موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الثَّامِنُ: الأمرُ المُعَلَّقُ بشَرطٍ أو صِفةٍ هَل يَقتَضي تَكرارَ المَأمورِ به بتَكرارِ ما عُلِّقَ به أو لا؟


مِثالُ الأمرِ المُعَلَّقِ بشَرطٍ: قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائِدة: 6] .
ومِثالُ الأمرِ المُعَلَّقِ بصِفةٍ: قَولُ اللهِ تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة: 38] [898] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (2/107)، ((الإحكام)) للآمدي (2/161)، ((نهاية الوصول)) للهندي (3/941). .
وهذه المَسألةُ مُتَفرِّعةٌ عنِ المَسألةِ السَّابِقةِ، فالكَلامُ هنا على القَولِ بأنَّ الأمرَ المُطلَقَ لا يُفيدُ التَّكرارُ، وأمَّا على القَولِ بأنَّ الأمرَ المُطلَقَ يُفيدُ التَّكرارَ فأَولى وأحرى أن يُفيدَ التَّكرارَ عِندَ تَعَلُّقِه بشَرطٍ؛ لأنَّ الشُّروطَ اللُّغَويَّةَ أسبابٌ، والحُكمُ يَتَكَرَّرُ بتَكَرُّرِ أسبابِه [899] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/73)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (2/474). .
فكُلُّ مَن جَعَل الأمرَ المُطلَقَ مُفيدًا للتَّكرارِ قال به هاهنا أيضًا، مِن بابِ أَولى [900] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (2/130)، ((المحصول)) للرازي (2/107)، ((الإحكام)) للآمدي (2/161)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1112). .
أمَّا القائِلونَ بأنَّ الأمرَ المُطلَقَ لا يُفيدُ التَّكرارَ؛ فقدِ اختَلَفوا في هذه المَسألةِ، والرَّاجِحُ: أنَّ الأمرَ المُعَلَّقَ بالشَّرطِ أوِ الصِّفةِ لا يَتَكَرَّرُ بتَكرارِها إلَّا أن يَقومَ دَليلٌ على التَّكرارِ. وهذا هو قَولُ أكثَرِ القائِلينَ بأنَّ الأمرَ المُطلَقَ لا يَقتَضي التَّكرارَ، فيَكونُ حُكمُه عِندَ وُجودِ الشَّرطِ والصِّفةِ، مِثلُ حُكمِه عِندَ إطلاقِ الأمرِ [901] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (2/130)، ((البحر المحيط)) للزركشي (3/318)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (3/1376). ، وصَحَّحه الباقِلَّانيُّ [902] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) (2/130). ، وابنُ فُورَكٍ [903] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (3/318). ، والشِّيرازيُّ [904] يُنظر: ((التبصرة)) (ص: 47)، ((شرح اللمع)) (1/228). ، والسَّمعانيُّ [905] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) (1/73). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّه قد ثَبَتَ بالأدِلَّةِ أنَّ الأمرَ المُطلَقَ لا يُفيدُ التَّكرارَ، فكذلك المُعَلَّقُ بالشَّرطِ؛ لأنَّ الشَّرطَ لا يَقتَضي إلَّا تَأخُّرَ الأمرِ إلى وُجودِ الشَّرطِ، ثُمَّ إذا وُجِدَ الشَّرطُ تَعَيَّن الأمرُ مَنزِلةَ الابتِداءِ في هذه الحالةِ، فلا يُفيدُ إلَّا ما يُفيدُه عِندَ ابتِدائِه [906] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (2/131)، ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 48)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/75). .
2- أنَّ العُرفَ دَلَّ على أنَّ الأمرَ إذا عُلِّقَ بشَرطٍ؛ فإنَّه لا يَتَكَرَّرُ بتَكَرُّرِ الشَّرطِ؛ لأنَّه لا يُعقَلُ منه إلَّا فِعلُه مَرَّةً واحِدةً، وبَيانُ ذلك: أنَّ الرَّجُلَ إذا قال لغُلامِه: "إذا دَخَلتَ السُّوقَ فاشتَرِ لَحمًا"؛ فإنَّه لا يُفيدُ أنَّه كُلَّما دَخَلَ السُّوقَ يَجِبُ عليه أن يَشتَريَ اللَّحمَ.
وكذلك لَو قال: "إن رَدَّ اللهُ عليَّ مالي أو دابَّتي أو صِحَّتي، فلَه عليَّ كَذا"، لَم يَتَكَرَّرِ الجَزاءُ بتَكَرُّرِ الشَّرطِ.
وكذلك لَو قال لزَوجَتِه: "إن دَخَلتِ الدَّارَ فأنتِ طالِقٌ"؛ فإنَّه لا يَتَكَرَّرُ وُقوعُ الطَّلاقِ بتَكَرُّرِ دُخولِها في الدَّارِ.
وكُلُّ هذا مَعلومٌ قَطعًا [907] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/229)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/75)، ((المحصول)) للرازي (2/107)، ((الفائق)) لصفي الدين الهندي (1/216)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 174). .
3- قياسُ الأمرِ المُعَلَّقِ بشَرطٍ أو صِفةٍ على الخَبَرِ المُعَلَّقِ بشَرطٍ أو صِفةٍ، والخَبَرِ المُعَلَّقِ على الشَّرطِ، كقَولِ: زيدٌ سيَدخُلُ الدَّارَ لَو دَخَلَها عَمرٌو، فإذا دَخَلَها عَمرٌو ودَخلَها زيدٌ فإنَّه يُعَدُّ صادِقًا، وإن لَم يَتَكَرَّرْ دُخولُ زَيدٍ عِندَ دُخولِ عَمرٍو؛ فوجَبَ أن يَكونَ الأمرُ المُعَلَّقُ بشَرطٍ أو صِفةٍ كذلك [908] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (2/108). .
وقيلَ: إنَّ الأمرَ المُعَلَّقَ بشَرطٍ أو صِفةٍ يُفيدُ التَّكرارَ، وإن كان لا يُفيدُه عِندَ إطلاقِ الأمرِ. وهو قَولُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ [909] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/20)، ((تيسير التحرير)) لأمبر بادشاه (1/351). ، وجُمهورِ المالِكيَّةِ [910] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 131)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (2/473). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ [911] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 47)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/73). ، وبَعضِ الحَنابِلةِ [912] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/275)، ((التمهيد)) للكلوذاني (1/204)، ((التحبير)) للمرداوي (5/2220). .
وجَمَع الرَّازيُّ بَينَ القَولَينِ، فاختارَ أنَّه لا يُفيدُ التَّكرارَ مِن جِهةِ اللَّفظِ، ويُفيدُه مِن جِهةِ وُرودِ الأمرِ بالقياسِ، ثُمَّ قال: (هذا هو الحَقُّ، وعِندَ هذا يَظهَرُ أنَّه لا مُخالَفةَ بَينَ هذا المَذهَبِ وبَينَ ظاهِرِ المَذهَبِ المَنقولِ عنِ الأُصوليِّينَ مِن أنَّه لا يُفيدُ التَّكرارَ، وهو حَقٌّ، ونَحنُ نَعني به أنَّه يُفيدُ ظَنَّ العِلِّيَّةِ، فإذا انضَمَّ الأمرُ بالقياسِ حَصَلَ مِن مَجموعِهما إفادةُ التَّكرارِ، ولا مُنافاةَ بَينَ هذا المَذهَبِ وبَينَ ما قالوه) [913] ((المحصول)) (2/107). .
وقال صَفيُّ الدِّينِ الهِنديُّ: (اعلَمْ أنَّ الخِلافَ فيما إذا لم يُعلَمْ كَونُ المُعَلَّقِ عليه عِلَّةً للمُعَلِّقِ، أمَّا إذا عُلِمَ ذلك إمَّا مِن دَليلٍ مُنفصِلٍ، أو مِن نَفسِ تَرتيبِ الحُكمِ على الوَصفِ؛ فإنَّه يُشعِرُ بعِلِّيَّةِ الوَصفِ... فلا خِلافَ فيه بَينَ القائِسينَ، لَكِنَّه ما جاءَ مِنَ الأمرِ والتَّعليقِ، بَل مِنَ العِلَّةِ، ووقَعَ التَّعَبُّدُ بالقياسِ) [914] ((نهاية الوصول)) (3/942). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
يَتَخَرَّجُ على هذه المَسألةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- لَو قال لوكيلِه: "إن دَخَلَت زَوجَتي الدَّارَ فطَلِّقْها"، فهَل يَتَكَرَّرُ الطَّلاقُ بتَكَرُّرِ الدُّخولِ؟
اختُلِف في ذلك [915] يُنظر: ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 285)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (3/1379). :
فقيلَ: لا يُطَلِّقُها إلَّا طَلقةً واحِدةً، وإن تَكَرَّر الدُّخولُ.
وقيلَ: يُطَلِّقُها كُلَّما تَكَرَّرَ دُخولُها، فإن دَخَلَت ثَلاثَ مَرَّاتٍ يُطَلِّقُها ثَلاثَ مَرَّاتٍ.
2- هَل تَجِبُ الصَّلاةُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كُلَّما ذُكِرَ؟
اختُلِف في ذلك [916] يُنظر: ((نفائس الأصول)) للقرافي (5/2126)، ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 285)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (3/1379). :
فقيلَ: إنَّ الواجِبَ هو: الصَّلاةُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَرَّةً واحِدةً في المَجلِسِ الذي يَتَكَرَّرُ فيه ذِكرُه؛ عَمَلًا بقَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((رَغِمَ أنفُ رَجُلٍ ذُكِرتُ عِندَه فلَم يُصَلِّ علَيَّ)) [917] أخرجه الترمذي (3545)، وأحمد (7451) من حديثِ أبي هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه ابنُ حبان في ((صحيحه)) (908)، وابن حجر كما في ((الفتوحات الربانية)) لابن علان (3/319)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (3545)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (7451). ؛ بناءً على أنَّ الأمرَ المُطلَقَ بشَرطٍ لا يَقتَضي التَّكرارَ بتَكرارِ الشَّرطِ.
الثَّاني: أنَّ الواجِبَ هو الصَّلاةُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كُلَّما ذُكِرَ في المَجلِسِ الواحِدِ؛ لأنَّ الأمرَ المُطلَقَ يَقتَضي التَّكرارَ بتَكرارِ الشَّرطِ.
الثَّالِثُ: أنَّ الواجِبَ هو الصَّلاةُ على النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مَرَّةً واحِدةً في العُمُرِ كُلِّه؛ لأنَّ الأمرَ المُعَلَّقَ بشَرطٍ لا يَقتَضي التَّكرارَ بتَكرارِ الشَّرطِ.

انظر أيضا: