراماتٍ من بني أيوب بالشامِ- أثناء قيامه بالسِّفارة بين الخليفة وبني أيوب- ابتنى بها المدرسةَ الجوزيَّة بالنشابين بدمشق بسوق القمح بالقرب من الجامِعِ، وقد نسب إليها ابنُ قَيِّم الجوزيَّة رحمه الله، فهو إمامُها ووالدُه كان قَيِّمَها.
هو العلامة المتكلم أبو الحسن علي بن أبي علي ابن محمد بن سالم الثعلبي سيف الدين الآمدي، الحنبلي ثم الشافعي. الحموي الدمشقي، صاحبُ المصَنَّفات في الأصلين وغيرهما، ومن مصنفاته: " أبكار الأفكار في الكلام " و" دقائق الحقائق في الحكمة " و" إحكام الأحكام في أصول الفقه " ولد بعد 550 بيسيرٍ بآمد، وقرأ بها القراءات على الشيخ محمد الصفار، وعمار الآمدي. وحفظ "الهداية" في مذهب أحمد. كان حنبليَّ المذهب فصار شافعيًّا أشعريًّا أصوليًّا منطقيًّا جدليًّا خلافيًّا، وكان حسن الأخلاق، وقد تكَلَّموا فيه بأشياءَ اللهُ أعلم بصحتها، وقد كانت ملوك بني أيوب كالمعظَّم والكامل يُكرمونَه وإن كانوا لا يحبُّونه كثيرًا، وقد فوَّضَ إليه المعَظَّم تدريس العزيزية، فلما ولي الأشرفُ دمشق عزله عنها ونادى بالمدارس أن لا يشتغل أحدٌ بغير التفسير والحديث والفقه، ومن اشتغل بعلومِ الأوائل نفيتُه، فأقام الشيخ سيف الدين بمنزله إلى أن توفِّي بدمشق، ودُفِنَ بتربته بسفح قاسيون، وكان قد اشتغل ببغداد على أبي الفتح نصر بن فتيان بن المنى الحنبلي، ثم انتقل إلى مذهبِ الشافعي فأخذ عن ابن فضلان وغيره، وحَفِظَ طريقة الخلاف للشريف، وزوائد طريقة أسعد الميهني، ثم انتقل إلى الشام واشتغل بعلوم المعقول. قال الذهبي: "تفنَّنَ في علم النظر، والفلسفة وأكثَرَ من ذلك. وكان من أذكياءِ العالم, ثم دخل الديارَ المصرية وتصَدَّرَ بها لإقراء العقليات بالجامع الظافري. وأعاد بمدرسةِ الشافعي. وتخرَّج به جماعة. وصنَّف تصانيفَ عديدة. ثم قاموا عليه، ونسبوه إلى فساد العقيدة والانحلال والتعطيل والفلسفة. وكتبوا محضرًا بذلك. قال القاضي ابن خلكان: وضعوا خطوطَهم بما يستباحُ به الدم، فخرج مستخفيًا إلى الشام فاستوطن حماة" ثم تحوَّل إلى دمشق فدرس بالعزيزية، ثم عُزِلَ عنها ولزم بيته إلى أن مات، وله ثمانون عامًا- رحمه الله تعالى وعفا عنه.