كان عبد الرحمن بن رستم من مُسلِمة الفتح الإسلامي، وهو من ولَدِ رستم أمير الفرس بالقادسية، قَدِم إلى إفريقية مع طوالعِ الفتح فكان بها. وأخذَ بدِين الخارجيَّة والإباضية منهم، تحزَّبَ الإباضية بناحية طرابلس واجتمعوا إلى ابنِ الخطاب عبد الأعلى بن السمح المغافري إمامِ الإباضية، فملكوا طرابلس، ثم ملَكوا القيروان، وقتَلوا واليَها من ورفجومة عبد الملك بن أبي الجعد، وأثخَنوا في ورفجومة وسائر مغراوة, ثم رجعَ أبو الخطاب والإباضية الذين معه من زناتة وهوارة وغيرهم بعد أن استخلف على القيروان عبد الرحمن بن رستم. لَمَّا بلغ الخبرُ بفتنةِ ورفجومة واضطرابِ الخوارجِ من البربر بإفريقيةَ والمغرب المنصورَ أبا جعفر, سرَّح محمد بن الأشعث الخزاعي في العساكرِ إلى إفريقية، وقلَّدَه حرب الخوارج، فقَدِمَها سنة 144, ولقيهم أبو الخطَّاب في جموعه قريبًا من طرابلس، فأوقع به ابن الأشعث وبقومه. وقُتل أبو الخطَّاب وطار الخبرُ بذلك إلى عبد الرحمن بن رستم بمكانِ إمارته في القيروان، فاحتمَلَ أهلَه وولده ولحِقَ بإباضية البرابرة في المغرب الأوسط (الجزائر) عاصمتها (تهرت) تسمى تيارت حاليًّا، ونزل على لماية بطن من بطونِ البربر لقديمِ حِلفٍ بينه وبينهم، فاجتمعوا إليه وبايعوا له بالخلافة.
لَمَّا قَدِمَ المنصورُ لموسم الحجِّ واجتمع بعبدِ الله بن حسن، ولم يكن ولداه قد قَدِما معه إليه، فغَضِبَ المنصور من عبد الله لَمَّا لم يُعلِمْه بمكانِ ولديه فأخذه معه إلى الكوفة هو وبعض أقاربه مُقَيَّدينَ، وحبَسَهم هناك في حبسٍ سيئ، هلك فيه بعضُهم، وقُتِل البعضُ. وأمَّا عبد الله بن حسن فإنه توفِّي في السجن بعد مقتل ولده محمد بالمدينة, وقيل إنَّه قُتِلَ في السجنِ عمدًا؛ حيث كان محبوسًا في سرداب، فقيل إن المنصورَ أمرَ برَدمِه عليهم.
كان على المدينةِ عبد الله بن الربيع مِن قِبَل المنصور، وكان جندُه قد استفحل أمرُهم مع التجَّار بالظُّلم، فكانوا يأخذون ما شاءوا بدون ثمنٍ أحيانًا، وكل ذلك وابن الربيع لا يغيِّرُ شيئًا ولا يكلِّمُ جندَه، فاستفحل أمرُهم حتى كان يومُ جمعة قتَلَ أحدُ الجزَّارين جنديًّا، ثم تنادى الجندُ وتنادى السودان (العبيد) ونفخوا في بوقٍ لهم، فلم يبقَ في المدينة أسودُ إلَّا جاء، وتأمر عليهم وثيق الزنجي، فثاروا على الجند ونهبوا أموالَ الأميرِ وهرب ابنُ الربيع خارج المدينة، ثم إنَّ أبا بكر بن أبي سبرة خرج من السجنِ ونصح النَّاسَ أن يعودوا للطاعة، وإلا كانت مهلكتُهم وخاصةً بعد أن كانت حادثةُ النَّفس الزكية، فاستجابوا له ورَدُّوا ما كانوا نهبوه, ثم أمسك وثيق الزنجي وقيد, وعاد ابن الربيع للمدينة.
كان المنصورُ قد حَبَس عبدَ الله بن الحسن والدَ محمد النفس الزكية، وكان همُّ المنصورِ هو الظفَرَ بمحمَّدٍ - الذي كان متخفيًا في المدينة- وأخيه إبراهيمَ، وذلك أنَّهما تخلَّفا عن الحضور إليه في موسم الحج, وعِلْمه بسعيهما للوصول لأمر ِالخلافة منذ أيَّام بني أمية؛ بقصد إزالة المخالفاتِ الشَّرعية والظُّلم الذي وقع من الولاة والأمراء, فخاف مِن أمرِهما، ثمَّ إنَّ محمدًا دعا للبيعةِ لنفسه واستولى على مقاليد الأمور في المدينة في آخر شهر جمادى الآخرة وحبس واليها رياح المري، وأخذ البيعة من أهلها في المسجد النبوي بعد خروجِ المنصور إلى الكوفة، فكتب المنصورُ له كتابًا بالأمان فرفضه، وكتب هو للمنصور كتابًا مضمونُه أنَّه هو أحقُّ بالولاية منه، فانتشر أمرُ محمد في المدينة وبايعه خلقٌ كثير، وقَوِيَ أمرُه حتى أرسل بعضَ الجندِ إلى مكَّة ليبايعوا له فيها، وبعث لأهل الشامِ فأبَوا عليه واعتذروا بأنَّه ليس له قوةٌ في بلدِه التي هو فيها، فكيف يطلب مثلَ هذا؟! وقد ملُّوا الحروبَ بين بعضِهم، ثم َّإن المقاتلينَ الذين أرسلهم إلى مكةَ دخلوها ولم يكونوا يزيدونَ على ثمانينَ، وأمَّا في البصرةِ فقام إبراهيم أخو محمد وبايع أيضًا له خلْقٌ، فجهَّزَ له المنصورُ جيشًا بقيادة عيسى بن موسى، فعلم محمد النفس الزكية بالأمر فحفَرَ خندقًا، ثمَّ جاء جيشُ عيسى وبقي أيامًا يدعوه للطاعة ويأبى، ودعا أهلَ المدينة للخروجِ؛ فليسوا هم المقصودين، وأحلَّ محمدٌ من أرادَ مِن بيعتِه إن خاف، فرجَع خلقٌ عنها، ثم بعد عدة أيام نشبت الحرب بينهما، وكانت حربًا شديدة جدًّا، ودخل عيسى المدينة وبقيَ القتالُ حتى لم يبقَ مع محمد النفس الزكيَّة إلا نفرٌ، ثمَّ قُتِلَ في رمضان وبُعِثَ برأسه إلى المنصور، ونوديَ بالأمان لأهل المدينةِ.
لَمَّا قام محمد بالمدينة ودعا لنفسه خرج أخوه إبراهيم في البصرة ودعا للبيعة، وقوِيَ أمره ثم غلبَ عليها وبايعه أهلُ الأهواز كذلك واستحوذَ على البلاد، وبعث إبراهيم إلى بلاد فارس فأخَذَها، وكذلك واسِط والمدائن والسَّواد، واستفحل أمرُه جدًّا، ولكنْ لَمَّا جاءه نعيُ أخيه محمد انكسر جدًّا، ثم إنَّ المنصورَ استدعى عيسى بن موسى وجيشَه وسيَّرَه لقتال إبراهيم حتى هزمه في موقعة باخمرا، وقُتِلَ إبراهيمُ كذلك وأُخِذَ رأسُه إلى المنصور، وكان ذلك في ذي الحجَّةِ من هذا العام،
سار العلاء بن مغيث اليحصبي من إفريقيَّة إلى مدينة باجة من الأندلس، ولَبِسَ السَّواد, وخطبَ للمنصور، واجتمع إليه خلقٌ كثيرٌ، فخرج إليه الأميرُ عبد الرحمن الداخل، فالتقيا بنواحي إشبيلية، ثم تحارَبا أيامًا، فانهزم العلاء وأصحابُه، وقُتِل منهم في المعركة سبعةُ آلاف، وقُتِل العلاء، وأُمِرَ بعضُ التجار بحمل رأسه ورؤوسِ جماعةٍ مِن مشاهير أصحابه إلى القيروان، وإلقائِها بالسوق سرًّا، ففعل ذلك، ثم حُمِلَ منها شيءٌ إلى مكة، فوصلت وكان بها المنصور، وكان مع الرؤوسِ لواءٌ أسوَدُ وكتاب كتبه المنصورُ للعلاء.
في هذا العام تكاملَ بناءُ بغداد، وكان السببُ الباعث للمنصور على بنائها أنَّ الراونديَّة لَمَّا وثبوا عليه بالكوفةِ ووقاه اللهُ شَرَّهم، بَقِيَت منهم بقيَّةٌ فخشيَ على جندِه منهم، فخرج من الكوفةِ يرتادُ لهم موضعًا لبناء مدينة، فسار في الأرض حتى بلغ الجزيرةَ، فلم يرَ موضعًا أحسنَ لوضعِ المدينة من موضعِ بغدادَ الذي هي فيه الآن؛ وذلك بأنه موضِعٌ يُغدى إليه ويُراحُ بخيراتِ ما حوله في البَرِّ والبحر، وهو مُحصَّنٌ بدجلة والفرات من هاهنا وهاهنا، لا يقدِرُ أحدٌ أن يتوصَّل إلى موضع الخليفة إلَّا على جسرٍ، وقد بات به المنصورُ قبل بنائِه لياليَ فرأى الرياحَ تهُبُّ به ليلًا ونهارًا من غير انجعارٍ ولا غبار، ورأى طِيبَ تلك البقعة وطِيبَ هوائها، وقد كان في موضِعها قُرًى ودُيور لعُبَّاد النصارى وغيرِهم، فحينئذ أمر المنصور باختطاطِها فرسموها له بالرَّمادِ، فمشى في طرقِها ومسالِكِها فأعجبه ذلك، ثم سلَّمَ كلَّ رَبعٍ منها لأميرٍ يقوم على بنائه، وأحضَرَ مِن كلِّ البلاد عمَّالًا وصنَّاعًا ومهندسين، فاجتمع عنده ألوفٌ منهم، ثم كان هو أوَّل من وضع لَبِنةً فيها بيده، وقال: بسمِ الله والحمد لله، والأرضُ لله يورثُها من يشاء من عبادِه، والعاقبة للمتَّقينَ. ثم قال: ابنُوا على بركةِ الله. وأمَرَ ببنائها مُدَوَّرةً سُمكُ سُورِها من أسفلِه خمسون ذراعًا، ومن أعلاه عشرونَ ذراعًا، وجعل لها ثمانيةَ أبواب في السُّور البرَّاني، ومثلها في الجُوَّاني، وليس كل واحد تجاهَ الآخر، ولكن جعَلَه أزْوَرَ عن الذي يليه، ولهذا سمِّيت بغداد الزَّوراء، لازوِرارِ أبوابِها بعضِها عن بعضٍ، وقيل: سمِّيت بذلك لانحرافِ دجلةَ عندها. وبنى قصرَ الإمارة في وسط البلد؛ ليكون الناسُ منه على حدٍّ سواءٍ، واختطَّ المسجِدَ الجامِعَ إلى جانب القصر، وكان الذي وضعَ قبلتَه الحجَّاجَ بن أرطأة.
فيها أغار أسترخان الخوارزمي في جمعٍ من التُّرك على المسلمين بناحية أرمينية، وسبى من المسلمين وأهلِ الذمَّة خلقًا، ودخلوا تفليس، وكان حربُ بن عبد الله مقيمًا بالموصِل في ألفينِ مِن الجند لمكان الخوارجِ الذين بالجزيرة، وسيَّرَ المنصور إلى محارَبة التُّرك جبرائيلَ بن يحيى وحَربَ بنَ عبد الله، فقاتلوهم، فهُزم جبرائيلُ وقُتِلَ حَربٌ، وقُتِل من أصحاب جبرائيلَ خلقٌ كثيرٌ.
خرج حسان بن مجالد بن يحيى بن مالك بن الأجدع الهمداني، وكان خروجُه بنواحي الموصِل بقريةٍ تُسمَّى بَافَخَّارى، قريب من الموصل على دجلة، فخرج إليه عسكرُ الموصِل، وعليها الصقر بن نجدة، فالتقَوا واقتَتلوا وانهزم عسكرُ الموصِل على الجِسر، وأحرق الخوارجُ أصحابُ حسَّان السوقَ هناك ونهبوه. ثم إنَّ حسانَ سار إلى الرقَّةِ ومنها إلى البحر ودخل إلى بلد السِّند، وكانت الخوارجُ مِن أهل عمان يُدخِلونَهم ويَدَعونهم، فاستأذَنَهم في المصير إليهم، فلم يجيبوه، فعاد إلى الموصِل، فخرج إليه الصقرُ أيضًا والحسَنُ بن صالح بن حسان الهمداني وبلال القيسي، فالتقَوا فانهزم الصقرُ وأُسِرَ الحسنُ بن صالح وبلال، فقتَل حسانُ بلالًا واستبقى الحسنَ؛ لأنَّه من همدان، ففارقه بعضُ أصحابه لهذا، وكان حسانُ قد أخذ رأيَ الخوارج عن خالِه حفصَ بنِ أشيم، وكان من علماء الخوارجِ وفُقَهائِهم، ولَمَّا بلغ المنصورَ خروجُ حَسَّان، قال: خارجيٌّ مِن همدان؟ قالوا: إنَّه ابن أخت حفص بن أشيم. فقال: فمن هناك؟ وإنَّما أنكر المنصورُ ذلك؛ لأن عامَّة همدان شيعةٌ لعليٍّ، وعزمَ المنصورُ على إنفاذ الجيوش إلى الموصِل والفَتكِ بأهلها، فأحضرَ أبا حنيفة، وابنَ أبي ليلى، وابنَ شبرمة، وقال لهم: إنَّ أهل الموصل شَرَطوا إليَّ أنَّهم لا يَخرُجون عليَّ، فإن فعلوا حلَّت دماؤهم وأموالهم، وقد خرجوا. فسكتَ أبو حنيفة وتكلَّم الرجُلانِ وقالا: رعِيَّتُك، فإنْ عَفَوتَ فأهلُ ذلك أنت، وإن عاقبتَ فبما يستحقُّون. فقال لأبي حنيفة: أراك سكتَّ يا شيخُ؟ فقال: يا أميرَ المؤمنين، أباحوك ما لا يملِكونَ، أرأيتَ لو أنَّ امرأةً أباحَت فرجَها بغير عقدِ نكاحٍ ومِلكِ يمينٍ، أكان يجوزُ أن تُوطأَ؟! قال: لا! وكفَّ عن أهل الموصل، وأمرَ أبا حنيفةَ وصاحِبَيه بالعودة إلى الكوفةِ.
