موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الرَّابِعُ: نَوعُ القَرينةِ التي تَصرِفُ الأمرَ مِنَ الوُجوبِ إلى غَيرِه


اتَّفقَ القائِلونَ بأنَّ الأمرَ المُطلَقَ يَقتَضي الوُجوبَ، على أنَّه لا يُصرَفُ عنه إلَّا بقَرينةٍ، ولَكِنَّهمُ اختَلَفوا في نَوعِ هذه القَرينةِ:
والرَّاجِحُ: أنَّ أيَّ قَرينةٍ قَويَّةٍ يُمكِنُ أن تَصرِفَ الأمرَ مِنَ الوُجوبِ إلى غَيرِه مُطلَقًا، أي: سَواءٌ كانت نَصًّا، أو إجماعًا، أو قياسًا، أو مَفهومًا، أو فعلًا، أو مَصلَحةً، أو ضَرورةً، أو سياقَ كَلامٍ، أو أيَّةَ قَرينةٍ مَقاليَّةٍ أو حاليَّةٍ تصلُحُ أن تَصرِفَ الأمرَ مِنَ الوُجوبِ إلى غَيرِه، وسَواءٌ كانت تلك القَرائِنُ مِنَ السِّياقِ أوِ اللِّحاقِ، أوِ السِّباقِ، مِن داخِلِ النَّصِّ أو مِن خارِجِه [741] يُنظر: ((المهذب)) (3/1358)، ((الجامع)) (ص: 224) كلاهما لعبد الكريم النملة، ((القرينة عند الأصوليين)) لمحمد الخيمي (ص: 207). .
الدَّليلُ:
أنَّ القَرينةَ مِمَّا ذَكَرنا تُعتَبَرُ دليلًا شَرعيًّا، فلَو لَم نَأخُذْ بها لَلَزِمَ مِن ذلك تَركُ دَليلٍ شَرعيٍّ قد ثَبَتَ، وهذا لا يَجوزُ [742] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (3/1358). .
وقيلَ: إنَّ القَرينةَ التي يُؤخَذُ بها لصَرفِ الأمرِ مِنَ الوُجوبِ إلى غَيرِه هيَ نَصٌّ آخَرُ، أو إجماعٌ. وهو قَولُ ابنِ حَزمٍ؛ حَيثُ قال: (نَقلُ الأمرِ عنِ الوُجوبِ إلى النَّدبِ لا مَدخَلَ للعَقلِ فيه، وإنَّما يُؤخَذُ مِن نَصٍّ آخَرَ أو إجماعٍ فقَط) [743] ((الإحكام)) (3/140). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
1- حِكمُ رَكعَتي تَحيَّةِ المَسجِدِ:
اختَلَف الفُقَهاءُ في حُكمِ رَكعَتي تَحيَّةِ المَسجِدِ على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ أداءَ رَكعَتي دُخولِ المَسجِدِ مَندوبٌ. وهو قَولُ جُمهورِ الفُقَهاءِ [744] يُنظر: ((تبيين الحقائق)) للزيلعي (1/173)، ((البناية)) للعيني (2/521)، ((المقدمات الممهدات)) لابن رشد الجد (1/166)، ((التاج والإكليل)) للعبدري (2/374)، ((البيان)) للعمراني (2/286)، ((إعلام الساجد)) للزركشي (ص: 349)، ((المغني)) لابن قدامة (2/119). .
القَولُ الثَّاني: أنَّ ذلك واجِبٌ. وهو قَولُ ابنِ حَزمٍ [745] يُنظر: ((المحلى)) لابن حزم (3/275). .
وسَبَبُ الخِلافِ في ذلك: هَلِ الأمرُ في قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إذا دَخَلَ أحَدُكُمُ المَسجِدَ فليَركَعْ رَكعَتَينِ قَبلَ أن يَجلِسَ)) [746] أخرجه البخاري (444)، ومسلم (714) من حديثِ أبي قتادةَ رَضِيَ اللهُ عنه. مَحمولٌ على النَّدبِ، أو على الوُجوبِ؟
فمَن تمسَّك في ذلك بما اتَّفقَ عليه الجُمهورُ مِن أنَّ الأصلَ هو حَملُ الأوامِرِ المُطلَقةِ على الوُجوبِ حتَّى يَدُلَّ الدَّليلُ على النَّدبِ، ولَم يَنقدِحْ عِندَه دَليلٌ يَنقُلُ الحُكمَ مِنَ الوُجوبِ إلى النَّدبِ، قال: الرَّكعَتانِ واجِبتانِ.
ومَنِ انقدَحَ عِندَه دَليلٌ على حَملِ الأوامِرِ هاهنا على النَّدبِ، أو كان الأصلُ عِندَه في الأوامِرِ أن تُحمَلَ على النَّدبِ حتَّى يَدُلَّ الدَّليلُ على الوُجوبِ، قال: الرَّكعَتانِ غَيرُ واجِبَتينِ.
لَكِنَّ الجُمهورَ إنَّما ذَهَبوا إلى حَملِ الأمرِ هاهنا على النَّدبِ؛ لمَكانِ التَّعارُضِ الذي بَينَه وبَينَ الأحاديثِ التي تَقتَضي بظاهرِها أو بنَصِّها أنْ لا صَلاةَ مَفروضةٌ إلَّا الصَّلَواتِ الخَمسَ، مِثلُ حَديثِ الأعرابيِّ [747]عن طَلحةَ بنِ عُبَيدِ اللَّهِ، يَقولُ: ((جاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِن أهلِ نَجدٍ ثائِرَ الرَّأسِ، يُسمَعُ دَويُّ صَوتِه ولا يُفقَهُ ما يَقولُ، حتَّى دَنا، فإذا هو يَسألُ عنِ الإسلامِ، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: خَمسُ صَلَواتٍ في اليَومِ واللَّيلةِ. فقال: هَل عليَّ غَيرُها؟ قال: لا، إلَّا أن تَطَوَّعَ. قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: وصيامُ رَمَضانَ. قال: هَل عليَّ غَيرُه؟ قال: لا، إلَّا أن تَطَوَّعَ. قال: وذَكَرَ له رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الزَّكاةَ، قال: هَل عليَّ غَيرُها؟ قال: لا، إلَّا أن تَطَوَّعَ. قال: فأدبَرَ الرَّجُلُ وهو يَقولُ: واللهِ لا أزيدُ على هذا ولا أنقُصُ، قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أفلَحَ إن صَدَقَ)). أخرجه البخاري (46) واللَّفظُ له، ومسلم (11). وغَيرِه، وذلك أنَّه إن حُمِلَ الأمرُ هاهنا على الوُجوبِ لَزِمَ أن تَكونَ المفروضاتُ أكثَرَ مِن خَمسٍ.
وأمَّا مَن أوجَبَها فقال: إنَّ الوُجوبَ هاهنا مُتَعَلِّقٌ بدُخولِ المَسجِدِ لا مطلقًا، كالأمرِ بالصَّلَواتِ المَفروضةِ [748] يُنظر: ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/218). .
2- حُكمُ الإشهادِ على المُراجَعةِ في الطَّلاقِ:
اختَلَف الفُقَهاءُ في حُكمِ الإشهادِ على المُراجَعةِ، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ المُطَلَّقةَ طَلاقًا رَجعيًّا لا يُكتَفى في إرجاعِها بوطءٍ أو بلَفظٍ يَدُلُّ على المُراجَعةِ، بَل لا بُدَّ أيضًا مِنَ الإشهادِ على المُراجَعةِ. وهو قَولُ ابنِ حَزمٍ [749] يُنظر: ((المحلى)) (10/17). ، والشَّافِعيِّ في القديمِ [750] يُنظر: ((نهاية المطلب)) لإمام الحرمين (14/353)، ((البيان)) للعمراني (10/249). ، ورِوايةٌ عن أحمَدَ [751] يُنظر: ((الكافي)) لابن قدامة (4/516). .
القَولُ الثَّاني: الإشهادُ على المُراجَعةِ مُستَحَبٌّ. وهو قَولُ أبي حَنيفةَ [752] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (6/19)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (3/181). ، ومالكٍ [753] يُنظر: ((البيان والتحصيل)) لابن رشد الجد (5/418)، ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (2/424). ، والشَّافِعيِّ في الجَديدِ [754] يُنظر: ((مغني المحتاج)) للخطيب الشربيني (3/440). ، وأحمدَ في القَولِ الآخَرِ [755] يُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (10/559). .
وقدِ استَدَلَّ القائِلونَ بالوُجوبِ بقَولِ اللهِ تعالى: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [الطلاق: 2] ، والمُرادُ بالإمساكِ: المُراجَعةُ.
فقالوا: الإشهادُ على المُراجَعةِ مَأمورٌ به، والأمرُ يَقتَضي الوُجوبَ.
وأمَّا القائِلونَ بالنَّدبِ فمَنَعوا كَونَ الأمرِ هنا يَقتَضي الوُجوبَ؛ لوُجودِ الدَّليلِ الصَّارِفِ عنِ الوُجوبِ إلى النَّدبِ، وهو أنَّ المُراجَعةَ في حُكمِ استِدامةِ النِّكاحِ السَّابِقِ، ولأنَّها لا تَفتَقِرُ إلى قَبولٍ، فلَم تَفتَقِرْ إلى شَهادةٍ، كسائِرِ حُقوقِ الزَّوجِ، ولأنَّ ما لا يُشتَرَطُ فيه الوَليُّ لا يُشتَرَطُ فيه الإشهادُ، كالبَيعِ [756] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 376)، ((أثر الاختلاف في القواعد الأصولية)) للخن (ص: 310). .

انظر أيضا: