أمَرَ الحاكِمُ بأمْرِ اللهِ العُبَيديُّ، صاحبُ مِصرَ، بهَدمِ كَنيسةِ قمامة، وهي بالبيتِ المقَدَّس، وتُسَمِّيها العامَّةُ كنيسةَ القيامة، وإليها يحُجُّونَ مِن أقطارِ الأرض، وأمَرَ بهَدمِ البِيَعِ في جميعِ مَملكَتِه، فهُدِّمَت في هذه السَّنَة عِدَّةُ كنائِسَ ببلادِ مِصرَ، ونودِيَ في النَّصارى: من أحَبَّ الدُّخولَ في دينِ الإسلامِ دخَلَ، ومَن لا يَدخُل فلْيَرجِعْ إلى بلاد الرُّومِ آمِنًا، ومن أقام منهم على دينِه فلْيَلتزِمْ بما يُشرَطُ عليهم من الشُّروطِ التي زادها الحاكِمُ على العُمَرِيَّة، من تعليقِ الصُّلبانِ على صُدورِهم، وأن يكونَ الصَّليبُ مِن خَشَبٍ زِنتُه أربعةُ أرطال، وعلى اليهودِ تَعليقُ رأسِ العِجلِ زِنتُه ستَّة أرطال، وفي الحَمَّام يكونُ في عُنُقِ الواحِدِ منهم قِربةٌ زِنة خَمسة أرطال، بأجراسٍ، وأن لا يركَبوا خَيلًا، ثمَّ بعد هذا كُلِّه أمَرَ بإعادةِ بناءِ الكنائِسِ التي هَدَمَها وأذِنَ لِمَن أسلَمَ منهم في الارتدادِ إلى دينِه، وقال: نُنَزِّهُ مَساجِدَنا أن يدخُلَها من لا نِيَّةَ له، ولا يُعرَفُ باطِنُه!!
سار يَمينُ الدَّولة محمودُ بنُ سبكتكين الغزنوي، إلى شاطئِ نَهرِ هندمند، فلاقاه هناك إبرهمن بال بن إندبال في جيوشِ الهند، فاقتَتَلوا مليًّا، وكادت الهندُ تَظفَرُ بالمُسلمين، ثمَّ إنَّ الله تعالى نصَرَ عليهم، فظَفِرَ بهم المُسلمون، فانهزموا على أعقابِهم، وأخَذَهم المُسلِمونَ بالسَّيفِ، وتَبِعَ يمينُ الدَّولة أثَرَ إبرهمن بال، حتى بلغ قلعةَ بهيم نغر، وهي على جَبَلٍ عالٍ كان الهندُ قد جعلوها خِزانةً لصَنَمِهم الأعظَمِ، ينقُلونَ إليها أنواعَ الذَّخائِرِ قرنًا بعد قَرنٍ، وأعلاقَ الجواهِرِ، وهم يعتَقِدونَ ذلك دينًا وعبادةً، فاجتمع فيها على طُولِ الأزمانِ ما لم يُسمَعْ بمِثلِه، فنازَلَهم يمينُ الدَّولة وحصَرَهم وقاتَلَهم، فلمَّا رأى الهنودُ كثرةَ جَمعِه، وحِرصَهم على القتالِ، وزَحْفَهم إليهم مرَّةً بعدَ أخرى؛ خافوا وجَبُنوا، وطلبوا الأمانَ، وفتحوا بابَ الحِصنِ، ومَلَك المُسلِمونَ القلعةَ، وصَعِدَ يمينُ الدَّولة إليها في خواصِّ أصحابِه وثقاتِه، فأخَذَ منها من الجواهِرِ ما لا يُحَدُّ، ومِن الدراهِمِ تسعينَ ألفَ ألف درهمٍ شاهيَّة، ومن الأواني الذَّهبيَّات والفِضِّيَّات سبعَمئة ألفٍ وأربعَمِئَة مَنٍّ، وكان فيها بيتٌ مملوءٌ مِن فِضَّةٍ طولُه ثلاثون ذراعًا، وعَرضُه خمسة عشر ذراعًا، إلى غيرِ ذلك من الأمتِعةِ، وعاد إلى غزنة بهذه الغَنائِمِ، ففَرَش تلك الجواهِرَ في صَحنِ دارِه، وكان قد اجتمعَ عنده رسُلُ المُلوكِ، فأدخَلَهم إليه، فرأوا ما لم يَسمَعوا بمِثلِه.
هو العلَّامةُ البليغُ، أبو الفَضلِ الحافِظُ أحمدُ بنُ الحُسَينِ بن يحيى الهَمَذانيُّ، الملقَّبُ ببديعِ الزَّمان، صاحِبُ الرَّسائِلِ الرَّائقة، والمقامات الفائِقة، اختَرَع نمطًا من الإنشاءِ عُرِفَ باسمِه، وعلى مِنوالِه نَسَجَ الحَريريُّ مَقاماتِه واحتَذى حَذوَه واقتفى أثَرَه، واعتَرَف في خُطبتِه بفَضلِه، وأنَّه الذي أرشَدَه إلى سُلوكِ ذلك المَنهَجِ، وهو أحَدُ الفُضَلاءِ الفُصَحاء. وُلِدَ في همذان وانتقَلَ إلى هراة سنة 380هـ فسكَنَها، سار إلى نيسابورَ وناظَرَ فيها أبا بكرٍ الخوارزميَّ فغَلَبَه بديعُ الزمانِ، فاشتَهَر بعدَها أكثَرَ، كان قويَّ الحافظةِ يحفَظُ القصائِدَ مِن أوَّلِ مَرَّة، له رسائِلُ ودِيوانُ شِعرٍ، قال عنه ابنُ خَلِّكانَ: "كان صاحِبَ عجائِبَ وبدائِعَ وغرائِبَ، فمنها: أنَّه كان يُنشَدُ القَصيدةَ لم يَسمَعْها قَطُّ وهي أكثَرُ مِن خمسينَ بيتًا فيحفَظُها كُلَّها ويؤَدِّيها مِن أوَّلِها إلى آخِرِها لا يَخرِمُ حَرفًا، وينظُرُ في الأربَعِ والخَمسِ الأوراقِ مِن كتابٍ لم يَعرِفْه ولم يَرَه مِن قَبلُ نَظرةً واحدةً خَفيفةً، ثمَّ يَهُذُّها عن ظَهرِ قَلبِه هَذًّا ويَسردُها سَردًا، وكان يُقتَرَحُ عليه عمَلُ قَصيدةٍ أو إنشاءُ رِسالةٍ في معنًى بديعٍ وبابٍ غَريبٍ، فيَفرُغُ منها في الوَقتِ والسَّاعةِ والجواب عنها فيها، وكان ربَّما يكتُبُ الكتابَ المُقتَرَح عليه فيَبتَدِئ بآخِرِ سُطورِه إلى السَّطرِ الأوَّلِ فيُخرِجُه كأحسَنِ شَيءٍ وأملَحِه، وكان مع هذا كُلِّه مَقبولَ الصُّورةِ خَفيفَ الرُّوحِ، حَسَنَ العِشرةِ، شَريفَ النَّفسِ، كريمَ العَهدِ، خالصَ الوُدِّ، حُلوَ الصَّداقةِ، مُرَّ العَداوة. كانت بينه وبينَ الخوارزميِّ مُنافرةٌ ومُناكَرةٌ ومُناظرةٌ بكَّتَه البديعُ فيها وأسكَتَه. تصَرَّفَت به أحوالٌ جميلةٌ وأسفارٌ كثيرةٌ، ولم يَبْقَ مِن بلادِ خُراسان وسجستان وغزنة بلدةُ إلَّا دخَلَها وجَنى ثَمرتَها واستفاد خَيرَها ومِيرَها، وألقى عصاه بهراة واتخَذَها دارَ قَرارِه ومَجمَعَ أسبابِه، وحين بلَغَ أشُدَّه وأربى على الأربعينَ سَنةً ناداه اللهُ فلَبَّاه وفارَقَ دنياه، فقامت عليه نوادِبُ الأدَبِ وانثَلَمَ حَدُّ القَلَم، على أنَّه ما مات مَن لم يَمُتْ ذِكْرُه، ولقد خَلَّدَ مَن بقي على الأيَّامِ نَثْرَه ونَظْمَه، ما هو غِذاءُ القَلبِ وقُوتُ النَّفسِ ومادَّة الأنس". توفِّيَ في هراة مسمومًا ولم يتجاوَز الأربعينَ مِن عُمُره، ويقالُ: إنَّه سُمَّ فأخَذَتْه سَكتةٌ، فدُفِنَ سَريعًا، ثمَّ عاش في قَبرِه، وسمعوا صُراخَه فنَبَشوا عنه فإذا هو قد مات وهو آخِذٌ على لحيتِه مِن هَولِ القَبرِ، وذلك يومَ الجُمُعةِ الحادي عشَرَ مِن جمادى الآخرة منها.
جَرَت فِتنةٌ بين السُّنَّة والرافضة، سَبَبُها أنَّ بعضَ الهاشميِّينَ قصد أبا عبدِ اللهِ مُحَمَّدَ بنَ النُّعمانِ المعروفَ بابنِ المُعَلِّم، كان فقيهَ الشِّيعةِ في مسجِدِه بدرب رباح، فعَرَض له بالسَّبِّ، فثار أصحابُه له، واستنفَرَ أصحاب الكَرخِ، وصاروا إلى دار القاضي أبي محمَّدٍ الأكفاني والشيخ أبي حامدٍ الإسفرايينيِّ، وجَرَت فِتنةٌ عظيمة طويلة، وأحضَرَت الشِّيعةُ مُصحَفًا ذكَروا أنَّه مُصحَفُ عبدِ الله بن مسعود، وهو مخالِفٌ للمصاحِفِ كُلِّها، فجمَعَ الأشرافُ والقُضاةُ والفُقَهاءُ في يومِ جُمُعة لليلة بَقِيَت من رجب، وعُرِضَ المُصحَفُ عليهم فأشار الشيخ أبو حامدٍ اللإسفراييني والفُقَهاء بتحريقه، ففعل ذلك بمحضَرٍ منهم، فغَضِبَ الشيعةُ مِن ذلك غضبًا شديدًا، وجعلوا يَدعونَ ليلةَ النِّصفِ مِن شعبان على مَن فعَلَ ذلك ويَسُبُّونَه، وقصَدَ جماعةٌ مِن أحداثِهم دارَ الشَّيخِ الإسفرايينيِّ ليُؤذوه، فانتقل منها إلى دار القطن، وصاحوا يا حاكِمُ يا منصورُ، وبلغ ذلك الخليفةَ فغَضِبَ وبَعَث أعوانَه لنُصرةِ أهلِ السُّنَّة، فحُرِّقَت دورٌ كثيرة مِن دُورِ الشِّيعة، وجَرَت خطوبٌ شديدة، وبعث عميدُ الجيوشِ إلى بغداد لينفيَ عنها ابنَ المُعَلِّم فقيه الشيعة، فأُخرِجَ منها ثمَّ شُفِّعَ فيه، ومنَعَ القُصَّاصَ مِن التعَرُّضِ لذِكرِ الشَّيخَينِ، وعليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِيَ الله عنهم، وعاد الشيخُ أبو حامد الإسفرايينيِّ إلى داره على عادتِه.
كان الحاكِمُ بأمرِ اللهِ العُبَيديُّ حالُه مُضطربةٌ في الجَورِ والعَدلِ، والإخافةِ والأمنِ، والنُّسُك والبِدعة, ومذهَبُه في الرَّفضِ مَعروفٌ. ولقد كان مضطرِبًا فيه، فكان يَأذَنُ في صلاةِ التَّراويحِ ثمَّ ينهي عنها، وكان يرى بعِلمِ النُّجومِ ويُؤثِرُه، ويُنقَلُ عنه أنَّه منع النِّساءَ مِن التصرُّفِ في الأسواقِ، ومنَعَ مِن أكلِ الملوخيَّا. ورُفِعَ إليه أنَّ جماعةً مِن الرَّوافِضِ تعرَّضوا لأهلِ السنَّةِ في التراويحِ بالرَّجمِ، وفي الجنائِزِ، فكتب في ذلك سجِلًّا قُرِئَ على المِنبَرِ بمِصرَ في رمضان، ورَدَ فيه: أمَّا بعدُ، فإنَّ أميرَ المؤمنينَ يتلو عليكم آيةً مِن كِتابِ اللهِ المُبينِ: {لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ} مضى أمسُ بما فيه، وأتى اليومُ بما يَقتَضيه. معاشِرَ المُسلِمينَ نحنُ الأئِمَّة، وأنتم الأمَّة. لا يحِلُّ قَتلُ مَن شَهِدَ الشَّهادَتينِ ولا يحلُّ عروةً بين اثنين تجمَعُها هذه الأخوَّة، عصم اللهُ بها من عَصَم، وحرَّم لها ما حرَّم، مِن كُلِّ مُحرًّمٍ مِن دمٍ ومالٍ ومَنكَحٍ، الصَّلاحُ والأصلَحُ بين الناسِ أصلَحُ، والفَسادُ والإفسادُ مِن العبَّادِ يُستقبَحُ. يُطوى ما كان فيما مضى فلا يُنشَر، ويُعرَض عَمَّا انقضى فلا يُذكَر. ولا يُقبَلُ على ما مرَّ وأدبَر من إجراءِ الأمورِ على ما كانت عليه في الأيَّام الخاليةِ؛ أيَّامَ آبائِنا الأئمَّة المُهتَدين. سلامُ الله عليهم أجمعين، يصومُ الصَّائِمونَ على حِسابِهم ويُفطِرون، ولا يُعارضُ أهل الرُّؤية فيما هم عليه صائِمون ويُفطِرون، وصلاةُ الخمسين للذين بما جاءهم فيها يُصَلُّون، وصلاةُ الضحى وصلاة التراويح لا مانِعَ لهم منها ولا هم عنها يُدفَعون، ويُخَمِّسُ في التكبير على الجنائِزِ المُخَمِّسون، ولا يُمنَعُ مِن التربيع عليها المُرَبِّعون؛ يُؤذِّنُ بحيَّ على خيرِ العَمَلِ المُؤذِّنون، ولا يُؤذَى مَن بها لا يُؤَذِّنون؛ لا يُسَبُّ أحَدٌ مِن السَّلَف، ولا يُحتَسَب على الواصِفِ فيهم بما يَصِف، والحالِفُ منهم بما حلف؛ لكُلِّ مُسلمٍ مُجتَهِدٍ في دينه اجتهادٌ، وفي يوم عيد الغديرِ مُنِعَ النَّاسُ مِن عَمَلِه". ودَرَسَت كنائِسُ كانت بطريقِ المكس وكنيسة بحارة الرُّوم من القاهرةِ ونُهِبَ ما فيها، وقُتِلَ في هذه الليلة كثيرٌ مِن الخَدَم والصَّقالبة والكُتَّاب، بعد أن قُطِعَت أيديهم بالسَّاطورِ على خشبةٍ مِن وسط الذِّراعِ.
وثبَ مُحمَّدُ بنُ هِشامِ بنِ عبد الجبَّار بنِ عبدِ الرَّحمنِ النَّاصر على الأميرِ هِشامِ المُؤَيَّد، ثمَّ خَلَعه وتسمَّى بالمهديِّ، وكان سبَبُ الخَلعِ هو ما قام به المؤَيَّد مِن تولِّيه العهدَ لعبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي عامر، فأمر المهديُّ بهَدمِ مدينةِ الزَّهراء مَعقِلِ بني عامر وسَلَّطَ العامَّةَ عليه فنهبوا ما فيه مِن الأموالِ والأمتعةِ، كما نَهَبوا دُورَ زُعَماء البربر بالرصافة، كما قام المهديُّ بحَجزِ المُؤَيَّد في دارِ أحدِ وُزَرائِه، وأعلن للنَّاسِ أنَّه مات وأخرَجَ لهم جُثَّةَ شابٍّ شَبيهٍ به، وصلَّى عليه ودفَنَه، وقيل: إنَّ هذا الشابَّ كان نصرانيًّا.
تحكَّمَ عبدُ المَلِك ابنُ أبي عامرٍ المُلَقَّبُ بالمُظَفَّر بأمرِ الأندلُسِ بعد أخيه المنصورِ، ثمَّ توفِّيَ المُظَفَّر وتولى أخوه عبدُ الرَّحمنِ المُلَقَّب بشنشول، الذي قام بإخراجِ هِشام المؤيَّد أميرِ الأندلس مِن مُعتَقَلِه, وأعاده إلى قَصرِه الزَّهراءِ، فتقَرَّبَ له حتى ولاه المؤيَّدُ ولايةَ العَهدِ بَعدَه، ولَقَّبه بالنَّاصِرِ المأمون، ثم سار عبدُ الرحمن للغزو. وخلالَ ذلك خُلِعَ هِشامٌ المُؤَيَّد، وبُويعَ لمحمَّدِ بنِ هِشامِ بن عبد الجبار وأمَرَ بإثباتِ كُلِّ مَن جاءه في الدِّيوان، فلم يبقَ زاهِدٌ ولا جاهِلٌ ولا حَجَّامٌ، حتى جاءه، فاجتمع له نحوٌ مِن خمسين ألف، وذَلَّت له الوُزَراءُ والصَّقالبة، وجاؤوا وبايعوه، وأمَرَ بنَهبِ دور بني عامرٍ، وانتهى جميعُ ما في الزهراء من الأموالِ والسِّلاح، حتى قُلِعَت الأبوابُ، فيُقالُ: إنَّ الذي وصلَ إلى خزانةِ ابن عبدِ الجبَّار خمسةُ آلافِ ألفِ دينارٍ، وخَمسُمِئَة ألفِ دينارٍ، ومن الفِضَّة ألفُ درهمٍ، ثم وَجَد بعد ذلك خوابي فيها ألفُ ألفٍ، ومِئَةُ ألفِ دينارٍ، وخُطِبَ لمحمَّدِ بنِ هشامٍ بالخِلافةِ بقُرطبة، وتسَمَّى بالمهديِّ، وقُطِعَت دعوةُ المُؤَيَّدِ، وصلَّى المهديُّ الجُمعةَ بالنَّاسِ، وقُرِئَ كتابٌ بلَعنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي عامرٍ المُلَقَّب بشنشول، ثمَّ سار إلى حَربِه إثرَ ذلك، وكان أمرُ ابنِ عبدِ الجبَّار يَقوى، وأمْرُ شنشول يَضعُفُ، وأصحابُه يَنخَذِلونَ عنه, وقد استعان بعَسكرٍ مِن الفِرنجِ، وقام معه ابنُ عومس القومص، فسار شنشول إلى قُرطبةَ، فقال له القومص: ارجعْ بنا قبل أن يدهَمَنا العدوُّ، فأبى، ومال إلى ديرِ شريس، جَوعانَ سَهرانَ، فنزل له الرَّاهِبُ بخُبزٍ ودجاجةٍ، فأكَلَ وشَرِبَ وسَكِرَ، وجاء لحَربِه حاجِبُ المهديِّ في خمسِمِئَة فارس، فجَدُّوا في السَّيرِ وقَبَضوا عليه، فقال: أنا في طاعةِ المَهديِّ، وظهَرَ منه جزَعٌ وذُلٌّ، وقَبَّل قَدَم الحاجِبِ، ثم ضُرِبَ عُنُقُ شنشول، ونودي عليه «هذا شنشول المأبونُ المخذول». فكانت هذه نهايةُ الدَّولة العامريَّة بالأندلُسِ.
تجهَّزَ يمينُ الدَّولةِ إلى الهندِ عازمًا على غَزوِها، فسار إليها واختَرَقها واستباحَها ونكَّسَ أصنامَها. فلمَّا رأى مَلِكُ الهِندِ أنَّه لا قُوَّةَ له به، راسَلَه في الصُّلحِ والهُدنةِ على مالٍ يؤدِّيه، وخمسينَ فيلًا، وأن يكونَ له في خِدمتِه ألفَا فارسٍ لا يزالون، فقَبَضَ منه ما بذَلَه، وعاد عنه إلى غزنةَ زهب مدينة من مدن قيرغيزستان ومركز مُقاطعة نارين أوبلاستي .
أنفَذَ الحاكِمُ العُبيديُّ الفاطميُّ إلى دارِ جَعفرِ بنِ مُحمَّدٍ الصادِقِ بالمدينةِ، فأخذ منها مُصحفًا وآلاتٍ كانت بها، وكان مع المُصحَفِ خَشَبٌ مُطَوَّقٌ بحديد وخيزران، وحَربةٌ وسريرٌ، حَمَلَ ذلك كُلَّه جماعةٌ مِن العَلَويِّينَ إلى الدِّيار المصرية، فأطلق لهم الحاكِمُ أنعامًا كثيرةً ونَفَقاتٍ زائدةً، وردَّ السَّريرَ وأخذ الباقيَ، وقال: أنا أحَقُّ به.
لَمَّا شاع صنيعُ الحاكِمِ في الأمورِ التي خرَقَ العاداتِ فيها، ودُعِيَ عليه في أعقابِ الصَّلواتِ وظُوهِرَ بذلك، أشفَقَ وخاف، وأمَرَ بعمارةِ دارِ العِلمِ وفَرَشَها، ونقل إليها الكُتُبَ العظيمةَ، وأسكَنَها مِن شُيوخِ السُّنَّة شَيخينِ، يُعرَفُ أحدُهما بأبي بكرٍ الأنطاكيِّ، وخلَعَ عليهما وقَرَّبَهما ورَسَم لهما بحضورِ مَجلِسِه ومُلازمتِه، وجمع الفُقَهاءَ والمُحَدِّثينَ إليها، وأمَرَ أن يُقرأَ بها فضائلُ الصَّحابة، ورَفَع عنهم الاعتراضَ في ذلك، وأظهَرَ المَيلَ إلى مذهَبِ الإمامِ مالكٍ والقَولَ به، ولَبِسَ الصُّوفَ في هذه السَّنةِ يومَ الجُمُعةِ عاشِرَ شَهرِ رَمَضان، ورَكِبَ الحِمارَ، وأظهَرَ النُّسُك وملأ كَفَّه دفاتِرَ، وخطَبَ بالنَّاسِ يومَ الجُمُعةِ وصلى بهم، ومنَعَ مِن أن يُخاطَبَ يا مولانا، ومِن تقبيلِ الأرضِ بينَ يديه، وأقام الرَّواتِبَ لِمَن يأوي المساجدَ مِن الفُقراءِ والقُرَّاء والغُرَباء وأبناءِ السَّبيل، وأجرى لهم الأرزاقَ، وأقام على ذلك ثلاثَ سنينَ، ثم بدا له بعد ذلك، فقَتَل الفقيهَ أبا بكرٍ الأنطاكيَّ والشيخَ الآخَرَ، وخَلْقًا كثيرًا آخَرَ مِن أهلِ السُّنَّةِ، لا لأمرٍ يقتضي ذلك، وفعَلَ ذلك كُلَّه في يومٍ واحد. وأغلق دارَ العِلمِ، ومنَعَ مِن جميعِ ما كان فعَلَه، وعاد إلى ما كان عليه أوَّلًا من قَتلِ العُلَماءِ والفُقَهاء، وأزيدَ.
استمَرَّ محمَّدُ بنُ هشامِ بنِ عبدِ الجبَّار بن عبد الرحمن النَّاصر المهدي في خِلافةِ الأندلُسِ، إلى أن خرجَ عليه سُلَيمانُ بنُ الحَكَم بنِ سليمان بن عبد الرحمن النَّاصر، فهرب المهديُّ مُحمَّدُ بنُ هشام، واستولى سُلَيمانُ على الخلافة في أوائِلِ شوَّال سنة 400هـ، ثم جمع المهديُّ مُحمَّدُ بنُ هشامٍ جمعًا وقصَدَ سُلَيمانَ بقُرطُبةَ، فهَرَب سُلَيمانُ وعاد المهديُّ إلى الخلافةِ في منتصف شوال، ثم اجتمَعَ كِبارُ العَسكَرِ وقبضوا على المهديِّ، وأخرجوا المؤيَّدَ مِن الحَبسِ، وأعادوه إلى الخلافةِ في سابِعَ ذي الحِجَّة من هذه السَّنة، وأحضروا المهديَّ بين يَدَيه، فأمَرَ بقَتلِه، فقُتِلَ، واستمَرَّ المؤيَّدُ في الخلافة، وقام بتدبيرِ أمْرِه واضِحُ العامريُّ، ثمَّ قبض المؤيَّدُ على واضحٍ العامريِّ وقَتَله، فكَثُرَت الفِتَنُ على المؤَيَّد، واتَّفَقَت البربرُ مع سليمانَ بنِ الحَكَمِ بنِ سُلَيمان بن عبد الرحمن الناصر، وسار وحَصَر المؤيَّدَ بقُرطُبة، ومَلَكَها سليمانُ عَنوةً، وأخرَجَ المُؤَيَّدَ من القَصرِ، ولم يتحَقَّقْ للمُؤَيَّد خَبَرٌ بعد ذلك، وبُويع لسُلَيمانَ بالخلافةِ في منتصف شوال من سنة ثلاث وأربعمِئَة، وتلَقَّب بالمستعين باللهِ.
كانت بلادُ الغورِ تُجاوِرُ غزنةَ، وكان الغور يقطعونَ الطَّريقَ، ويُخيفونَ السَّبيلَ، وبلادُهم جِبالٌ وَعرةٌ، ومضايقُ غَلقةٌ، وكانوا يحتَمون بها، ويعتَصِمون بصعوبةِ مَسلَكِها، فلمَّا كَثُرَ ذلك منهم أنِفَ يمينُ الدَّولة محمودُ بنُ سبكتكين أن يكونَ مثل أولئك المُفسدينَ جِيرانَه، وهم على هذه الحالِ مِن الفَسادِ والكُفرِ، فجمَعَ العساكِرَ وسار إليهم، وعلى مُقَدِّمتِه التونتاش الحاجِبُ، صاحِبُ هراة، وأرسلان الجاذبُ صاحِبُ طوس، وهما أكبَرُ أُمرائه، فسارا فيمَن معهما حتى انتَهَوا إلى مَضيقٍ قد شُحِنَ بالمُقاتلةِ، فتناوشوا الحَربَ، وصبَرَ الفريقانِ، فسَمِعَ يمينُ الدَّولة الحالَ، فجَدَّ في السيرِ إليهم، ومَلَك عليهم مَسالِكَهم، فتفَرَّقوا، وساروا إلى عظيمِ الغوريَّة المعروف بابن سوري، فانتهوا إلى مدينتِه التي تُدعى اهنكران، فبَرَز مِن المدينةِ في عشرةِ آلافِ مُقاتلٍ، فقاتَلَهم المُسلِمونَ إلى أن انتَصَف النهار، فرأوا أشجَعَ النَّاسِ وأقواهم على القِتالِ، فأمَرَ يمينُ الدَّولة أن يُولُّوهم الأدبارَ على سبيلِ الاستدراجِ، ففعلوا، فلمَّا رأى الغوريَّةُ ذلك ظَنُّوه هزيمةً، فاتَّبَعوهم حتى أبعَدوا عن مدينتِهم، فحينئذ عطفَ المُسلِمونَ عليهم ووَضَعوا السُّيوفَ فيهم فأبادوهم قَتلًا وأسْرًا، وكان في الأسرى كبيرُهم وزعيمُهم ابنُ سوري، ودخل المُسلِمونَ المدينةَ ومَلَكوها، وغَنِموا ما فيها، وفَتَحوا تلك القِلاعَ والحُصونَ التي لهم جميعَها، فلمَّا عايَنَ ابنُ سوري ما فعل المسلمونَ بهم شَرِبَ سُمًّا كان معه، فمات وأظهَرَ يمينُ الدَّولة في تلك الأعمالِ شِعارَ الإسلامِ، وجعل عندهم مَن يُعَلِّمُهم شَرائِعَه، ثمَّ عاد إلى غزنة.
هو العلَّامةُ أبو عُبَيدٍ أحمَدُ بنُ محمَّد بن أبي عُبَيد العَبديُّ الهَرويُّ الشافعيُّ اللُّغويُّ المؤدِّبُ، صاحِبُ "الغَريبَينِ" اللُّغويُّ البارِعُ، كان مِن أعلَمِ النَّاسِ في الأدَبِ واللُّغة. وكتابه "الغريبينِ في مَعرفةِ القُرآنِ والحديث" يدلُّ على اطِّلاعِه وتبحَرُّه في هذا الشأنِ، وكان من تلامذةِ أبي منصورٍ الأزهريِّ. قال ابن خَلِّكانَ: " سار كتابُه في الآفاقِ، وهو من الكتُبِ النافعةِ, وقيل: كان يحِبُّ البِذلةَ - البِذلةُ تركُ الاحتشامِ والتَّصوُّنِ، وتَدَنِّي السُّلوكِ- وكان يتناوَلُ في الخلوةِ، ويُعاشِرُ أهلَ الدبِّ في مجالِسِ اللَّذَّة والطَّرَب، عفا الله عنه وعنَّا, وأشار الباخرزي في ترجمة بعض أُدَباء خراسان إلى شَيءٍ مِن ذلك، والله أعلم ".
كُتِبَ ببغدادَ مَحضَرٌ يتضَمَّنُ الطَّعنَ والقَدحَ في نَسَبِ الفاطميِّينَ، وهم ملوكُ مِصرَ فليسُوا كذلك، وإنَّما نسَبُهم إلى عُبيدِ بنِ سَعدٍ الجَرميِّ، وكَتَب في ذلك جماعةٌ من العُلَماءِ والقُضاة والأشراف والعُدول، والصالحين والفُقهاء، والمحَدِّثين، وشَهِدوا جميعًا أنَّ الحاكِمَ بمِصرَ: منصورُ بنُ نِزارِ الملَقَّب بالحاكم- حَكَمَ اللهُ عليه بالبَوارِ والخِزيِ والدَّمارِ- بن مَعد بنِ إسماعيلَ بنِ عبد الله بن سعيد، لا أسعَدُه الله؛ فإنَّه لَمَّا صار إلى بلاد المغرِبِ تَسمَّى بعُبَيد الله، وتلَقَّب بالمهديِّ، وأنَّ مَن تقَدَّمَ مِن سَلَفِه أدعياءُ خوارِجُ، لا نسَبَ لهم في ولدِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، ولا يتعَلَّقونَ بسَببٍ، وأنَّه مُنَزَّهٌ عن باطلهم، وأنَّ الذي ادَّعَوه إليه باطِلٌ وزُورٌ، وأنَّهم لا يَعلَمونَ أحدًا مِن أهل بيوتاتِ عليِّ بنِ أبي طالب توقَّف عن إطلاقِ القَولِ في أنَّهم خوارِجُ كَذَبةٌ، وقد كان هذا الإنكارُ لباطِلِهم شائعًا في الحَرَمينِ، وفي أوَّلِ أمْرِهم بالمَغربِ مُنتشِرًا انتشارًا يمنع أن يُدَلَّسَ أمرُهم على أحدٍ، أو يذهَبَ وَهمٌ إلى تَصديقِهم فيما ادَّعوه، وأنَّ هذا الحاكِمَ بمِصرَ هو وسَلَفُه كُفَّارٌ فُسَّاقٌ فُجَّارٌ، مُلحِدون زنادِقة، مُعَطِّلون، وللإسلامِ جاحدون، ولِمَذهب المجوسيَّة والثنويَّة مُعتَقِدونَ، قد عطَّلوا الحُدودَ، وأباحوا الفُروجَ، وأحلُّوا الخَمرَ، وسَفَكوا الدِّماءَ، وسَبَوا الأنبياءَ، ولَعَنوا السَّلَف، وادَّعَوا الرُّبوبيَّة.
وقد كتَبَ خَطَّه في المَحضَرِ خَلقٌ كَثيرٌ؛ فمِن العَلَويِّينَ: الشَّريفُ المُرتضى وأخوه الرَّضِي، وابن البطحاويِّ العَلَوي، وابن الأزرق المُوسَوي، والزكي أبو يعلى عمرُ بن محمد، ومن القُضاة: ابنُ الأكفاني، وابن الخرزي، وأبو العبَّاسِ الأبيوردي، وأبو عبدِ اللهِ بنُ النُّعمان، فقيه الشيعة، ومِن الفُقَهاءِ: أبو حامدٍ الإسفرايينيِّ، والكشفلي، والقُدوري، والصيمري، وأبو عبد الله بن البيضاوي، وأبو الفَضلِ النَّسَوي، ومن الشُّهودِ: أبو القاسِمِ التَّنوخيُّ في كثيرٍ منهم، وكَتَبَ فيه خلقٌ كثيرٌ غيرَهم. قال أبو الفرجِ بنُ الجوزي: "وممَّا يدُلُّ على أنَّ هؤلاء أدعياءُ كَذَبةٌ، كما ذكَرَ هؤلاء السَّادة العُلَماء، والأئِمَّة الفُضَلاء، وأنَّهم لا نسَبَ لهم إلى عليِّ بن أبي طالب، ولا إلى فاطمةَ، كما يَزعُمونَ؛ قَولُ ابنِ عُمَرَ للحُسَينِ بنِ علي حين أراد الذَّهابَ إلى العراق، وذلك حين كتَبَ عَوامُّ أهلِ الكوفةِ بالبَيعةِ إليه، فقال له ابنُ عمر: لا تذهَبْ إليهم؛ فإني أخافُ عليك أن تُقتَلَ، وإنَّ جَدَّك قد خُيِّرَ بين الدنيا والآخرةِ فاختار الآخِرةَ على الدنيا، وأنت بَضعةٌ منه، وإنَّه- والله- لا تنالها لا أنت ولا أحَدٌ مِن خَلَفِك ولا مِن أهلِ بَيتِك، فهذا الكلامُ الحسَنُ الصَّحيحُ المتوَجِّه المعقول، من هذا الصَّحابيِّ الجليلِ، يقتضي أنَّه لا يلي الخلافةَ أحَدٌ مِن أهلِ البَيتِ إلَّا مُحمَّدُ بنُ عبد اللهِ المهديُّ الذي يكونُ في آخِرِ الزَّمانِ عندَ نُزولِ عيسى بنِ مريم؛ رغبةً بهم عن الدُّنيا، وألَّا يُدَنَّسوا بها. ومعلومٌ أنَّ هؤلاء قد مَلَكوا ديارَ مِصرَ مُدَّةً طَويلةً، فدَلَّ ذلك دَلالةً قَويَّةً ظاهِرةً على أنَّهم ليسوا مِن أهلِ البَيتِ، كما نَصَّ عليه سادةُ الفُقَهاءِ". قال ابن كثير: "وقد صَنَّف القاضي الباقلَّاني كتابًا في الردِّ على هؤلاء، وسَمَّاه: (كَشْف الأسرارِ وهَتْك الأستار) بيَّنَ فيه فضائِحَهم وقبائِحَهم، ووضَّحَ أمْرَهم لكُلِّ أحدٍ، ووضوحُ أمْرِهم يُنبئُ عن مطاوي أفعالِهم وأقوالِهم، وقد كان الباقلَّاني يقولُ في عبارته عنهم: هم قومٌ يُظهِرونَ الرَّفضَ، ويُبطِنونَ الكُفرَ المَحض". قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ: "وهؤلاء القومُ- يعني العُبَيديِّينَ- يَشهَدُ عليهم عُلَماءُ الأمَّةِ وأئمَّتُها وجماهيرُها أنَّهم كانوا مُنافِقينَ زَنادقةً، يُظهِرونَ الإسلامَ ويُبطِنونَ الكُفرَ, وقد عُلِمَ أنَّ جُمهورَ الأمَّة تَطعَنُ في نَسَبِهم، وَيذكُرونَ أنَّهم من أولادِ المجوسِ أو اليهودِ، هذا مشهورٌ مِن شهادةِ عُلَماءِ الطَّوائِفِ: من الحنفيَّة والمالكيَّة والشَّافعية والحنابلة وأهلِ الحديثِ، وأهلِ الكلامِ، وعُلَماءِ النَّسَبِ، والعامَّة وغيرهم, وهذا أمرٌ قد ذكَرَه عامَّةُ المُصَنِّفينَ لأخبارِ النَّاسِ وأيَّامِهم، حتى بعض مَن قد يتوقَّفُ في أمْرِهم، كابنِ الأثيرِ المَوصليِّ في تاريخِه، ونحوه؛ فإنَّه ذكَرَ ما كتَبَه عُلَماءُ المُسلِمينَ بخُطوطِهم في القَدحِ في نَسَبِهم"
في هذه السَّنةِ أَذِنَ فَخرُ الملك وزيرُ بهاء الدَّولة البُويهيِّ للرَّوافِضِ أن يَعمَلوا بِدعَتَهم الشَّنعاءَ، والفضيحةَ الصَّلعاءَ، من الانتحابِ والنَّوحِ والبُكاءِ، وتعليقِ المُسوح، وأن تُغلَقَ الأسواقُ مِن الصَّباحِ إلى المَساء، وأن تدورَ النِّساءُ حاسراتٍ عن وُجوهِهنَّ ورُؤوسِهنَّ، يَلطِمنَ خُدودَهنَّ، كفِعلِ الجاهليَّةِ الجهلاءِ، على الحُسَينِ بنِ عليٍّ رَضِيَ الله عنه.
كان مَلِكُ قصدار قد صالحَ يَمينَ الدَّولةِ محمودَ سبكتكين على مالٍ يُؤدِّيه إليه، ثمَّ قطَعَه اغتِرارًا بحَصانةِ بَلَدِه، وكَثرةِ المضايِقِ في الطريقِ، واحتمى بايلك الخان، وكان يمينُ الدَّولة يريدُ قَصْدَها، فيتَّقي ناحيةَ إيلك الخان، فلمَّا فَسَدَ ذاتُ بينهما صَمَّمَ العزمَ وقَصَدَها وتجَهَّزَ، وأظهَرَ أنَّه يريدُ هَراةَ، فسار مِن غزنةَ في جمادى الأولى، فلمَّا استَقَلَّ على الطريقِ، سار نحو قصدار، فسبَقَ خَبَرُه، وقطَعَ تلك المضايقَ والجبَل، فلم يشعُرْ صاحِبُها إلَّا وعسكَرُ يمينِ الدَّولة قد أحاط به ليلًا، فطلب الأمانَ فأجابه وأخَذَ منه المالَ الذي كان قد اجتمَعَ عنده، وأقَرَّه على ولايتِه وعاد.
تأسَّست إمارةُ بَني نجاح على أنقاضِ دولةِ بَني زيادٍ، أسَّسَها الأميرُ نجاحٌ، مَولى مُرجانَ الحَبشيِّ، حاجِبِ أميرِ بَني زيادٍ بعدَ انتهاءِ دولةِ بَني زيادٍ، فقَضى على مَولاه مُرجانَ وعلى مُنافِسِه نَفيسٍ، اللَّذيْنِ قتَلَا الأميرَ عبدَ اللهِ بنَ أبي الجيشِ آلَ زيادٍ. فأعلنَ نَفْسَه سُلطانًا على تِهامةَ، وضَبطَ الأميرُ نجاحٌ تِهامةَ ضَبطًا تامًّا، أمَّا الجبالُ التي كانت خاضِعةً لِأسلافِه فإنَّها أفلتت مِن يَدِه. وقامت صِراعاتٌ بينَ النَّجاحيِّينَ والصُّلَيحيِّينَ كثيرًا، وشرعَ نجاحٌ في مُراسلةِ الخَليفةِ العباسيِّ القادرِ باللهِ ببغدادَ مُعلنًا ولاءَه وطاعتَه لِلدولةِ العباسيةِ، فأجازَه بذلك ونعَتَه بالمُؤيَّدِ نَصيرِ الدِّينِ. وساعدَه في مُقاومةِ الصُّلَيحيِّينَ في الحُروبُ الطويلةِ والتقليديةِ التي قامت بينَ الدَّولتيْنِ طيلةَ عَهدَيْهما تقريبًا. وبعدَ مَقتَلِه بالسُّمِّ عامَ 452هـ عن طريقِ جاريةٍ جميلةٍ أهداها إليه علِيُّ بنُ محمدٍ الصُّلَيحيُّ استَولى بَنو صُلَيحٍ على المَدينةِ، وضَمُّوها إليهم حتى استرَدَّها سعيدُ بنُ نجاحٍ عامَ 473هـ-1080م. ولَمَّا كانَ أولادُ الأميرِ نجاحٍ عندَ مَوتِه دونَ البُلوغِ فإنَّه قامَ بالأمرِ عنهم مَولى أبيهم مُرجانُ الكَهلانيُّ.