جَمَعَ نِظامُ المُلْكِ، والسُّلطانُ ملكشاه، جَماعةً من أَعيانِ المُنَجِّمِين، وجَعَلوا النَّيْروزَ أَوَّلَ نُقطَةٍ من الحَمَل، وكان النَّيروزُ قبلَ ذلك عند حُلولِ الشمسِ نِصفَ الحُوتِ. وصار ما فَعلَه السُّلطانُ مَبدأَ التَّقاويمِ، وفيها أيضًا عُمِلَ الرَّصْدُ للسُّلطانِ ملكشاه، واجتَمعَ من أَعيانِ المُنَجِّمِينَ في عَمَلِه وخَرَجَ عليه من الأَموالِ شَيءٌ عَظيمٌ، وبَقِيَ الرَّصدُ دائِرًا إلى أن مات السُّلطانُ سَنةَ 485هـ، فبَطُلَ بعدَ مَوتِه.
وَقَعَت حَربٌ شَديدةٌ بين بَنِي رِياحٍ وزُغبةَ ببِلادِ إفريقية، فقَوِيَت بَنُو رِياحٍ على زُغبةَ فهَزَموهُم وأَخرَجوهُم عن البِلادِ, وهذه القَبائلُ هي التي شَجَّعَها المُستَنصِرُ بالله صاحبُ مصر العُبيديُّ سَنةَ 444هـ للانتِقالِ إلى أفريقية وأَطلَق يَدَها فيما تَحْتَلَّهُ من دِيارِها. نِكايةً بالمُعِزِّ بن باديس الصنهاجي الذي قَطعَ الخُطبةَ للمُستَنصِر العُبيديِّ وخَطبَ للخَليفةِ العبَّاسيِّ في أفريقية.
هو الخَليفةُ، أبو جَعفرٍ القائمُ بأَمرِ الله أَميرُ المؤمنين، عبدُ الله أبو جَعفرِ بن القادرِ بالله أبي العبَّاسِ أَحمدَ ابنِ الأَميرِ إسحاقَ بن المُقتَدِر بالله أبي الفَضلِ جَعفرِ بن المُعتَضِد بالله أبي العبَّاسِ أَحمدَ. وُلِدَ سَنةَ إحدى وتِسعينَ وثلاثِ مائة في نِصفِ ذي القعدةِ، وأُمُّهُ بَدرُ الدُّجَى الأرمنية. وقِيلَ: قَطْرُ النَّدَى، بَقِيَت إلى أَثناءِ خِلافَتِه. وكان مَليحًا وَسيمًا أَبيضَ بِحُمْرَةٍ، قَوِيَّ النَّفْسِ، دَيِّنًا وَرِعًا مُتصَدِّقًا. بُويِعَ يومَ مَوتِ أَبيهِ بِعَهْدٍ له منه في ذي الحجَّةِ، سَنةَ 422هـ. وله إحدى وثلاثون سَنةً، وأَبوهُ هو الذي لَقَّبَهُ: القائمَ بأَمرِ الله. كان من خِيارِ بَنِي العبَّاسِ دِينًا واعتِقادًا ودَولَةً، وقد امتُحِنَ من بَينِهم بفِتنَةِ البساسيري التي اقتَضَت إخراجَه من دارِه ومُفارَقَتَه أَهلَه وأَولادَه ووَطَنَه، فأَقامَ بحديثة عانة سَنةً كامِلةً ثم أَعادَ الله تعالى نِعمَتَه وخِلافَتَه على يَدِ السُّلطانِ طُغرلبك مَلِكِ الغُزِّ بعدَ أن استَنْهَضَه القائمُ. في صَفَر من هذه السَّنةِ مَرِضَ الخَليفةُ القائمُ بأَمرِ الله مَرضًا شَديدًا انتَفخَ منه حَلْقُه، وامتَنَع من الفَصْدِ، فلم يَزَل الوَزيرُ فَخرُ الدولةِ عليه حتى افتَصَدَ وانصَلَح الحالُ، وكان الناسُ قد انزَعَجوا ففَرِحوا بعافِيَتِه وفي شَعبانَ انفَجرَ فَصادُه، وخَرجَ منه دَمٌ كَثيرٌ ولم يَشعُر، فاستَيقظَ وقد ضَعُفَ وسَقطَت قُوَّتُه، فأَيقَنَ بالمَوتِ، فأَحضَر وَلِيَّ العَهْدِ، ووَصَّاهُ بوَصايا، وأَحضرَ النَّقيبين وقاضي القُضاةِ وغَيرَهم مع الوَزيرِ ابن جهير، وأَشهَدهُم على نَفسِه أنَّه جَعلَ ابنَ ابنِه أبا القاسمِ عبدَ الله بن محمدِ بن القائمِ بأَمرِ الله وَلِيَّ عَهْدِه, ولَقَّبَه: بالمُقتَدِي بأَمرِ الله، وكان أَبوهُ الذَّخيرَةُ محمدُ بن القائمِ قد تُوفِّي أيامَ القائمِ، ولم يكُن له غَيرُه، فأَيقنَ الناسُ بانقِراضِ نَسلِ القائمِ، وانتِقالِ الخِلافَةِ من البيتِ القادريِّ. وكان للذَّخيرَةِ جارِيةٌ تُسَمَّى أرجوان، فلمَّا ماتَ، ورَأَت أَباهُ قد جَزعَ ذَكرَت له أنَّها حامِلٌ، فتَعَلَّقَت الآمالُ بذلك الحَمْلِ. فوَلدَت هذا بعدَ مَوتِ أَبيهِ بسِتَّةِ أَشهُرٍ، فاشتَدَّ سُرورُ القائمِ به، وبالَغَ في الإشفاقِ عليه والمَحَبَّةِ له. وكان ابنَ أربعِ سِنين في فِتنَةِ البساسيري، فأَخفاهُ أَهلَهُ، وحَملَهُ أبو الغَنائمِ بن المحلبان إلى حرَّان، ولمَّا عاد القائمُ إلى بغداد أُعِيدَ المُقتدي، فلمَّا بَلغَ الحُلُمَ جَعلَهُ وَلِيَّ عَهْدِه، ولمَّا تُوفِّي القائمُ غَسَّلَهُ الشَّريفُ أبو جَعفرِ بن أبي موسى الهاشميُّ، وصلَّى عليه أبو القاسمِ المُقتدِي بأَمرِ الله، وكانت خِلافتُه أَربعًا وأَربعين سَنةً وثمانيةَ أَشهُر وأيامًا، ولمَّا تُوفِّي القائمُ بأَمرِ الله بُويِعَ المُقتدِي بأَمرِ الله عبدُ الله بن محمدِ بن القائمِ بالخِلافَةِ، وحَضرَ مُؤَيِّدُ المُلْكِ بن نِظامِ المُلْكِ، والوَزيرُ فَخرُ الدولةِ بن جهير وابنُه عَميدُ الدولةِ، والشيخُ أبو إسحاقَ، وأبو نَصرِ بن الصَّبَّاغِ، ونَقيبُ النُّقَباءِ طراد، والنَّقيبُ الطاهِرُ المعمر بن محمدٍ، وقاضي القُضاةِ أبو عبدِ الله الدَّامغاني، وغَيرُهم من الأَعيانِ والأماثِل، فبَايَعُوهُ، وقِيلَ: كان أَوَّلَ مَن بايَعهُ الشَّريفُ أبو جَعفرِ بن أبي موسى الهاشميُّ.
كان مِن أَوَّلِ أَعمالِ المُقتدِي بأَمرِ الله أنَّه أَمَرَ بإخراجِ المُفْسِداتِ مِن الخَواطِئ من بغداد، وأَمَرَهُنَّ أن يُنادِينَ على أَنفُسِهِنَّ بالعارِ والفَضيحَةِ، وخَرَّبَ الخَمَّاراتِ ودُورَ الزَّوانِي والمَغانِي، وأَسكنَهُنَّ الجانِبَ الغَربيَّ مع الذُّلِّ والصَّغارِ، وخَرَّبَ أبرجةَ الحمامِ، ومَنعَ اللَّعِبَ بها، وأَمرَ الناسَ باحتِرازِ عَوراتِهِم في الحَمَّاماتِ ومَنعَ أَصحابَ الحَمَّاماتِ أن يَصرِفوا فَضَلاتِها إلى دِجلَة، وأَلزَمَهم بحَفْرِ آبارٍ لتلك المِياهِ القَذِرَة صِيانةً لماءِ الشُّرْبِ.
في شوَّال وَقعَت نارٌ ببغداد في دُكَّانِ خَبَّازٍ بِنَهْرِ المُعَلَّى، فاحتَرقَت من السُّوقِ مائةٌ وثمانون دُكَّانًا سِوى الدُّورِ، ثم وَقعَت نارٌ في المَأمونِيَّة، ثم في الظَّفَرِيَّة، ثم في دَربِ المَطبَخِ، ثم في دارِ الخَليفَةِ، ثم في حَمَّامِ السمرقندي، ثم في بابِ الأزج ودَربِ خُراسان، ثم في الجانبِ الغربيِّ في نَهرِ طابق، ونَهرِ القلائين، والقطيعة، وبابِ البَصرَةِ، واحتَرقَ ما لا يُحصَى
أَرسلَ المُستَنصِرُ بالله الفاطِميُّ صاحبُ مصر، إلى صاحبِ مَكَّةَ ابنِ أبي هاشمٍ رِسالةً وهَدِيَّةً جَليلةً، وطَلبَ منه أن يُعيدَ له الخُطبةَ بمَكَّةَ، وقال: إن أَيْمانَك وعُهودَك كانت للقائمِ، وللسُّلطانِ ألب أرسلان، وقد ماتَا، فخَطَبَ به بمَكَّةَ وقَطعَ خُطبةَ المُقتَدِي، وكانت مُدَّةُ الخُطبَةِ العبَّاسيَّة بمَكَّةَ أربعَ سنين وخَمسةَ أَشهُر.
قام أبو بكرٍ محمدُ بن عبدِالعزيزِ المَنصورُ نائبُ يحيى المَأمونِ بن ذي النُّونِ في بلنسية بإعلانِ استِقلالِه فيها بعدَ أن بَلَغَه وَفاةُ يحيى المَأمونِ، وقام بمُحالَفَةِ ألفونسو السادس مَلِكِ قشتالة وليون وجيليقية مُقابِلَ دَفْعِ جِزْيَةٍ له، كما قام المُعتَمِدُ بن عبَّادٍ بانتِهازِ وَفاةِ يحيى المَأمونِ لِيُغِيرَ على قُرطُبة ويَستَولِي عليها ويَقتُل حاكِمَها ابنَ عُكاشةَ، وكان المأمونُ قد وَلَّاهُ عليها حينما احتَلَّها السَّنَةَ الماضيةَ وقَتَلَ الفَتحَ بنَ المُعتَمِد، أمَّا أحمدُ بن سُليمانَ بن هود أَميرُ سرقسطة والثغر الأعلى فاستَولَى على دانية وقَضَى على الدولةِ المُجاهِديَّة التي أَسَّسَها عامرٌ المُجاهِديُّ، وحَمَلَ أَميرَها عليَّ بنَ مُجاهدٍ إلى سرقسطة، وأمَّا عليٌّ المُرتَضَى أَميرُ الجزائرِ الشرقيَّةِ البليار فقد أَعلَن استِقلالَهُ فيها بعدَ سُقوطِ دانية بِيَدِ المُقتَدِر أحمدَ بنِ سُليمانَ بن هود.
جاء جَرادٌ في شَعبانَ بعَددِ الرَّملِ والحَصَا، فأَكلَ الغَلَّاتِ وآذَى الناسَ، وجاعوا فطُحِنَ الخَرُّوبُ بِدَقيقِ الدُّخْنِ فأَكلوهُ، ووَقعَ الوَباءُ، ثم مَنعَ اللهُ الجَرادَ من الفَسادِ، وكان يَمُرُّ ولا يَضُرُّ، فرَخُصَت الأَسعارُ، ووَقعَ غَلاءٌ شَديدٌ بدِمشق واستَمرَّ ثلاثَ سِنين.
في سَنةِ 463هـ مَلَكَ أتسز الرَّمْلَةَ، والبيتَ المُقدَّسَ، وحَصرَ مَدينةَ دِمشقَ، فلمَّا عادَ عنها جَعلَ يَقصِد أَعمالَها كلَّ سَنةٍ عند إدراكِ الغَلَّاتِ فيَأخُذها، فيَقوَى هو وعَسكرُه، ويَضعُف أَهلُ دِمشقَ وجُندُها، فلمَّا كان رَمضانُ سَنةَ 467هـ سار إلى دِمشقَ فحَصرَها، وأَميرُها المُعَلَّى بن حَيدرَة مِن قِبَلِ المُستَنصِر العُبيدي صاحبِ مصر، فلم يَقدِر عليها، فانصَرفَ عنها في شوَّال، فهَربَ أَميرُها المُعلَّى في ذي الحجَّةِ، وكان سببُ هَرَبِه أنَّه أَساءَ السِّيرَةَ مع الجُنْدِ والرَّعِيَّةِ وظَلَمَهم، فكَثُرَ الدُّعاءُ عليه، وثار به العَسكرُ، وأَعانَهُم العامَّةُ، فهَرَبَ منها إلى بانياس، ثم منها إلى صور، ثم أُخِذَ إلى مصر فحُبِسَ بها، فماتَ مَحبوسًا، فلمَّا هَربَ من دِمشقَ اجتَمعَت المصامدة -والمصامدة قَبيلَة من المَغارِبَة- ووَلَّوْا عليهم انتِصارَ بنَ يحيى المَصموديَّ، المَعروف برَزِينِ الدَّولةِ، وغَلَت الأَسعارُ بها حتى أَكلَ الناسُ بَعضُهم بَعضًا، ووَقعَ الخُلْفُ بين المصامدة وأَحداثِ البَلدِ، وعَرفَ أتسز ذلك، فعادَ إلى دِمشقَ، فنَزلَ عليها في شَعبانَ من هذه السَّنَةِ، فحَصرَها، فعُدِمَت الأَقواتُ، فبِيعَت الغرارة، إذا وُجِدَت، بأَكثرَ من عِشرين دِينارًا، فسَلَّموها إليه بأَمانٍ، وعوض عنها بقَلعَةِ بانياس، ومَدينةِ يافا من الساحِلِ، ودَخلَها هو وعَسكرُه في ذي القعدةِ، وخَطَبَ بها يومَ الجُمعةِ لخَمسٍ بَقِينَ من ذي القعدةِ، للمُقتدِي بأَمرِ الله الخَليفةِ العبَّاسيِّ، وكان آخرَ ما خُطِبَ فيها للعَلويِّينَ المِصريِّينَ، ومَنَعَ الأذانَ بحيَّ على خَيرِ العَمَلِ، ففَرِحَ أَهلُها به فَرَحًا عَظيمًا، وتَغَلَّبَ على أَكثرِ الشامِ وعَظُمَ شَأنُه، وخافَهُ المِصريُّونَ، وظَلَمَ أَهلَها، وأَساءَ السِّيرَةَ فيهم. حتى أَهلَكَ الناسَ وأَفقَرَهُم.
لما انتَزعَ المَلِكُ المُعَظَّمُ أتسز بن أوف الخوارزمي دِمشقَ من أَيدِي العُبيديِّين سَنةَ 468هـ، شَرعَ في بِناءِ هذا الحِصْنِ المَنيعِ بدِمشقَ وكان في مكانِ القَلعةِ -أَحَدِ أَبوابِ البَلدِ- بابٌ يُعرفُ ببابِ الحَديدِ، وهو البابُ المُقابلُ لدارِ رضوان، وقد ارتَفعَ بعضُ أَبرجتِها فلم يتَكامل حتى انتَزعَ مُلْكَ البَلدِ منه المَلِكُ المُظفَّرُ تاجُ المُلوكِ تتش بن ألب أرسلان السلجوقي، فأَكمَلَها وأَحسنَ عِمارَتَها، وابتَنَى بها دارَ رضوان للمُلْكِ، واستَمرَّت على ذلك البِناءِ في أيامِ نورِ الدِّين محمودِ بن زِنكي، فلمَّا كان المَلِكُ صَلاحُ الدِّينِ بن يُوسفَ بن أيوبَ الأيوبيُّ جَدَّدَ فيها شَيئًا، وابتَنَى له نائِبُه ابنُ مُقدَّمٍ فيها دارًا هائِلةً لمملكة للمَملكةِ، ثم إنَّ المَلِكَ العادلَ أخا صلاحِ الدِّينِ، اقتَسمَ هو وأولادُه أَبرجتَها، فبَنَى كلُّ مَلِكٍ منهم بُرْجًا منها جَدَّدَهُ وعَلَّاهُ وأَطَّدَهُ وأَكَّدَهُ، ثم جَدَّدَ المَلِكُ الظَّاهِرُ بِيبَرسُ منها البُرجَ الغربيَّ القِبليَّ، ثم ابتَنَى بعده في دَولةِ المَلِكِ الأَشرفِ خليلِ بن المنصورِ، نائِبُه الشُّجاعيُّ، الطارمةَ الشماليَّةَ والقُبَّةَ الزَّرقاءَ وما حولَها.
سار أتسز –ويُقال: أقسيس- الخوارزميُّ التُّركيُّ من دِمشقَ إلى مصر وحَصرَها، وضَيَّقَ على أَهلِها، ولم يَبقَ غير أن يَملِكَها، فاجتَمعَ أَهلُها مع ابنِ الجوهريِّ الواعظِ في الجامعِ، وبَكَوا وتَضرَّعوا ودَعَوا، فانهَزمَ أتسز من غيرِ قِتالٍ، فوَصلَ إلى دِمشقَ وقد تَفرَّق أَصحابُه، فرَأَى أَهلَها قد صانوا مُخَلَّفِيهِ وأَموالَه، فشَكرَهُم، ورَفعَ عنهم الخَراجَ تلك السَّنَةَ، وأَتَى البَيتَ المُقدَّسَ، فرَأَى أَهلَه قد قَبَّحُوا على أَصحابِه ومُخَلَّفِيهِ، وحَصَروهُم في مِحرابِ داودَ، عليه السَّلامُ، فلمَّا قارَبَ البلدَ تَحصَّن أَهلُه منه وسَبُّوهُ، فقاتَلَهم، ففَتحَ البلدَ عُنوةً ونَهَبَهُ، وقَتلَ مِن أَهلِه فأَكثَرَ حتى قَتَلَ مَن التَجأَ إلى المَسجدِ الأقصى، وكَفَّ عمَّن كان عند الصَّخرةِ وَحدَها. وقِيلَ: إن أتسز لمَّا وَصلَ مصر, جَمعَ أَميرَ الجُيوشِ بَدرَ العَساكرِ، واستَمدَّ العَربَ وغيرَهم من أَهلِ البِلادِ، فاجتَمعَ معه خَلْقٌ كَثيرٌ، واقتَتَلوا، فانهَزمَ أتسز، وقُتِلَ أَكثرُ أَصحابِه، وقُتِلَ أَخٌ له، وقُطِعَت يَدُ أَخٍ آخرَ، وعادَ مُنهزِمًا إلى الشامِ في نَفَرٍ قَليلٍ من عَسكرِه، فوَصلَ إلى الرَّملةِ، ثم سار منها إلى دِمشقَ، وقِيلَ: إن أتسز انهَزمَ في مصر وعاد منها بدون قِتالٍ.
قَدِم ابنُ القُشيريُّ بغدادَ فجَلسَ يَتكلَّم في النِّظاميَّةِ وأَخذَ يَذُمُّ الحَنابلةَ ويَنسُبُهم إلى التَّجسِيمِ، وساعَدهُ أبو سعدٍ الصُّوفيُّ، ومالَ معه الشيخُ أبو إسحاقَ الشِّيرازيُّ، وكَتبَ إلى نِظامِ المُلْكِ يَشكُو إليه الحَنابلةَ ويَسأَلُه المَعونةَ عليهم، وذَهبَ جَماعةٌ إلى الشَّريفِ أبي جَعفرِ بن أبي موسى شَيخِ الحَنابلةِ، وهو في مَسجدِه فدافَعَ عنه آخرون، واقتَتَل الناسُ بسَببِ ذلك، وقُتِلَ رَجلٌ خَيَّاطٌ من سُوقِ التِّبنِ، وجُرِحَ آخرون، وثارَت الفِتنةُ بين الحَنابلَةِ وبين فُقهاءِ النِّظاميَّةِ، وحَمِيَ لكلٍّ مِن الفَريقينِ طائفةٌ من العوامِّ، وقُتِلَ بينهم نحوٌ من عِشرينَ قَتيلًا، وكَتبَ الشيخُ أبو إسحاقَ وأبو بكرٍ الشاشيُّ إلى نِظامِ المُلْكِ في كِتابِه إلى فَخرِ الدولةِ يُنكِر ما وَقعَ، ويَكرَهُ أن يُنسَب إلى المَدرسةِ التي بناها شيءٌ من ذلك، وعَزمَ الشيخُ أبو إسحاقَ على الرِّحلَةِ من بغدادَ غَضَبًا ممَّا وَقعَ من الشَّرِّ، فأَرسلَ إليه الخَليفةُ يُسَكِّنُهُ، ثم جَمعَ بينه وبين الشَّريفِ أبي جعفرٍ وأبي سعدٍ الصُّوفيِّ، وأبي نصرِ بنِ القُشيريِّ، عند الوَزيرِ، فأَقبلَ الوَزيرُ على أبي جعفرٍ يُعَظِّمُهُ في الفِعالِ والمَقالِ، وقام إليه الشيخُ أبو إسحاقَ فقال: أنا ذلك الذي كنتَ تَعرِفُه وأنا شابٌّ، وهذه كُتُبِي في الأُصُولِ، ما أقولُ فيها خِلافًا للأَشعَرِيَّةِ. ثم قَبَّلَ رَأسَ أبي جَعفرٍ، فقال له أبو جَعفرٍ: صَدقتَ، إلَّا أنَّك لمَّا كُنتَ فَقيرًا لم تُظهِر لنا ما في نَفسِك، فلمَّا جاءَ الأَعوانُ والسُّلطانُ وخواجه بزك - يعني نِظام المُلْكِ- وشَبِعتَ، أَبدَيتَ ما كان مُختَفِيًا في نَفسِك، وقام الشيخُ أبو سعدٍ الصُّوفيُّ وقَبَّلَ رَأسَ الشَّريفِ أبي جَعفرٍ أيضًا وتَلطَّفَ به، فالتَفتَ إليه مُغضَبًا وقال: أيها الشيخُ، أمَّا الفُقهاءُ إذا تَكلَّموا في مَسائلِ الأُصولِ فلهم فيها مَدخَلٌ، وأمَّا أنت فصاحِبُ لَهْوٍ وسَماعٍ وتَغْبِيرٍ، فمَن زاحَمَكَ مِنَّا على باطلِك؟! ثم قال: أيها الوَزيرُ أَنَّى تُصلِح بيننا؟ وكيف يَقعُ بيننا صُلْحٌ ونحن نُوجِبُ ما نَعتَقِدُه وهُم يُحَرِّمُون ويُكَفِّرُون؟! وهذا جَدُّ الخَليفةِ القائم والقادر قد أَظهرَا اعتِقادَهُما للناسِ على رُؤوسِ الأَشهادِ على مَذهبِ أَهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ والسَّلَفِ، ونحن على ذلك كما وَافقَ عليه العِراقِيُّونَ والخُراسانِيُّونَ، وقُرِئَ على الناسِ في الدَّواوينِ كلِّها، فأَرسلَ الوَزيرُ إلى الخَليفةِ يُعلِمُه بما جَرَى، فجاءَ الجَوابُ بِشُكرِ الجَماعةِ وخُصوصًا الشَّريفَ أبا جَعفرٍ، ثم استَدعَى الخَليفةُ أبا جَعفرٍ إلى دارِ الخِلافةِ للسلامِ عليه، والتَّبَرُّكِ بِدُعائِه.
كان أَوَّلَهم محمدُ خوارزم شاه بن أنوشتكين، وكان أنوش تكين مَملوكًا لِرَجلٍ من غرشتان ولذلك قِيلَ له: أنوش تكين غرشه، فاشتَراهُ منه أَميرٌ من السَّلجوقيَّة اسمُه بلكابل، وكان أنوشتكين حَسَنَ الطَّريقةِ فكَبُرَ وعَلَا مَحِلُّهُ، وصار أنوشتكين مُقَدَّمًا مَرجُوعًا إليه، ووُلِدَ له محمد خوارزم شاه المذكور، فرَبَّاهُ والِدُه أنوشتكين وأَحسَنَ تَأدِيبَه، فانتَشَأ محمدٌ عارِفًا أَدِيبًا، وتَقدَّم بالعِنايَةِ الأَزَلِيَّةِ، واشتُهِرَ بالكِفايَةِ وحُسْنِ التَّدبيرِ، فلمَّا قَدِمَ الأَميرُ داذا الحبشيُّ إلى خُراسان وهو مِن أُمراءِ بركيارق؛ كان قد أَرسلَهُ بركيارق لِتَهدِئَةِ أَمرِ خُراسان؛ بسَببِ فِتنَةٍ كانت قد وَقعَت فيها من الأَتراكِ، قُتِلَ فيها النائِبُ علي خوارزم، فوَصلَ داذا وأَصلحَ أَمرَ خوارزم، واستَعملَ على خوارزم في هذه السَّنَةِ محمدَ بن أنوشتكين المذكورَ، ولَقَّبَهُ خوارزم فقَصَرَ محمدٌ أَوقاتَهُ على مَعْدَلَةٍ يَنشُرُها ومَكْرَمَةٍ يَفعلُها، وقَرَّبَ أَهلَ العِلمِ والدِّينِ، فَعَلَا مَحِلُّهُ وعَظُمَ ذِكرُه، ثم أَقَرَّهُ السُّلطانُ سنجر على وِلايَةِ خوارزم، وعَظُمَت مَنزِلَةُ محمد خوارزم شاه المذكور عند السُّلطانِ سنجر، ولمَّا تُوفِّي خوارزم شاه محمد، وَلِيَ بعدَه ابنُه أطسز فمَدَّ غِلالَ الأَمنِ وأَفاضَ العَدلَ.
انتَصرَ عليهم عبدُ الله العيوني بمُساعدَةِ العبَّاسيِّين والسَّلاجِقَةِ فأَخرَجَهُم من أوال ثم من البَحرَيْنِ، وأخيرًا حَدثَت في الأَحساءِ مَعركةُ الخَندَقِ فقَضَت على دَولةِ القَرامِطَةِ نِهائِيًّا، وحَلَّت مَحِلَّها الدَّولةُ العيونيَّةُ. والعيوني، مِن بَنِي عبدِ القَيْسِ: رَأسُ العيونيين في الأَحساءِ، نَشأَ بها، في مشارف "العيون" ونِسْبَتُه إليها. وأَدرَك ضَعْفَ القِرامِطَةِ فيها، فاتَّصلَ ببغداد (سَنةَ 466هـ) وشَرحَ أَمرَهم لِجَلالِ الدَّولةِ أبي الفَتحِ ملكشاه السلجوقي، والخَليفةُ يومئذٍ أبو جَعفرٍ القائمُ بأَمرِ الله، والوَزيرُ أبو عليٍّ الحَسنُ بن عليِّ بن إسحاقَ نِظامُ المُلْكِ.
وقد وَرَدَ كِتابُ ارتق بك على الخَليفةِ المُقتَدِي العبَّاسيِّ بأَخْذِه بِلادَ القَرامِطَة.
هو الفَقيهُ العالِمُ، إِمامُ الحَنابِلَةِ، الشَّريفُ أبو جَعفرٍ عبدُ الخالقِ بن عيسى بن أحمدَ بن محمدِ بن عيسى بن أحمدَ بن موسى بن محمدِ بن إبراهيمَ بن عبدِ الله بن معبدِ بن العبَّاسِ بن عبدِ المُطَّلِبِ, الهاشميُّ الفَقيهُ. إِمامُ الطائفةِ الحَنبليَّةِ في زَمانِه بلا مُدافَعَةٍ. وُلِدَ سَنةَ 411هـ, وهو أَجَلُّ أَصحابِ القاضي أبي يَعلَى. كان حَسَنَ الكَلامِ في المُناظَرَةِ، وَرِعًا زاهِدًا، مُتقِنًا، عالِمًا بأَحكامِ القُرآنِ والفَرائضِ، مَرْضِيَّ الطَّريقةِ. وقال أبو الحُسينِ بن الفَرَّاءِ: "لَزِمتُه خمسَ سنين، فكان إذا بَلغَهُ مُنكرٌ قد ظَهرَ عَظُمَ ذلك عليه جِدًّا، وكان شَديدًا على المُبتَدِعَةِ، لم تَزَل كَلِمتُه عاليةً عليهم، وأَصحابُه يَقمَعونَهُم، ولا يَرُدُّ يَدَهُ عنهم أَحَدٌ"، وكان عَفيفًا نَزيهًا، يُدَرِّسُ بمَسجِدِه، ثم انتَقلَ إلى الجانبِ الشرقيِّ من بغداد يُدَرِّسُ في مَسجدٍ آخرَ، ثم انتَقلَ في سَنةِ 466هـ لأَجلِ ما لَحِقَ نَهرَ المُعَلَّى من الغَرَقِ إلى بابِ الطَّاقِ، ودَرَّسَ بجامعِ المَهديِّ. لمَّا احتَضرَ القاضي أبو يَعلَى أَوصَى أن يُغَسِّلَهُ الشَّريفُ أبو جَعفرٍ، ولمَّا احتَضرَ القائمُ بأَمرِ الله أَوصَى أيضًا أن يُغَسِّلَهُ، ففَعَلَ. وكان قد وَصَّى له القائمُ بأَمرِ الله بأَشياءَ كَثيرةٍ، فلم يَأخُذها، فقِيلَ له: خُذْ قَميصَ أَميرِ المُؤمنينَ للبَركةِ، فأَخذَ فُوطَتَه فنَشَّفَ بها القائمَ، وقال: قد لَحِقَ الفُوطةَ بَركةُ أَميرِ المُؤمنينَ. ثم استَدعاهُ المُقتَدِي، فبايَعَهُ مُنفرِدًا. ولمَّا تُوفِّي كان يومُ جَنازَتِه يومًا مَشهودًا، وحُفِرَ له إلى جانبِ قَبرِ الإمامِ أحمدَ، ولَزِمَ الناسُ قَبرَهُ ليلًا نَهارًا، حتى قِيلَ: خُتِمَ على قَبرِه أَكثرُ من عشرةِ آلافِ خَتمَةٍ. قال الذهبيُّ: "وطَوَّلَ تَرجمتَه ابنُ الفَرَّاءِ إلى أن قال فيها: وأُخِذَ الشَّريفُ أبو جعفرِ بن أبي موسى في فِتنَةِ أبي نصرِ بن القُشيريِّ، وحُبِسَ أيامَا، فسَرَدَ الصَّومَ وقال: ما آكلُ لأَحَدٍ شَيئًا. ودَخلتُ عليه في تلك الأيامِ، فرَأيتُه يقرأُ في المُصحفِ، فقال لي: قال الله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} الصَّبْرُ: الصَّوْمُ. ولم يُفطِر إلى أن بَلغَ منه المَرضُ، فلمَّا ثَقُلَ وضَجَّ الناسُ من حَبسِه، أُخرِجَ إلى الحَريمِ الطَّاهريِّ، فمات هناك" قال عنه ابنُ كَثيرٍ: "كان أَحدَ الفُقهاءِ العُلماءِ العُبَّادِ الزُّهَّادِ المَشهورِينَ بالدِّيانَةِ والفَضلِ والعِبادةِ والقِيامِ في الله بالأَمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المُنكرِ، لا تَأخذُه في الله لَوْمَةُ لائمٍ، وكان مَشهورًا بالصَّلاحِ والدِّيانةِ، وحين وَقعَت الفِتنةُ بين الحَنابلةِ والأَشعريَّةِ بسَببِ ابنِ القُشيريِّ اعتُقِلَ هو في دارِ الخِلافةِ مُكَرَّمًا مُعَظَّمًا، يَدخلُ عليه الفُقهاءُ وغَيرُهم، ويُقبِّلون يَدَهُ ورَأسَه".
هو الشيخُ، الإمامُ، المُحَدِّثُ، المُفِيدُ، الكَبيرُ، المُصَنِّفُ، أبو القاسمِ عبدُ الرحمن بن الحافظِ الكَبيرِ أبي عبدِ الله محمدِ بن إسحاقَ بن محمدِ بن يحيى بن إبراهيمَ بن أبي عبدِ الله بن مَنده العَبدِيُّ الأصبهانيُّ. وُلِدَ سَنةَ 381هـ. سَمِعَ أَباهُ وابنَ مَرْدَوَيْهِ وخَلْقًا في أقاليمَ شَتَّى، سافَر إليها وجَمعَ شَيئًا كَثيرًا، وكان ذا وَقارٍ وسَمْتٍ حَسَنٍ، واتِّباعٍ للسُّنَّةِ وفَهْمٍ جَيِّدٍ، كَثيرَ الأَمرِ بالمَعروفِ والنَّهيِ عن المُنكرِ، لا يَخافُ في الله لَوْمَةَ لائِمٍ، وكان صاحِبَ خُلُقٍ وفُتُوَّةٍ وسَخاءٍ وبَهاءٍ، وكانت الإجازةُ عنده قَوِيَّةً، وكان يقول: "ما حَدَّثتُ بحَديثٍ إلَّا على سَبيلِ الإجازَةِ كَيْلَا أُوبَق". وله تَصانيفُ كَثيرةٌ، ورُدودٌ على المُبتَدِعَةِ وكان سعدُ الزنجانيُّ يقول: حَفِظَ الله الإسلامَ بهِ، وبعبدِ الله الأنصاريِّ الهَرويِّ"، كان عبدُ الرحمن بن مَندَه يقول: "قد عَجِبتُ من حالي، فإنِّي قد وَجدتُ أَكثرَ من لَقيتُه إنْ صَدَّقتُه فيما يقوله مُداراةً له؛ سَمَّاني مُوافِقًا، وإنْ وَقفتُ في حَرفٍ مِن قَولِه أو في شيءٍ مِن فِعلِه؛ سَمَّاني مُخالِفًا، وإنْ ذَكرتُ في واحدٍ منهما أنَّ الكِتابَ والسُّنَّةَ بخِلافِ ذلك سَمَّاني خارِجِيًّا، وإنْ قُرئَ عليَّ حَديثٌ في التَّوحيدِ؛ سَمَّاني مُشَبِّهًا، وإنْ كان في الرُّؤْيَةِ؛ سَمَّاني سالِمِيًّا..., وأنا مُتَمسِّكٌ بالكِتابِ والسُّنَّةِ، مُتَبَرِّئٌ إلى الله مِن الشَّبَهِ والمِثْلِ والنِّدِّ والضِّدِّ والأعضاءِ والجِسْمِ والآلاتِ، ومِن كلِّ ما يَنسُبهُ النَّاسِبون إليَّ، ويَدَّعِيه المُدَّعونَ عليَّ من أنْ أَقولَ في الله تعالى شَيئًا من ذلك، أو قُلتهُ، أو أَراهُ، أو أَتَوَهَّمهُ، أو أَصِفهُ به" قال يحيى بن مَندَه: "كان عَمِّي سَيْفًا على أَهلِ البِدَعِ، وهو أَكبرُ من أن يُثنِي عليه مِثلي، كان والله آمِرًا بالمعروفِ، ناهِيًا عن المُنكرِ، كَثيرَ الذِّكْرِ، قاهرًا لِنَفسِه، عَظيمَ الحِلْمِ، كَثيرَ العِلمِ"، تُوفِّي بأصبهان عن سبعٍ وثمانين سَنةً، وحَضرَ جَنازتُه خَلْقٌ كَثيرٌ لا يَعلمُهم إلَّا الله عزَّ وجلَّ.
أَقطعَ السُّلطانُ ملكشاه أَخاهُ تاجَ الدولةِ تتش الشامَ، وما يَفتَحُه في تلك النَّواحي، سَنةَ 470هـ، فأَتَى حَلَب وحَصرَها، ولَحِقَ أَهلَها مَجاعةٌ شَديدةٌ، وكان معه جَمعٌ كَثيرٌ من التُّركمان، فأَنفذَ إليه أتسز صاحِبُ دِمشقَ، يَستَنجِدُه، ويُعرِّفُه أن عَساكِرَ مصر قد حَصرَتهُ بدِمشقَ، وكان أَميرُ الجُيوشِ بَدرٌ قد سَيَّرَ عَسكرًا من مصر، ومُقَدِّمُهم قائدٌ يُعرَف بنَصرِ الدولةِ، فحَصَرَ دِمشقَ، فسار تتش إلى نُصرَةِ أتسز فلمَّا سَمِعَ المِصريُّون أَتباعُ الفاطِميِّين بقُربِه أَجفَلوا من بين يَديهِ شِبْهَ المُنهَزِمين، وخَرجَ أتسز إليه يَلتَقيهُ عند سُورِ البلدِ، فاغتاظَ منه تتش حيث لم يُبعِد في تَلَقِّيهِ، وعاتَبَهُ على ذلك، فاعتَذرَ بأُمورٍ لم يَقبَلها تتش، فقَبَضَ عليه في الحالِ، وقَتَلَه مِن ساعتِه، ومَلَكَ البلدَ، وقِيلَ: إن تتش مَلَكَ دِمشقَ سَنةَ 472هـ.
جَهَّزَ المُعتَمِدُ بن عَبَّادٍ جَيشًا بقِيادَةِ وَزيرِه أبي بكرِ بن عَمَّارٍ ووَجَّهَهُ للاستِيلاءِ على مَدينةِ مرسية، فاستَعانَ ابنُ عَمَّار بالكونت برنجيه أَميرِ برشلونه لِقاءَ المال، كما استَعانَ بعبدِالرحمن بن رشيق حاكمِ حِصْنِ بلج، فتَمَّ له ما أَرادَ من احتِلالِ مرسية وبَقِيَ ابنُ عَمَّارٍ على أَعمالِها، ثم قام بعدَ فَترَةٍ بالخُروجِ على المُعتَمِدِ وطَعَنَ فيه وفي زَوجتِه فقامَ ابنُ رشيق على ابنِ عمَّارٍ وأَخرَجَه من مرسية فلَجأَ ابنُ عمَّارٍ إلى ألفونسو مَلِكِ قشتالة ثم قَصَدَ سرقسطة ولَجأَ إلى أَميرِها ابنِ هود، فاستَقَلَّ ابنُ رشيق بحُكمِ مرسية إلى أن استَولَى عليها المُرابِطون عام 483هـ.
كان خمارتكين وكوهرائين يَسعَيانِ في قَتْلِ ابنِ عَلَّان اليَهوديِّ، ضامِنِ البَصرَةِ، وكان مُلتَجِئًا إلى نِظامِ المُلْكِ، وكان بين نِظامِ المُلْكِ وبين خمارتكين الشرابي وكوهرائين عَداوَةٌ، فسَعَيا باليهوديِّ لذلك، فأَمَرَ السُّلطانُ ملكشاه بتَغرِيقِه فغُرِّقَ، وانقَطعَ نِظامُ المُلْكِ الوَزيرُ عن الرُّكوبِ ثلاثةَ أيامٍ، وأَغلقَ بابَه، ثم أُشِيرَ عليه بالرُّكوبِ فرَكِبَ، وعَمِلَ للسُّلطانِ دَعوةً عَظيمةً قَدَّمَ له فيها أَشياءَ كَثيرةً، وعاتَبَهُ على فِعلِه، فاعتَذرَ إليه، وكان أَمْرُ اليهوديِّ قد عَظُمَ إلى حَدِّ أنَّ زَوجتَه تُوفِّيَت، فمَشَى خَلفَ جَنازَتِها كلُّ مَن في البَصرَةِ، إلَّا القاضي، وكانت له نِعمةٌ عَظيمةٌ، وأَموالٌ كَثيرةٌ، فأَخذَ السُّلطانُ منه مائةَ ألفِ دِينارٍ، وضَمِنَ خمارتكين البَصرةَ كلَّ سَنَةٍ بمائةِ ألفِ دِينارٍ ومائةِ فَرَسٍ.