نكث أصبهبذ طبرستان العهدَ الذي كان بينه وبين المسلمين، وقتلَ طائفةً ممَّن كان بطبرستان، فجهَّز إليه المنصورُ جيشًا بقيادة خازم بن خزيمة، وروحِ بن حاتم، ومعهم مرزوقٌ أبو الخصيب، مولى المنصور، فحاصَروه مدةً طويلة، فلما أعياهم فتحُ الحِصنِ احتالوا عليه، وذلك أنَّ أبا الخصيبِ قال: اضربوني واحلِقوا رأسي ولِحيتي، ففعلوا ذلك، فذهب إليه كأنَّه مُغاضِبٌ للمُسلِمينَ قد ضربوه وحلَقوا لحيتَه، فدخل الحِصنَ، وقال للأصبهبذ: إنَّما فعلوا ذلك بي تهمةً منهم لي أن يكونَ هوايَ معك, ففرح به الأصبهبذ وأكرَمَه وقَرَّبه، وجعل أبو الخصيب يُظهِرُ له النصحَ والخِدمةَ حتى خدَعَه، وحظِيَ عنده جدًّا وجعَلَه من جملةِ من يتولَّى فتحَ الحِصنِ وغَلْقَه، فلمَّا تمكَّنَ من ذلك كاتبَ المُسلمينَ وأعلَمَهم أنَّه سيفتحُ لهم البابَ في ليلةٍ محدَّدة، فلمَّا كانت تلك الليلةُ فتح لهم بابَ الحِصنِ فدخلوا فقتَلوا مَن فيه من المُقاتِلة وسَبَوا الذريَّة، وامتصَّ الأصبهبذ خاتمًا مسمومًا فمات. وكان فيمن أَسَروا يومئذ أمُّ منصور بن المهدي، وأم إبراهيم بن المهدي، وكانتا من بنات الملوك الحِسان.
لَمَّا بلغ المنصورَ خروجُ محمد بن الأشعث من إفريقيَّة بعث إلى الأغلب بن سالم بن عقال بن خفاجة التميمي عهدًا بولايةِ إفريقية، وكان هذا الأغلبُ ممَّن قام مع أبي مسلم الخُراساني وقَدِم إفريقيَّةَ مع محمد بن الأشعث، فلما أتاه العهد قَدِم القيروانَ وأخرج جماعةً من قوَّاد المُضَريَّة، وسكن النَّاس. ثم خرج عليه أبو قرَّة في جمع كثير من البربر، فسار إليه الأغلبُ، فهرَبَ أبو قرَّة من غير قتال، ثم خرج عليه الحسَنُ بن حرب الكِندي، وكاتبَ جُندَ القيروان ودعاهم إلى نفسِه فأجابوه، فسار حتى دخل القيروان من غير مانع, فسار الأغلبُ إلى الحسَن بن حَرْب، واقتتلوا قتالًا شديدًا، فانهزم الحسنُ وقُتل من أصحابه جمعٌ كثير، ودخَل الأغلبُ القيروان.
هو الإمام، الصَّادق، شيخ بني هاشم، أبو عبدالله جعفرُ بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، القرشي، الهاشمي، العلوي، النبوي، المدني، أحد الأعلام من التابعين, وكان يلقَّبُ بالصابر، والفاضِلِ، والطاهر، وأشهرُ ألقابه الصادِقُ، ولد سنة 80, وأمه أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق, وأمها: هي أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، ولهذا كان يقول: ولدني أبو بكر الصديق مرتين. قال الذهبي: "كان يغضب من الرافضة، ويمقتهم إذا علم أنهم يتعرضون لجده أبي بكر ظاهرا وباطنا, ثم قال: هذا لا ريب فيه، ولكن الرافضة قوم جهلة، قد هوى بهم الهوى في الهاوية، فبعدا لهم" وقال: "أن الصادق رأى بعض الصحابة، أحسبه رأى: أنس بن مالك، وسهل بن سعد".حاول المنصورُ أن يظفَرَ به، لكنَّه لم يقدِرْ عليه وانثنى عن ذلك، كان من أجلَّاء التابعين؛ فقيهًا عالِمًا جوادًا كريمًا زاهدا عابدا، قال ابن خلكان: " أحد الأئمة الاثني عشر على مذهب الإمامية، وكان من سادات أهل البيت ولقب بالصادق لصدقه في مقالته وفضلُه أشهر من أن يذكر، وله كلام في صنعة الكيمياء والزجر والفأل". أورد الذهبيُّ بإسنادٍ قال إنه صحيح، عن سالم بن أبي حفصة قال: "سألتُ أبا جعفرٍ محمدَ بنَ عليٍّ وابنَه جعفرًا عن أبي بكرٍ وعمر، فقالا: يا سالمُ، تولَّهَما وابرأْ مِن عدُوِّهما؛ فإنهما كانا إمامَيْ هُدًى. وقال لي جعفرٌ: يا سالم، أيسُبُّ الرجُلُ جَدَّه؟! أبو بكرٍ جَدِّي، فلا نالَتني شفاعةُ محمَّدٍ يومَ القيامة إن لم أكنْ أتولَّاهما وأبرأُ من عدوِّهما!" توفِّي في المدينة ودُفِنَ في البقيعِ.
فيها خرج أهل خراسان على المنصور مع الأستاذ سيس حتى اجتمع له فيما قيل ثلاثمئة ألف مقاتل من بين فارس وراجل، سائرُهم من أهل هراة وباذغيس وسجستان، واستولى على أكثر خراسان، وعَظُم الخطبُ فنهض لحربه الأخثم المروروذي. فقتل الأخثم واستُبيح عسكُره، فوجه المنصورُ- وهو بالراذان- خازمَ بن خزيمة إلى المهديِّ، فولَّاه المهدي محاربةَ أستاذ سيس وضمَّ إليه القُوَّاد. فسار حازم بن خزيمة في جيشٍ عظيم فالتقى الجمعان وصبَرَ الفريقان وقُتِلَ خلقٌ كثير، حتى قيل إنه قُتِلَ في هذه الوقعةِ سبعون ألفًا وأَسَروا أربعةَ عشر ألفًا، وانهزم الأستاذ سيس في طائفةٍ إلى جبل, ثم أمرَ حازم بالأسرى فضُرِبَت أعناقُهم كلِّهم، وكانوا أربعة عشر ألفًا، ثمَّ حاصر أستاذ سيس مدَّةً. ثم نزل على حُكمِهم، فقُيِّدَ هو وأولادُه، ثم أُعدم, وأُطلِقَ أصحابُه، وكانوا ثلاثينَ ألفًا. وكتب إلى المهديِّ بذلك، فكتب المهديُّ إلى المنصور، وقيل إن أستاذ سيس ادَّعى النبوةَ وأظهَرَ أصحابُه الفِسقَ وقطْعَ السبيلِ. وقيل: إنه جد الخليفة المأمون أبو أمه وهي مراجل بنت سيس كانت إحدى إيماء الرشيد أنجبت منه المأمون فقط.
هو الإمام، فقيه الملة، أبو حنيفة النُّعمانُ بنُ ثابت بن زوطى التيميُّ ولاءً، فقيهُ العراقِ إمامُ الحنفيَّة، أحد الأئمة الأربعة المشهورين أصحاب المذاهب المعروفة، يقال: إنه من أبناء الفرس ولد سنة 80, وكان حسن الوجه حسن المجلس، شديد الكرم حسن المواساة لإخوانه، وكان ربعة من الرجال، وقيل كان طوالا تعلوه سمرة،. أدرك أبو حنيفة أربعة من الصحابة، رضوان الله عليهم وهم: أنس بن مالك وعبد الله بن أبي أوفى بالكوفة، وسهل بن سعد الساعدي بالمدينة، وأبو الطفيل عامر بن واثلة بمكة، ولم يلق أحداً منهم ولا أخذ عنه، وأصحابه يقولون: لقي جماعة من الصحابة وروى عنهم، ولم يثبت ذلك عند أهل النقل. أخذ الفقه عن حماد بن أبي سليمان وسمع عطاء بن أبي رباح وهو أكبر شيخ له, وأبا إسحاق السبيعي ومحارب بن دثار والهيثم بن حبيب الصواف ومحمد بن المنكدر ونافعاً مولى عبد الله بن عمر، وكان معروفًا بالزهد والورَع وكثرة العبادة، والوقار والإخلاص وقوة الشخصيَّة، كثير التعطر، لا يتكلم إلا جوابا، ولا يخوض فيما لا يعنيه. قال ابن المبارك: ما رأيت رجلا أوقر في مجلسه، ولا أحسن سمتا وحلما من أبي حنيفة. كان خزازا يبيع الخز. قيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة فقال: نعم، رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته. لم يرضَ أن يليَ القَضاءَ لأحدٍ، وطلبه المنصورُ للقضاء فأبى، وكان منها حبسُه، وقيل: مات في الحبسِ ببغداد، قال إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة: "مررت مع أبي بالكناسة – موضع بالكوفة- فبكى، فقلت له: يا أبت ما يبكيك فقال: يا بني، في هذا الموضع ضرب ابن هبيرة أبي عشرة أيام، في كل يوم عشرة أسواط، على أن يلي القضاء، فلم يفعل". وقيل: إنَّه توفِّيَ وهو يصلِّي.
شرع المنصورُ في بناء الرصافة لابنه المهدي بعد مَقدَمِه من خراسان، وكان سبب بنائِها أنَّ بعضَ الجند شغَّبوا على المنصور وحاربوه على باب الذَّهبِ، فدخل عليه قُثَمُ بنُ العبَّاس، وهو شيخُهم، وله الحرمةُ والتقدُّم عندهم، فاستشاره المنصور، فقال له أن يتركَ الأمرَ له، فقام قُثَم بحيلةٍ فافترق الجند، فصارت مُضَرُ فِرقةً، وربيعةُ فرقة، والخراسانية فرقة. فقال قُثَم للمنصور: قد فرَّقتُ بين جُندِك وجعلتُهم أحزابًا، كلُّ حزبٍ منهم يخافُ أن يُحدِثَ عليك حدثًا فتضرِبَه بالحزبِ الآخر، وقد بقيَ عليك في التدبير بقيَّة، وهي أن تعبُرَ بابنِك المهدي فتُنزِلَه في ذلك الجانب، وتحَوِّل معه قطعةً من جيشِك فيصير ذلك بلدًا وهذا بلدًا، فإن فسدَ عليك أولئك ضربتَهم بهؤلاء، وإن فسدَ عليك هؤلاء ضربتَهم بأولئك، وإن فسد عليك بعضُ القبائل ضربتَهم بالقبيلة الأخرى (على مبدأ: فَرِّقْ تَسُد)، فقَبِلَ رأيه واستقام مُلكُه، وبنى الرصافة وهي في الجانب الشرقي من بغداد، وجعل لها سورًا وخندقًا، وعَمِلَ عندها ميدانًا وبستانًا، وأجرى إليها الماءَ مِن نهرِ المهدي
ثار في الشرق من الأندلس رجلٌ من بربر مكناسة، كان يعلِّمُ الصبيان، وكان اسمُه شقنا بن عبد الواحد، وكانت أمُّه تُسمى فاطمة، وادَّعى أنَّه من ولد فاطمةَ رَضِيَ الله عنها، ثم مِن ولَد الحُسين بن علي رضي الله عنهما، وتَسمَّى بعبد الله بن محمَّد، وسكن شنت برية، واجتمع عليه خلقٌ كثير من البربر، وعظُمَ أمرُه، وسار إلى عبد الرحمن الداخِل الأموي فلم يقِف له وراغ في الجبالِ، فكان إذا أمِنَ انبسط، وإذا خاف صَعِدَ الجبال بحيث يصعُبُ طَلبُه، فاستعمل عبد الرحمن على طليطِلة حبيبَ بن عبد الملك، فاستعمل حبيبٌ على شنت برية سليمانَ بنَ عثمان بن مروان بن أبان بن عثمان بن عفان، وأمَرَه بطلب شقنا. فنزل شقنا إلى شنت برية، وأخذ سليمانَ فقتله، واشتدَّ أمرُه، وطار ذِكرُه وغلب على ناحية قورية، وأفسدَ في الأرض فعاد عبد الرحمن الداخل فغزاه في سنة 152 بنفسِه، فلم يثبُتْ له فأعياه أمرُه، فعاد عنه وسيَّرَ إليه سنة ثلاث وخمسين بدرًا مولاه، فهَرَب شقنا وأخلى حصنَه شطران، ثم غزاه عبد الرحمن بنفسِه سنة 154، فلم يثبُتْ له شقنا، ثم سيَّرَ إليه سنة خمس وخمسين أبا عثمان عبيد الله بن عثمان، فخَدَعه شقنا وأفسد عليه جُندَه، فهرب عبيد الله، وغَنِم شقنا عسكرهَ وقتلَ جماعةً من بني أميَّة كانوا في العسكر. وفي سنة خمس وخمسين أيضًا سار شقنا بعد أن غَنِم عسكرَ عُبَيد الله إلى حصن الهواريين المعروف بمدائن، وبه عاملٌ لعبد الرحمن، فمكرَ به شقنا حتى خرج إليه، فقتله شقنا وأخذ خيلَه وسلاحَه وجميعَ ما كان معه، ثم بقي أمرُه مستمرًّا إلى أن اغتالَه بعضُ أصحابه سنة 160
هو العلامة، الحافظ، الأخباري أبو بكر، وقيل: أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن يسار بن خيار, القرشي, المدني, المطَّلِبي ولاءً، العلَّامة, الحافظ, الأخباري, صاحب "السيرة النبوية" وُلِدَ ابنُ إسحاق: سنةَ ثمانين. وقيل إنه رأى أنس بن مالك بالمدينة, انتقل من المدينة إلى بغداد وسكنَها، كان من أقدم المؤرخينَ، ومن أشهر مؤلَّفاته السيرةُ النبويَّة، وبها اشتُهِر، قيل: إنه ألَّفها بأمرٍ من المنصورِ، وقال الشافعي: إن النَّاسَ كلَّهم عيالٌ عليه في السيرة، قال أبو زرعة الدمشقي: "ابن إسحاق رجل قد اجتمع الكبراء من أهل العلم على الأخذ عنه، منهم: سفيان، وشعبة، وابن عيينة، والحمادان، وابن المبارك، وإبراهيم بن سعد, وروى عنه من القدماء: يزيد بن أبي حبيب، وقد اختبره أهل الحديث، فرأوا صدقا وخيرا، مع مدح ابن شهاب له". توفِّيَ في بغدادَ.
خرجَت الخوارجُ من الصفريَّة وغيرهم ببلاد إفريقية. فاجتمعَ منهم ثلاثمائة ألف وخمسون ألفًا، ما بين فارس وراجل، وعليهم أبو حاتم الأنماطي، وأبو عبَّاد وانضم إليهم أبو قرة الصفري في أربعين ألفًا، فقاتلوا نائبَ إفريقية فهَزَموا جيشَه وقتلوه، وهو عمَرُ بن حفص بن عثمان بن أبي صفرة الذي كان نائبَ السِّند، قتله هؤلاء الخوارجُ, وأكثرت الخوارجُ الفسادَ في البلاد، وقتلوا الحريمَ والأولاد، ثمَّ إن أبا جعفر المنصور سيَّرَ يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة إلى إفريقيةَ في خمسين ألفًا لحربِ الخوارجِ الذين قتلوا عُمَرَ بن حفص. فدخل يزيد بن حاتم إفريقيَّة، وقتَلَ أبا حاتم، وملَكَ القيروانَ وسائِرَ الغرب.