موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ السَّادِسُ: مُقتَضى الأمرِ المُطلَقِ مِن جِهةِ الفَوريَّةِ وعَدَمِها


الفَورُ هو: وُجوبُ تَعجيلِ الفِعلِ في أوَّلِ أوقاتِ الإمكانِ [801] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/254)، ((مناهج العقول)) للبدخشي (2/44). .
والتَّراخي هو: تَخييرُ المُكَلَّفِ بَينَ الأداءِ فورًا عِندَ سَماعِ التَّكليفِ، وبَينَ التَّأخيرِ إلى وقتٍ آخَرَ، مَعَ ظَنِّه القُدرةَ على أدائِه في ذلك الوقتِ [802] يُنظر: ((مباحث أصولية في تقسيمات الألفاظ)) لمحمد عبد العاطي (ص: 64). .
ومُصطَلَحُ (التَّراخي) هو المَشهورُ في كَثيرٍ مِن كُتُبِ الأُصولِ، وذَهَب الشِّيرازيُّ، وإمامُ الحَرَمَينِ، وابنُ القُشَيريِّ إلى أنَّ هذا الإطلاقَ مَدخولٌ، أي: مَعيبٌ؛ لأنَّ مُقتَضاه أنَّ الصِّيغةَ المُطلَقةَ تَقتَضي التَّراخيَ، حتَّى لَو فُرِضَ الامتِثالُ على البِدارِ لَم يُعتَدَّ به، وهذا لَم يَصِرْ إليه أحَدٌ، فالأحسَنُ في العِبارةِ عن هذا القَولِ أن يُقالَ: الأمرُ يَقتَضي الامتِثالَ ولا يَتَعَيَّنُ له وَقتٌ [803] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/235)، ((التلخيص)) لإمام الحرمين (1/323)، ((إيضاح المحصول)) للمازري (ص: 211)، ((البحر المحيط)) للزركشي (3/331). .
قال الشِّيرازيُّ: (ورُبَّما غَلِطَ بَعضُ أصحابِنا في العِبارةِ عن هذه المَسألةِ، فقال: الأمرُ يَقتَضي الفَورَ والتَّراخيَ. وهذه العِبارةُ لَيسَت صحيحةً؛ لأنَّ أحَدًا لَم يَقُلْ: إنَّ الأمرَ يَقتَضي التَّراخيَ. وإنَّما يَقولونَ: هَل يَقتَضي الفورَ أم لا؟) [804] ((شرح اللمع)) (1/235).
وأشارَ المازَريُّ إلى أنَّ هذا الاختِلافَ لا مُشاحَّةَ فيه، فقال: (وهذا كُلُّه تَحريرُ عِبارةٍ، وإلَّا فالمُرادُ مُتَفاهَمٌ بَينَ أهلِ هذه الصِّناعةِ، وإن عُبِّرَ عنه بما ألِفوه) [805] ((إيضاح المحصول)) (ص: 211). .
وقال أبو حامِدٍ الإسفِرايِينيُّ: (مَعنى أنَّه على التَّراخي: أنَّه يَجوزُ تَأخيرُه، لا أنَّه يَجِبُ تَأخيرُه؛ فإنَّ أحدًا لا يَقولُ ذلك) [806] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (3/331). .
والأمرُ إمَّا أن يَكونَ مُقَيَّدًا بزَمَنٍ يَقَعُ فيه الفِعلُ، أو يَكونَ غَيرَ مُقَيَّدٍ بزَمَنٍ:
ولا خِلافَ في أنَّ الأمرَ إذا كان مُقَيَّدًا بزَمَنٍ فإنَّه يُفيدُ طَلَبَ إيقاعِ الفِعلِ في الزَّمَنِ المُقَيَّدِ، سَواءٌ أكان الزَّمَنُ على قَدرِ الفِعلِ، وهو المُسَمَّى بالواجِبِ المُضَيَّقِ، كصَومِ رَمَضانَ، أم كان الزَّمَنُ أوسَعَ مِنَ الفِعلِ بحَيثُ يَسَعُ الفِعلَ ويَسَعُ غَيرَه مِن جِنسِه، وهو المُسَمَّى بالواجِبِ الموسَّعِ، كأوقاتِ الصَّلَواتِ المَفروضةِ. أمَّا إذا كان الأمرُ مُطلَقًا عنِ التَّقييدِ بزَمَنٍ أو بوقتٍ مُحَدَّدٍ، كالأمرِ بالكَفَّاراتِ، وقَضاءِ ما فاتَ مِنَ الصَّومِ والصَّلاةِ، فقدِ اختَلَف فيه الأُصوليُّونَ: هَل يَدُلُّ الأمرُ فيه على فِعلِ المَأمورِ به على الفورِ، أو على التَّراخي [807] يُنظر: ((أصول الفقه)) لأبي النور زهير (2/134)، ((تفسير النصوص)) للصالح (2/346)، ((مباحث أصولية في تقسيمات الألفاظ)) لمحمد عبد العاطي (ص: 65). ؟
وكذلك إذا صَحِبَ الأمرَ قَرينةٌ تَدُلُّ على الفورِ يُحمَلُ على ذلك، وإذا صَحِبَته قَرينةٌ تَدُلُّ على جَوازِ التَّراخي حُمِلَ على ذلك [808] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/ 386)، ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 226). .
والخِلافُ في هذه المَسألةِ إنَّما هو على القَولِ بأنَّ الأمرَ لا يَقتَضي التَّكرارَ، ولا يَقتَضي الفِعلَ إلَّا مَرَّةً واحِدةً، وأمَّا على القَولِ بأنَّ الأمرَ يَقتَضي التَّكرارَ فإنَّه يَقتَضي الفَورَ باتِّفاقٍ، كما حَكى ذلك الباقِلَّانيُّ [809] قال: (أوَّلُ ما يَجِبُ في هذا البابِ أن يُقالَ: إنَّ الأمرَ المُختَلَفَ في وُجوبِ تَعجيلِ مَضمونِه أو تَأخيرِه أو جَوازِ الوقفِ في ذلك، إنَّما هو الأمرُ الذي ليس على الدَّوامِ والتَّكرارِ، وإنَّما يَكونُ أمرًا بفِعلٍ واحِدٍ أو جُملةٍ مِنَ الأفعالِ؛ لأنَّه قدِ اتُّفِقَ على أنَّ ما يَجِبُ على الدَّوامِ والتَّكرارِ فإنَّه واجِبٌ في جَميعِ الأوقاتِ مِن عَقيبِ الأمرِ إلى ما بَعدَه). ((التقريب والإرشاد)) (2/208). ، والشُّوشاويُّ [810] قال: (هذا الخِلافُ كُلُّه إنَّما هو على القَولِ بأنَّ الأمرَ لا يَقتَضي التَّكرارَ ولا يَقتَضي إلَّا مَرَّةً واحِدةً، وأمَّا على القَولِ بأنَّ الأمرَ يَقتَضي التَّكرارَ فإنَّه يَقتَضي الفَورَ باتِّفاقٍ؛ لأنَّ تَعجيلَ المَأمورِ به في أوَّلِ أزمِنةِ الإمكانِ مَعَ تَكرارِه يَقتَضي استِقرارَ جَميعِ الأزمِنةِ حتَّى الزَّمانِ الفَوريِّ). ((رفع النقاب)) (2/464). ويُنظر مَطلَب: مُقتَضى الأمرِ المُطلَقِ مِن جِهةِ تَكرارِ المَأمورِ به وعَدَمِه. .
وقدِ اختَلَف الأُصوليُّونَ في هذه المَسألةِ، والرَّاجِحُ: أنَّ الأمرَ المُطلَقَ لا يُفيدُ الفورَ ولا التَّراخيَ، وإنَّما يُفيدُ مُجَرَّدَ طَلَبِ الفِعلِ، وأمَّا تَحديدُ كَونِه على الفورِ أوِ التَّراخي فإنَّما يَكونُ بقَرينةٍ.
فالأمرُ مَوضوعٌ للقَدرِ المُشتَرَكِ بَينَ طَلَبِ الفِعلِ على الفَورِ، وبَينَ طَلَبِه على التَّراخي، مِن غَيرِ أن يَكونَ في اللَّفظِ إشعارٌ بخُصوصِ كَونِه فورًا أو تَراخيًا. وعليه فيَجوزُ للمُكَلَّفِ أن يُؤَخِّرَ المَأمورَ به على وجهٍ لا يَفوتُ به، ولا يَكونُ آثِمًا.
وقد نُسِبَ هذا القَولُ إلى الشَّافِعيِّ [811] يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (1/273)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (2/42)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1124). قال إمامُ الحَرَمَينِ: (ذَهَبَ ذاهبونَ إلى أنَّ الصِّيغةَ المُطلَقةَ لا تَقتَضي الفَورَ، وإنَّما مُقتَضاها الامتِثالُ، مُقدَّمًا أو مُؤَخَّرًا، وهذا يُنسَبُ إلى الشَّافِعيِّ رَحِمَه اللهُ وأصحابِه، وهو الأليَقُ بتَفريعاتِه في الفِقهِ، وإن لَم يُصَرِّحْ به في مَجموعاتِه في الأُصولِ). ((البرهان)) (1/75). ، وحَكاه ابنُ السُّبكيِّ عن مُعظَمِ الشَّافِعيَّةِ [812] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1124). . وهو الصَّحيحُ عِندَ الحَنَفيَّةِ [813] يُنظر: ((بديع النظام الجامع)) لابن الساعاتي (2/402)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (2/68)، ((فواتح الرحموت)) للأنصاري (1/415). ، واختارَه الرَّازيُّ [814] يُنظر: ((المحصول)) (2/113)، ((المعالم)) (ص: 59). ، والآمِديُّ [815] يُنظر: ((الإحكام)) (2/165)، ((منتهى السول)) (ص: 107). ، وابنُ الحاجِبِ [816] يُنظر: ((منتهى الوصول والأمل)) (ص: 69)، ((مختصر منتهى السول والأمل)) (1/666). ، والبَيضاويُّ [817] يُنظر: ((منهاج الوصول)) (ص: 118). ، والأصفهانيُّ [818] يُنظر: ((شرح المنهاج)) (1/339). ، والتَّفتازانيُّ [819] يُنظر: ((شرح التلويح على التوضيح)) (1/378). ، والصَّنعانيُّ [820] يُنظر: ((إجابة السائل شرح بغية الآمل)) (ص: 281). .
والسَّبَبُ في أنَّ الأمرَ المُطلَقَ لا يَقتَضي فورًا ولا تَراخيًا: أنَّه تارةً يَتَقَيَّدُ بالفَورِ، كما لَو قيلَ: سافِرِ الآنَ؛ فإنَّه يَقتَضي الفَورَ، وتارةً يَتَقَيَّدُ بالتَّراخي، كما لَو قيلَ: سافِرْ رَأسَ الشَّهرِ؛ فإنَّه يَقتَضي التَّراخيَ، فإذا أمَرَه بأمرٍ مُطلَقٍ مِن غَيرِ تَقييدٍ بفورٍ ولا بتَراخٍ فإنَّه يَكونُ محتَمِلًا لهما، وما كان محتَمِلًا لشَيئَينِ فلا يَكونُ مقتضيًا لواحِدٍ مِنهما بعَينِه [821] يُنظر: ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 383). .
وهذا باعتِبارِ خُروجِ المُكَلَّفِ عن عُهدةِ التَّكليفِ، أمَّا مِن حَيثُ الفضيلةُ فالأَولى في حَقِّ المُكَلَّفِ أن يُسارِعَ إلى الامتِثالِ، وأن يُبادِرَ إلى الفِعلِ بمُجَرَّدِ التَّمَكُّنِ مِن أدائِه؛ وذلك عملًا بعُمومِ الأدِلَّةِ الدَّاعيةِ إلى التَّسابُقِ في الخَيراتِ، والمُسارِعةِ إلى أعمالِ المَغفِرةِ، كما قال اللهُ تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة: 148] ، وقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [آل عمران: 133] .
وأوامِرُ المُشَرِّعِ الحَكيمِ سَبَبٌ للمَغفِرةِ، ويَتَعَلَّقُ بها الخَيرُ والمَصلَحةُ للعِبادِ، فالمُسارَعةُ مَندوبٌ إليها؛ لهذا الدَّليلِ الخارِجيِّ، لا بمُجَرَّدِ الصِّيغةِ [822] يُنظر: ((تفسير النصوص)) للصالح (2/346)، ((المناهج الأصولية)) لفتحي الدريني (ص: 544). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّ الأمرَ قد يَرِدُ ويَكونُ المُرادُ منه الفَورَ تارةً، والتَّراخيَ أُخرى، فلا بُدَّ مِن جَعلِه حَقيقةً في القَدرِ المُشتَرَكِ بَينَ القِسمَينِ؛ دفعًا للِاشتِراكِ والمَجازِ، والمَوضوعُ لإفادةِ القَدرِ بَينَ القِسمَينِ لا يَكونُ له إشعارٌ بخُصوصيَّةِ كُلِّ واحِدٍ مِنَ القِسمَينِ [823] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (2/113)، ((السراج الوهاج)) للجاربردي (1/479)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1130). .
2- أنَّ أهلَ العَرَبيَّةِ اتَّفقوا على أنَّ صيغةَ الأمرِ لا دَلالةَ لها إلَّا على الطَّلَبِ دونَ خُصوصِ زَمانٍ، أمَّا خُصوصُ المَطلوبِ فِعلُه فهو مِنَ المادَّةِ، ولا دَلالةَ لها إلَّا على مُجَرَّدِ الفِعلِ، فحَصَلَ مِن مَجموعِ الصِّيغةِ والمادَّةِ أنَّ تَمامَ مَدلولِ الصِّيغةِ والمادَّةِ هو طَلَبُ الفِعلِ دونَ تَقييدٍ بالفَورِ أوِ التَّراخي.
وإذا كان مَدلولُ الأمرِ هو طَلَبَ حَقيقةِ الفِعلِ، فالفَورُ والتَّراخي أمرانِ خارِجانِ عنِ الحَقيقةِ؛ إذ هما مِن صِفاتِ الفِعلِ، فلا دَلالةَ للأمرِ عليهما، وإنَّما يُفهَمُ ذلك بالقَرائِنِ، فلا بُدَّ مِن جَعلِها حَقيقةً في القَدرِ المُشتَرَكِ بَينَ الفَورِ والتَّراخي [824] يُنظر: ((تفسير النصوص)) للصالح (2/352). ويُنظر أيضًا: ((بديع النظام)) للساعاتي (2/403)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (2/42). .
وقيلَ: إنَّه يُفيدُ الفَورَ في أوَّلِ أوقاتِ الإمكانِ، فالواجِبُ على المُكَلَّفِ امتِثالُ المَأمورِ به عَقيبَ وُرودِ الأمرِ، فلَو تَأخَّرَ في ذلك عُدَّ عاصيًا.
وهو مُقتَضى قَولِ مالِكٍ [825] قال ابنُ القَصَّارِ: (ليس عن مالِكٍ رَحِمَه اللهُ في ذلك نَصٌّ، ولَكِنَّ مَذهَبَه يَدُلُّ على أنَّها على الفَورِ؛ لأنَّ الحَجَّ عِندَه على الفَورِ، ولَم يَكُنْ ذلك كذلك إلَّا لأنَّ الأمرَ اقتَضاه). ((المقدمة)) (ص: 132). ، ونَسَبَه الزِّنجانيُّ للشَّافِعيِّ [826] يُنظر: ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 108). ، وهو ظاهرُ قَولِ أحمَدَ [827] يُنظر: (((العدة)) لأبي يعلى (1/281)، ((التحبير)) للمرداوي (5/2224). ، وهو مَذهَبُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ [828] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (2/105، 107)، ((أصول الفقه)) للمشي (ص: 107)، ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 210). ، والبَغداديِّينَ مِنَ المالِكيَّةِ [829] يُنظر: ((إحكام الفصول)) للباجي (1/218)، ((إيضاح المحصول)) للمازري (ص: 211)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (2/462). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ [830] يُنظر: ((أدب القاضي)) للماوردي (1/280)، ((الوصول إلى الأصول)) لابن برهان (1/148). ، والحَنابِلةِ [831] يُنظر: ((التمهيد)) للكوذاني (1/215)، ((الواضح)) لابن عقيل (3/16)، ((قواعد الأصول)) للقطيعي (ص: 75). ، ومِمَّنِ اختارَه ابنُ حَزمٍ الظَّاهريُّ [832] يُنظر: ((الإحكام)) (3/45). ، وابنُ القَيِّمِ [833] يُنظر: ((زاد المعاد)) (3/ 364). ، والشِّنقيطيُّ [834] يُنظر: ((مذكرة أصول الفقه)) (ص: 307). .
وقيلَ: إنَّ الأمرَ المُطلَقَ يُفيدُ التَّراخيَ، وهو مَنسوبٌ للشَّافِعيِّ [835] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (3/952). قال ابنُ بَرْهانَ: (لَم يُنقَلْ عنِ الشَّافِعيِّ ولا عن أبي حَنيفةَ رَضِيَ اللهُ عنهما نَصٌّ في ذلك، ولَكِنَّ فُروعَهم تَدُلُّ على ذلك). ((الوصول إلى الأصول)) (1/149). ، ورِوايةٌ عن أحمَدَ [836] يُنظر: ((الواضح)) لابن عقيل (3/18)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/681). ، وإليه ذَهَب بَعضُ الحَنَفيَّةِ [837] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/26)، ((أصول الفقه)) للمشي (ص: 107)، ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 212). ، وهو مَذهَبُ المَغارِبةِ مِنَ المالِكيَّةِ [838] يُنظر: ((إحكام الفصول)) للباجي (1/218)، (إيضاح المحصول)) للمازري (ص: 211). ، وأكثَرِ الشَّافِعيَّةِ [839] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 52)، ((الإحكام)) للآمدي (2/165). .
وقيلَ غَيرُ ذلك [840] يُنظر: ((شرح المعالم)) لابن التلمساني (1/273)، ((مختصر منتهى السول والأمل)) لابن الحاجب (1/664). ويُنظر أيضًا: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 53)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/76)، ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 25). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
يَتَفرَّعُ على هذه المَسألةِ خِلافٌ في بَعضِ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، ومِنها:
1- حُكمُ تَفرِقةِ الوُضوءِ تَفريقًا فاحِشًا:
اختَلَف الفُقَهاءُ في هذه المَسألةِ على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: لا تَجوزُ تَفرِقةُ الوُضوءِ تَفريقًا فاحِشًا، وهو قَولُ المالِكيَّةِ [841] يُنظر: ((المدونة الكبرى)) لمالك (1/123)، ((عقد الجواهر الثمينة)) لابن شاس (1/43). ، والشَّافِعيِّ في القديمِ [842] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (1/136). .
القَولُ الثَّاني: يَجوزُ تَفرِقةُ الوُضوءِ؛ لأنَّ المُوالاةَ سُنَّةٌ. وهو قَولُ الحَنَفيَّةِ [843] يُنظر: ((مختصر اختلاف العلماء)) للطحاوي (1/153)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (1/22). ، والشَّافِعيِّ في الجَديدِ [844] يُنظر: ((الأم)) للشافعي (2/46)، ((الحاوي الكبير)) للماوردي (1/136). .
فمَن قال بعَدَمِ جَوازِ تَفرِقةِ الوُضوءِ فقد بَناه على أنَّ الأمرَ المُطلَقَ يَقتَضي الفَورَ [845] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (1/137)، ((الضياء اللامع)) لحلولو (1/596). .
قال القاضي عَبدُ الوهَّابِ المالِكيُّ: (إذا فرَّقَ وُضوءَه أو غُسلَه تَفريقًا مُتَفاحِشًا لَم يُجْزِه، خِلافًا لأبي حَنيفةَ والشَّافِعيِّ؛ لقَولِه تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6] لأنَّه أمرٌ، والأمرُ المُطلَقُ على الفَورِ) [846] ((الإشراف)) (1/124). .
ومَن قال بجَوازِ تَفرِقةِ الوُضوءِ بَناه على أنَّ الأمرَ المُطلَقَ لا يَقتَضي الفَورَ والتَّعجيلَ [847] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (1/137). .
2- المُبادَرةُ إلى إخراجِ الزَّكاةِ:
مَن مَلَكَ نِصابَ الزَّكاةِ، وحالَ عليه الحَولُ، وتَمَكَّنَ مِن إخراجِ الزَّكاةِ: فهَل يَجِبُ عليه إخراجُها على الفورِ، أم يَجوزُ له التَّأخيرُ؟
اختَلَف الفُقَهاءُ في هذه المَسألةِ على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ الإخراجَ على الفَورِ. وهو قَولُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ [848] يُنظر: ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/3)، ((فتح القدير)) لابن الهمام (2/165). ، ومَذهَبِ المالِكيَّةِ [849] يُنظر: ((الذخيرة)) للقرافي (3/134)، ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (1/500). ، والشَّافِعيَّةِ [850] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (3/91، 103)، ((روضة الطالبين)) للنووي (2/60). ، والحَنابِلةِ [851] يُنظر: ((الفروع)) لابن مفلح (4/242)، ((الإنصاف)) للمرداوي (3/186). .
القَولُ الثَّاني: يَجوزُ التَّأخيرُ، ولا يَأثَمُ المُزَكِّي بذلك. وهو قَولُ عامَّةِ الحَنَفيَّةِ [852] يُنظر: ((تحفة الفقهاء)) للسمرقندي (2/263)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/3). .
فمَن قال بإخراجِ الزَّكاةِ على الفَورِ عِندَ تَمامِ الحَولِ فقد خَرَّجَه على أنَّ الأمرَ يَقتَضي الفَورَ [853] يُنظر: ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 110)، ((أثر الاختلاف في القواعد الأصولية)) للخن (ص: 326). .
ومِنهم مَن لَم يُخَرِّجْه على القاعِدةِ، بَل بَناه على أنَّ هناكَ قَرينةً تَدُلُّ على الفوريَّةِ، وهيَ دَفعُ حاجةِ الفقيرِ المُعَجَّلةِ.
قال ابنُ الهُمامِ: (المُختارُ أنَّ الأمرَ بالصَّرفِ للفقيرِ مَعَه قَرينةُ الفَورِ، وهيَ أنَّه لدَفعِ حاجَتِه، وهيَ مُعَجَّلةٌ، فمَتى لم تَجِبْ على الفَورِ لَم يَحصُلِ المَقصودُ مِنَ الإيجابِ على وَجهِ التَّمامِ) [854] ((فتح القدير)) (2/165). .
ومَن قال بجَوازِ التَّأخيرِ فقد بَناه على أنَّ الأمرَ يَقتَضي طَلَبَ الفِعلِ، ففي أيِّ وقتٍ فَعَل يَكونُ مُؤَدِّيًا للواجِبِ.
قال الكاسانيُّ: (قال عامَّةُ مَشايِخِنا: إنَّها على سَبيلِ التَّراخي، ومَعنى التَّراخي عِندَهم أنَّها تَجِبُ مطلقًا عنِ الوقتِ غَيرَ عَينٍ، ففي أيِّ وقتٍ أدَّى يَكونُ مؤدِّيًا للواجِبِ، ويَتَعَيَّنُ ذلك الوقتُ للوُجوبِ، وإذا لم يُؤَدِّ إلى آخِرِ عُمُرِه يتضَيَّقُ عليه الوُجوبُ، بأن بَقيَ مِنَ الوقتِ قَدرُ ما يُمكِنُه الأداءُ فيه، وغَلَبَ على ظَنِّه أنَّه لَو لَم يُؤَدِّ فيه يَموتُ فيَفوتُ، فعِندَ ذلك يتضَيَّقُ عليه الوُجوبُ، حتَّى إنَّه لَو لَم يُؤَدِّ فيه حتَّى ماتَ يَأثَمُ) [855] ((بدائع الصنائع)) (2/3). .
3- المُبادَرةُ إلى أداءِ الحَجِّ:
اختَلَف الفُقَهاءُ في وُجوبِ الحَجِّ هَل هو على الفَورِ أوِ التَّراخي، على قَولَينِ:
القَولُ الأوَّلُ: أنَّ الحَجَّ واجِبٌ على الفورِ، فمَن وجَبَ عليه الحَجُّ، وتَمَكَّنَ مِن فِعلِه، وجَبَ عليه أن يُبادِرَ إلى أدائِه، فإن أخَّرَه لغَيرِ عُذرٍ فإنَّه يَأثَمُ بالتَّأخيرِ عن أوَّلِ أوقاتِ الإمكانِ، وهيَ السَّنةُ الأولى عِندَ استِجماعِ شَرائِطِ الوُجوبِ. وهو رِوايةٌ عن أبي حَنيفةَ، وبه قال أبو يوسُفَ والماتُريديُّ والكَرخيُّ مِنَ الحَنَفيَّةِ [856] يُنظر: ((المبسوط)) للسرخسي (4/163)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/119)، ((المحيط البرهاني)) لابن مازة (2/420). ، ومالِكٌ [857] يُنظر: ((المعونة)) للقاضي عبد الوهاب (1/321)، ((حاشية الدسوقي على الشرح الكبير)) (2/3)، ((الفقه المالكي وأدلته)) للحبيب بن طاهر (2/157). ، والحَنابِلةُ [858] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/281)، ((الكافي)) (2/306)، ((المغني)) (5/36) كلاهما لابن قدامة. .
القَولُ الثَّاني: أنَّ الحَجَّ واجِبٌ على التَّراخي. وهو رِوايةٌ ثانيةٌ عن أبي حَنيفةَ، ومُحَمَّدِ بنِ الحَسَنِ مِنَ الحَنَفيَّةِ [859] يُنظر: ((تحفة الفقهاء)) للسمرقندي (2/380)، ((بدائع الصنائع)) للكاساني (2/119). ، والمُتَأخِّرينَ مِنَ المالِكيَّةِ [860] يُنظر: ((المقدمات الممهدات)) لابن رشد الجد (1/383)، ((بداية المجتهد)) لابن رشد (2/86). ، والشَّافِعيَّةِ [861] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/24)، ((البيان)) للعمراني (4/45)، ((نهاية المحتاج)) للرملي (3/235). .
فمَن قال بأنَّه على الفَورِ فقد خَرَّجَه على أنَّ الأمرَ المُطلَقَ يَقتَضي الفَورَ، ولأنَّ إيجابَ الحَجِّ مُعَلَّقٌ بشَرطٍ، والأصلُ فيما عُلِّقَ بالشُّروطِ لُزومُه عَقيبَ الشَّرطِ بلا فَصلٍ [862] يُنظر: ((الإشراف على نكت مسائل الخلاف)) (2/314)، ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 380). .
ومَن قال بأنَّه على التَّراخي فقد خَرَّجَه على أنَّ الأمرَ المُطلَقَ يَقتَضي التَّراخيَ، وأيَّدوا ما ذَهَبوا إليه بفِعلِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه؛ إذِ الحَجُّ فُرِضَ في السَّنةِ السَّادِسةِ، والرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَم يَحُجَّ إلَّا في السَّنةِ العاشِرةِ، فلَو كان الحَجُّ واجبًا على الفَورِ لَم يَجُزِ التَّأخيرُ [863] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (4/25)، (أثر الاختلاف في القواعد الأصولية)) للخن (ص: 328). .
وأمَّا القائِلونَ بأنَّ صيغةَ الأمرِ لا تُفيدُ الفَورَ ولا التَّراخيَ، وإنَّما تُفيدُ طَلَبَ الفِعلِ، وأمَّا الفَورُ أوِ التَّراخي فيَكونُ بالقَرينةِ؛ فقد نَظَرَ بَعضُهم إلى أدِلَّةٍ خارِجيَّةٍ اعتَبَرَها قَرينةً دالَّةً على الفَورِ، فحَكَمَ به [864] يُنظر: ((أثر الاختلاف في القواعد الأصولية)) للخن (ص: 328)، ((القرينة عند الأصوليين)) للخيمي (ص: 233). .
ومِنهم مَن قال: إنَّه يُفيدُ التَّراخيَ؛ للقَرائِنِ، قال ابنُ المُرتَضى: (ولهذا حُكِمَ بالحَجِّ على التَّراخي؛ لقَرينةٍ، وهيَ تَراخيه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَعدَ نُزولِ آيةِ الحَجِّ، وحُكِمَ بأنَّ غَيرَه على الفَورِ لقَرينةٍ) [865] ((منهاج الوصول إلى معيار العقول)) (ص: 99). .

انظر أيضا: