المَطلَبُ التَّاسِعُ: الأمرُ المُكَرَّرُ لَفظُه لمَأمورٍ واحِدٍ هَل يَقتَضي تَكرارَ المَأمورِ به؟
وذلك أن يَكونَ الأمرُ الثَّاني مِن جِنسِ الأمرِ الأوَّلِ، كما لَو قال رَجُلٌ لخادِمِه: أعطِ زَيدًا دِرهَمًا، أعطِ زَيدًا دِرهَمًا، أو: "اسقِني ماءً، اسقِني ماءً"، أو: "اشتَرِ لَحمًا، اشتَرِ لَحمًا"
[918] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (1/210)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 131)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/721). .
فمَن ذَهَبَ إلى أنَّ الأمرَ يُفيدُ التَّكرارَ فإنَّه يَقولُ هنا بالتَّكرارِ؛ قال ابنُ عَقيلٍ: (لأنَّ مَن قال: إنَّ مُطلَقَ الأمرِ يَقتَضي التَّكرارَ، يَقبُحُ أن يَتَوقَّفَ عنِ القَولِ في الأمرِ المُكَرَّرِ بالتَّكرارِ)
[919] ((الواضح)) لابن عقيل (3/10). .
واختَلَف القائِلونَ بأنَّ الأمرَ لا يَقتَضي التَّكرارَ في لَفظِ الأمرِ إذا تَكَرَّرَ، هَل يَقتَضي التَّكرارَ؟
والرَّاجِحُ: أنَّه لا يوجِبُ تَكرارَ المَأمورِ به، ويُحمَلُ تَكرارُ الأمرِ بالفِعلِ على وَجهِ التَّأكيدِ للأمرِ، وهو رِوايةٌ عن أحمَدَ
[920] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/723). ، وهو قَولُ كَثيرٍ مِنَ الأُصوليِّينَ
[921] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (2/139). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ
[922] يُنظر: ((اللمع)) للشيرازي (ص: 15)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (3/1011)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (2/565). ، وبَعضِ الحَنابِلةِ
[923] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (1/210)، ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 23). .
الأدِلَّةُ:1- أنَّ أوامِرَ اللهِ تعالى في القُرآنِ قد تَكَرَّرَت، ولَم يُفِدِ الثَّاني غَيرَ ما أفادَ الأوَّلَ، كقَولِ اللهِ تعالى:
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ [البقرة: 43] في مَواضِعَ كَثيرةٍ، ونَحوِه
[924] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (1/211)، ((البحر المحيط)) للزركشي (3/321). .
2- قياسُ الأمرِ المُكَرَّرِ على النَّذرِ المُكَرَّرِ، والخَبَرِ المُكَرَّرِ، واليَمينِ المُكَرَّرِ.
فلَو كَرَّرَ النَّذرَ وقال: "للَّهِ عليَّ أن أصومَ، للَّهِ عليَّ أن أصومَ" لَم يَجِبْ عليه إلَّا صَومٌ واحِدٌ فقَط، فلا أثَرَ لتَكرارِ اللَّفظِ.
وكذلك لَو قال: "إنِّي قد تَصَدَّقتُ، إنِّي قد تَصَدَّقتُ"؛ فإنَّه يَصدُقُ بالتَّصَدُّقِ لمَرَّةٍ واحِدةٍ.
وكذلك لَو قال في اليَمينِ: "واللَّهِ لأصومَنَّ، واللَّهِ لأصومَنَّ"؛ فإنَّه يَبَرُّ بصَومِ يَومٍ واحِدٍ فقَط، فلَم يَكُنْ لهذا التَّكرارِ مِن أثَرٍ.
فإذا كان الفِعلُ لا يَتَكَرَّرُ في هذه الأُمورِ فكذلك لَفظُ الأمرِ لا يَقتَضي تَكرارَ الفِعلِ، ولا فَرقَ
[925] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (3/1381). .
3- أنَّ الأمرَ الثَّانيَ يَحتَمِلُ الاستِئنافَ بأن يُرادَ به إيجابٌ مُستَأنَفٌ، ويَحتَمِلُ التَّأكيدَ بأن يُرادَ به تَأكيدُ الأوَّلِ، ولا يَجوزُ أن يوجِبَ فِعلًا ثانيًا بالشَّكِّ
[926] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/279)، ((التمهيد)) للكلوذاني (1/211)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 132). ، فالأمرُ الثَّاني الوارِدُ عَقيبَ الأوَّلِ ليس بقَطعيٍّ في العَمَلِ به؛ لاحتِمالِ التَّأكيدِ، ولا بظاهرِ؛ لأنَّ التَّأكيدَ -لكَونِه كَثيرَ الاستِعمالِ في مِثلِ هذه الصُّورِ- لا يَكونُ مَرجوحًا
[927] يُنظر: ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (2/85). .
وقيلَ: يَجِبُ تَكرارُ المَأمورِ به بتَكرارِ الأمرِ به؛ لأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهما لَوِ انفرَدَ لأوجَبَ فِعلًا، فوجَبَ أن يوجِبا فِعلَينِ بالِاجتِماعِ
[928] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (2/139). ، وهو قَولُ أكثَرِ الحَنَفيَّةِ
[929] يُنظر: ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (1/319)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/362). ، وبَعضِ المالِكيَّةِ
[930] يُنظر: ((إحكام الفصول)) للباجي (1/212)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 131)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (2/478). ، وأكثَرِ الشَّافِعيَّةِ
[931] يُنظر: ((اللمع)) للشيرازي (ص: 15)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (2/565)، ((البحر المحيط)) للزركشي (3/321). ، وصَحَّحه الشِّيرازيُّ
[932] يُنظر: ((اللمع)) (ص: 15). .
قال الجَصَّاصُ: (تَكرارُ الأمرِ يوجِبُ تَكرارَ الفِعلِ، وإن كان في صورةِ الأوَّلِ ما لَم تَقُمِ الدَّلالةُ على أنَّ المُرادَ بالثَّاني هو الأوَّلُ، نَحوُ قَولِ القائِلِ: "تَصَدَّقْ بدِرهَمٍ"، ثُمَّ يَقولُ له بَعدَ ذلك: "تَصدَّقْ بدِرهَمٍ"، فيَكونُ الثَّاني غَيرَ الأوَّلِ. وكذلك قال أصحابُنا فيمَن قال لامرَأتِه: أنتِ طالِقٌ، أنتِ طالِقٌ: إنَّ الثَّانيَ غَيرُ الأوَّلِ)
[933] ((الفصول)) (2/150). .
وقيلَ: إن ثَبَتَ بطَريقٍ ما، وعُلِمَ أنَّ تَكرارَه خارِجٌ على وَجهِ التَّأكيدِ، لَم يَلزَمْ به إلَّا فِعلُ مَرَّةٍ واحِدةٍ، وإن لَم يَقُمْ على ذلك دَليلٌ وجَبَ القَضاءُ بتَكرارِ المَأمورِ به لتَكَرُّرِه. وهو قَولُ الباقِلَّانيِّ
[934] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) (2/139). .
وقيلَ: يَتَوقَّفُ على بَيانِ الآمِرِ، وهو قَولُ ابنِ عَقيلٍ؛ حَيثُ قال: (وعِندي أنَّه يَقِفُ على بَيانِ المُستَدعي، فإن أرادَ به التَّأكيدَ والتَّفهيمَ لَم يَقتَضِ التَّكرارَ، وإن قَصدَ الاستِئنافَ اقتَضى التَّكرارَ، وإن أطلَقَ ولَم يَنوِ شَيئًا اقتَضى التَّكرارَ)
[935] ((الواضح)) (3/8). .
وقيلَ غَيرُ ذلك
[936] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/279)، ((الواضح)) لابن عقيل (3/9)، ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 131)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (2/84). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:يَتَخَرَّجُ على هذه المَسألةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- إذا قال رَجُلٌ لامرَأتِه: "أنتِ طالِقٌ، أنتِ طالِقٌ" مَوصولًا، ثُمَّ قال: أرَدتُ بالطَّلاقِ الثَّاني تَحقيقَ الأوَّلِ كان مَقبولًا قَولًا واحِدًا، وإن قال: ما كانت لي نيَّةٌ، فعلى قَولَينِ: أحَدُهما: أنَّهما طَلقةٌ واحِدةٌ؛ لأنَّها عادةُ التَّأكيدِ، قَصَدَه أو لَم يَقصِدْه. والقَولُ الثَّاني: أنَّهما طَلقَتانِ
[937] يُنظر: ((الجمع والفرق)) للجويني (3/244)، ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 23)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (2/565). .
2- أنَّه لَو قال الرَّجُلُ لزَوجَتِه: "طَلِّقي نَفسَك، طَلِّقي نَفسَك"؛ فإنَّها لا تُطلِّقُ نَفسَها إلَّا واحِدةً فقَط؛ لأنَّ تَكرارَ اللَّفظِ لا يَقتَضي التَّكرارَ
[938] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (3/1383). .
3- لَو قال الرَّجُلُ لوكيلِه: "طَلِّقْ زَوجَتي، طَلِّقْ زَوجَتي"؛ فإنَّه لا يُطلِّقُها إلَّا مَرَّةً واحِدةً؛ لأنَّ ذلك لا يَقتَضي التَّكرارَ
[939] يُنظر: ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 279)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (3/1383). .