موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ السَّابِعُ: مُقتَضى الأمرِ المُطلَقِ مِن جِهةِ تَكرارِ المَأمورِ به وعَدَمِه


التَّكرارُ مَصدَرُ كَرَّ يَكُرُّ تَكرارًا وتَكريرًا، وأصلُ هذه المادَّةِ يَدُلُّ على الجَمعِ والتَّرديدِ، يُقالُ: كَرَّرَتِ الحَديثَ: إذا رَدَّدَته وأعَدتَه مَرَّةً أُخرى [866] يُنظر: ((الصحاح)) للجوهري (2/804)، ((لسان العرب)) لابن منظور (5/135). .
وليس المُرادُ مِنَ التَّكرارِ هنا مَعناه الحَقيقيَّ، وهو إعادةُ الفِعلِ الأوَّلِ؛ فإنَّ ذلك غَيرُ مُمكِنٍ مِنَ المُكَلَّفِ، بَلِ المُرادُ مِنه: تَحصيلُ مِثلِ الفِعلِ الأوَّلِ [867] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (3/922)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1095)، ((البحر المحيط)) للزركشي (3/313). .
قال السَّمعانيُّ: (مَعنى التَّكرارِ: أن يَفعَلَ فِعلًا، وبَعدَ فراغِه منه يَعودُ إليه) [868] ((قواطع الأدلة)) (1/71). .
ولا خِلافَ بَينَ الأُصوليِّينَ أنَّ الفِعلَ إن كان مُقَيَّدًا بقَرينةٍ تَدُلُّ على المَرَّةِ أوِ التَّكرارِ فإنَّما يُحمَلُ على ما دَلَّت عليه القَرينةُ، ومِمَّن حَكى ذلك التَّفتازانيُّ [869] قال: ((لا خِلافَ في أنَّ الأمرَ المُقَيَّدَ بقَرينةِ العُمومِ والتَّكرارِ، أوِ الخُصوصِ والمَرَّةِ، يُفيدُ ذلك، وإنَّما الخِلافُ في الأمرِ المُطلَقِ)). ((التلويح)) (1/305). .
وقدِ اختَلَف الأُصوليُّونَ في الأمرِ المُطلَقِ هَل يَقتَضي تَكرارَ المَأمورِ به أو لا؟ والرَّاجِحُ أنَّه لا يَدُلُّ بذاتِه على التَّكرارِ ولا على المَرَّةِ، وإنَّما يُفيدُ طَلَبَ الماهيَّةِ فقَط مِن غَيرِ إشعارٍ بالوَحدةِ والكَثرةِ، أي: أنَّه يَقتَضي مُجَرَّدَ الامتِثالِ، فتَبرَأُ ذِمَّةُ المُكَلَّفِ ويَخرُجُ عن عُهدةِ التَّكليفِ بالِامتِثالِ مَرَّةً واحِدةً. ولا يُمكِنُ إدخالُ الماهيَّةِ في الوُجودِ بأقَلَّ مِن مَرَّةٍ، فصارَتِ المَرَّةُ مِن ضَروريَّاتِ الإتيانِ بالمَأمورِ به، إلَّا أنَّ الأمرَ لا يَدُلُّ عليها بذاتِه، بَل بطَريقِ الالتِزامِ [870] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1093)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 172)، ((البحر المحيط)) للزركشي (3/312)، ((التحبير)) للمرداوي (5/2213). .
وهو رِوايةٌ عن أحمَدَ [871] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/670)، ((التحبير)) للمرداوي (5/2213)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/44). ، وقَولُ عامَّةِ الحَنَفيَّةِ [872] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/20)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/351)، ((فواتح الرحموت)) للأنصاري (1/406). ، وأكثَرِ المالِكيَّةِ [873] يُنظر: ((المحصول)) لابن العربي (ص: 59)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 130). ، وأكثَرِ الشَّافِعيَّةِ [874] يُنظر: ((التبصرة)) (ص: 41)، ((شرح اللمع)) (1/220) كلاهما للشيرازي. ، وبَعضِ الحَنابِلةِ [875] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (1/187). ، وابنِ حَزمٍ [876] يُنظر: ((الإحكام)) (3/70). ، وأكثَرِ الأُصوليِّينَ [877] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (2/116)، ((التلخيص)) لإمام الحرمين (1/298)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (3/923). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّه قد ورَدَ الأمرُ في القُرآنِ الكَريمِ بمَعنى التَّكرارِ، كما في قَولِ اللهِ تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة: 43] ، وقَولِه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ [البقرة: 183] ، وورَدَ أيضًا للمَرَّةِ الواحِدةِ، كما في قَولِ اللهِ تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: 196] ، فحينَئِذٍ إمَّا أن يَكونَ حَقيقةً فيهما، فيَلزَمُ الاشتِراكُ، أو في أحَدِهما فيَلزَمُ المَجازُ، والمَجازُ والِاشتِراكُ على خِلافِ الأصلِ، فيَكونُ إذَن للقَدرِ المُشتَرَكِ بَينَهما، وهو طَلَبُ الإتيانِ بالمَأمورِ به فقَط، وذلك أعَمُّ مِن أن يَكونَ في المَرَّةِ الواحِدةِ أوِ المَرَّاتِ، وحينَئِذٍ لا يَدُلُّ على أحَدِهما بخُصوصِه إلَّا بقَرينةٍ [878] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1100). .
2- أنَّه لَو كان مُقتَضيًا للتَّكرارِ لَعَمَّ جَميعَ الأوقاتِ حتَّى يَجِبَ فِعلُ المَأمورِ به فيها؛ وذلك لعَدَمِ أولَويَّةِ وقتٍ دونَ وقتٍ، لَكِنَّه لا يَعُمُّ جَميعَ الأوقاتِ؛ لوجهَينِ:
أحَدُهما: أنَّه لَو عَمَّها لَلَزِمَ وُقوعُ التَّكليفِ بما لا يُطاقُ.
والثَّاني: أنَّه يَلزَمُ أن يَنسَخَه كُلُّ تَكليفٍ يَأتي بَعدَه لا يُمكِنُ مُجامَعَتُه له في الوُجودِ؛ وذلك لأنَّ الأمرَ الأوَّلَ قدِ استَوعَبَ جَميعَ الأوقاتِ بفِعلِ المَأمورِ به، والثَّاني يَقتَضي الإتيانَ بالمَأمورِ به، والإتيانُ بالمَأمورِ به أوَّلًا لا يُمكِنُ مَعَ الإتيانِ بالمَأمورِ به ثانيًا، فيَرتَفِعُ وُجوبُه؛ لعَدَمِ إمكانِ فِعلِه، فيَلزَمُ النَّسخُ، وهو باطِلٌ؛ لأنَّ الأمرَ ببَعضِ الصَّلَواتِ ليس نَسخًا لغَيرِها، والأمرُ بالحَجِّ ليس نَسخًا للصَّلاةِ، فثَبَتَ أنَّه لا يَعُمُّ كُلَّ الأوقاتِ، وحينَئِذٍ لا يَقتَضي التَّكرارَ [879] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1103). .
وقيلَ: إنَّ الأمرَ المُطلَقَ يَدُلُّ على التَّكرارِ المُستَوعِبِ لزَمانِ العُمُرِ، وهو مَنسوبٌ إلى مالِكٍ [880] قال ابنُ القَصَّارِ: (ليس عن مالِكٍ رَحِمَه اللهُ فيه نَصٌّ، ولَكِنَّ مَذهَبَه عِندي يَدُلُّ على تَكرارِه إلَّا أن يَقومَ دَليلٌ). ((المقدمة)) (ص: 136). ويُنظر: ((إيضاح المحصول)) للمازري (ص: 205)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 130). ، والشَّافِعيِّ [881] يُنظر: ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 75). ، ورِوايةُ أحمَدَ [882] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/264)، ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 20)، ((التحبير)) للمرداوي (3/2211). ، وهو قَولُ بَعضِ المالِكيَّةِ [883] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 130). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ [884] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/220). ، وأكثَرِ الحَنابِلةِ [885] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/264)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/630)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/43). ، وحَكاه الهِنديُّ وابنُ السُّبكيِّ عن جَماعةٍ مِنَ الفُقَهاءِ [886] يُنظر: ((نهاية الوصول)) (3/922)، ((الإبهاج)) (4/1094). .
وقيلَ: إنَّه يَدُلُّ على المَرَّةِ، ولا يَحتَمِلُ التَّكرارَ، وإنَّما يُحمَلُ عليه بدَليلٍ. نَقَلَه الشِّيرازيُّ عن أكثَرِ الشَّافِعيَّةِ [887] يُنظر: ((شرح اللمع)) (1/220). ، وحَكاه الكَلْوَذانيُّ عن أكثَرِ الفُقَهاءِ [888] يُنظر: ((التمهيد)) (1/186). ، وقال أبو حامِدٍ الإسفِرايِينيُّ: (يَدُلُّ عليه كَلامُ الشَّافِعيِّ في الفُروعِ، وعليه أكثَرُ الأصحابِ، وهو الصَّحيحُ الأشبَهُ بمَذاهبِ العُلَماءِ) [889] يُنظر: ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (2/511)، ((البحر المحيط)) للزركشي (3/313)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (3/1182). .
قال الشَّافِعيُّ: (فكان ظاهِرُ قَولِ اللهِ: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6] أقَلَّ ما وقَعَ عليه اسمُ الغَسلِ، وذلك مَرَّةٌ، واحتَمَلَ أكثَرَ، فسَنَّ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الوُضوءَ مَرَّةً، فوافقَ ذلك ظاهرَ القُرآنِ، وذلك أقَلُّ ما يَقَعُ عليه اسمُ الغَسلِ، واحتَمَلَ أكثَرَ، وسَنَّه مَرَّتَينِ وثَلاثًا) [890] ((الرسالة)) (ص: 164). .
قال ابنُ السُّبكيِّ: (إنَّ النَّقَلةَ لهذا عن أصحابِنا لا يُفرِّقونَ بَينَه وبَينَ الرَّأيِ المُختارِ. وليس غَرَضُهم إلَّا نَفيَ التَّكرارِ والخُروجَ عنِ العُهدةِ بالمَرَّةِ؛ ولذلك لم يَحكِ أحَدٌ مِنهمُ المَذهَبَ المُختارَ مَعَ حِكايةِ هَذا، وإنَّما اقتَصَروا على هَذا؛ لأنَّه عِندَهم هو نَفسُ ذلك المَذهَبِ) [891] ((رفع الحاجب)) (2/511). .
لَكِن ذَكَرَ الزَّركَشيُّ الفَرقَ بَينَ هذا القَولِ وبَينَ القَولِ المُختارِ، فقال: (بَينَهما فرقٌ من جِهةِ أنَّ دَلالَتَه على المَرَّةِ، هَل هيَ بطريقِ المُطابَقةِ أوِ الالتِزامِ؟ وأنَّ عَدَمَ دَلالَتِه على التَّكرارِ هَل هيَ لعَدَمِ احتِمالِ اللَّفظِ له أصلًا، أو لأنَّه يَحتَمِلُه ولَكِن لَمَّا لم يَتَعَيَّنْ تُوُقِّف فيه؟) [892] ((البحر المحيط)) (3/314). .
وقيلَ بالتَّوقُّفِ، وهو قَولُ الباقِلَّانيِّ [893] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) (2/117). ، وإمامِ الحَرَمَينِ [894] يُنظر: ((التلخيص)) (1/299). .
والتَّوقُّفُ هنا مُحتَمِلٌ لشَيئَينِ:
أحَدُهما: أن يَكونَ مُشتَرَكًا بَينَ التَّكرارِ والمَرَّةِ، فيَتَوقَّفُ إعمالُه في أحَدِهما على قَرينةٍ.
والثَّاني: أنَّه لأحَدِهما ولا نَعرِفُه، فيُتَوقَّفُ؛ لجَهلِنا بالواقِعِ [895] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1098). ويُنظر أيضًا: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (3/924). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
يَتَخَرَّجُ على هذه المَسألةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، ومِنها:
1- استِحبابُ إجابةِ المُؤَذِّنِ، هَل هو مُختَصٌّ بالمُؤَذِّنِ الأوَّلِ، حتَّى لَو سَمِعَ ثانيًا فلا يُستَحَبُّ إجابَتُه؟ يَتَخَرَّجُ الجَوابُ على هذه المَسألةِ [896] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1110). .
2- أنَّه لا يُجمَعُ بَينَ فريضَتَينِ بتَيَمُّمٍ واحِدٍ عِندَ الشَّافِعيِّ؛ لأنَّ مُقتَضى قَولِ اللهِ تعالى: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إلى قَولِ اللهِ سُبحانَه: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا أنَّ كُلَّ قائِمٍ إلى الصَّلاةِ يُؤمَرُ بالغَسلِ بالماءِ إن قَدَر، وبالمَسحِ بالتُّرابِ إن عَجَز، والمُتَيَمِّمُ في المَكتوبةِ الثَّانيةِ قائِمٌ إلى الصَّلاةِ مَأمورٌ بالغَسلِ إن قَدَر، فليَكُنْ مَأمورًا بالمَسحِ إن عَجَز، هذا ما يَقتَضيه ظاهرُ اللَّفظِ إلى أن يُستَثنى منه ما يَقومُ الدَّليلُ عليه [897] يُنظر: ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 77). .

انظر أيضا: