موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ العاشِرُ: الأمرُ بَعدَ الاستِئذانِ


الاستِئذانُ: طَلَبُ الإذنِ فيما لا يَجوزُ إلَّا به [940] يُنظر: ((المسالك في شرح موطأ مالك)) لابن العربي (7/515). ، والإذنُ في الشَّيءِ: إعلامٌ بإجازَتِه والرُّخصةِ فيه [941] يُنظر: ((روح البيان)) للإستانبولي (6/175). .
قال الكرمانيُّ: (الاستِئذانُ: طَلَبُ الإذنِ، والإذنُ: إعلامٌ بجَوازِ فِعلٍ) [942] ((لباب التفسير)) (ص: 1736). .
وقال ابنُ عاشورٍ: (الاستِئذانُ: طَلَبُ الإذنِ، أي: في إباحةِ عَمَلٍ، وتَركِ ضِدِّه؛ لأنَّ شَأنَ الإباحةِ أن تَقتَضيَ التَّخييرَ بَينَ أحَدِ أمرَينِ مُتَضادَّينِ ... ولمَّا كان الاستِئذانُ يَستَلزِمُ شَيئَينِ مُتَضادَّينِ كما قُلنا، جازَ أن يُقالَ: استَأذَنتُ في كَذا، واستَأذَنتُ في تَركِ كَذا. وإنَّما يُذكَرُ غالِبًا مَعَ فِعلِ الاستِئذانِ الأمرُ الذي يَرغَبُ المُستَأذِنُ الإذنَ فيه دونَ ضِدِّه، وإن كان ذِكرُ كِلَيهما صحيحًا) [943] ((التحرير والتنوير)) (10/211). .
ومِثالُ الأمرِ بَعدَ الاستِئذانِ: أن يُستَأذَنَ على فِعلِ شَيءٍ، فيَقولُ: افعَلْه [944] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي (4/1087)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 171). .
وقدِ اختَلَف الأُصوليُّونَ في دَلالةِ الأمرِ الوارِدِ بَعدَ استِئذانٍ، ونَصَّ كَثيرٌ مِنهم على أنَّ دَلالةَ الأمرِ بَعدَ الاستِئذانِ كَدَلالةِ الأمرِ بَعدَ الحَظرِ، ولا فرقَ بَينَهما، ومِن ذلك:
قَولُ ابنِ السُّبكيِّ: (صَرَّحَ الإمامُ [945] المراد به الرازي، ويُنظر: ((المحصول)) (2/96). هنا: بأنَّ حُكمَ الأمرِ بَعدَ الاستِئذانِ حُكمُه بَعدَ التَّحريمِ، حتَّى يَقَعَ فيه الخِلافُ في إفادةِ الوُجوبِ. ومِثالٌ ذلك: أن يَستَأذِنَ على فِعلِ شَيءٍ، فيَقولَ: افعَلْه. وهذا حَسَنٌ مُتَّجِهٌ) [946] ((الإبهاج)) (4/1087). .
وقال الإسنَويُّ: (الأمرُ بَعدَ الاستِئذانِ كالأمرِ بَعدَ التَّحريمِ) [947] ((التمهيد)) (ص: 273). .
وقال ابنُ قاضي الجَبَلِ: (لا فرقَ بَينَ الأمرِ بَعدَ الحَظرِ، وبَينَ الأمرِ بَعدَ الاستِئذانِ) [948] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (5/2252)، ((الذخر الحرير)) للبعلي (ص: 444). .
وقال الشِّنقيطيُّ: (وخِلافُ أهلِ الأُصولِ في مَسألةِ الأمرِ بَعدَ الحَظرِ أوِ الاستِئذانِ مَعروفٌ) [949] ((أضواء البيان)) (5/110). .
والرَّاجِحُ أنَّ الأمرَ بَعدَ الاستِئذانِ يَعودُ إلى ما كان عليه قَبلَ الاستِئذانِ، فإن كان للوُجوبِ فهو للوُجوبِ، وإن كان للنَّدبِ فهو للنَّدبِ، وإن كان للإباحةِ فهو للإباحةِ. وهو ما سَبَقَ تَرجيحُه في مَسألةِ الأمرِ بَعدَ الحَظرِ.
الأدِلَّةُ:
1- عن عَطاءٍ، قال: سَألتُ ابنَ عَبَّاسٍ: أستَأذِنُ على أُختي؟ قال: نَعَم. قُلتُ: إنَّها في حَجري. قال: أتُحِبُّ أن تَراها عُريانةً؟! [950] أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (1063)، والطبري في ((التفسير)) (17/243)، والبيهقي (13685) باختِلافٍ يَسيرٍ، ولَفظُ البخاريِّ: عن عَطاءٍ، قال: سَألتُ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما، فقُلتُ: أستَأذِنُ على أُختي؟ فقال: نَعَم، فأعَدتُ، فقُلتُ: أُختانِ في حَجري، وأنا أمونُهما، وأُنفِقُ عليهما، أستَأذِنُ عليهما؟! قال: نَعَم، أتُحِبُّ أن تَراهما عُريانَتَينِ؟! صَحَّحَ إسنادَه ابنُ حجر في ((فتح الباري)) (11/27)، والألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (811). .
فقَولُ ابنِ عَبَّاسٍ: نَعَم، يَدُلُّ على وُجوبِ الاستِئذانِ قَبلَ الدُّخولِ على الأُختِ وكُلِّ مَن في مَعناها مِمَّن يَحرُمُ عليه النَّظَرُ إلى عَورَتِه مِنَ المَحارِمِ، وهذا هو الحُكمُ الثَّابِتُ قَبلَ الاستِئذانِ [951] يُنظر: ((دلالة الأمر بعد الاستئذان في السنة)) للعتيق (ص: 361). .
قال مُحَمَّدُ بنُ الحَسَنِ: (يَنبَغي أن يَستَأذِنَ الرَّجُلُ على كُلِّ مَن يَحرُمُ عليه النَّظَرُ إلى عَورَتِه ونَحوِها) [952] يُنظر: ((الموطأ)) (ص: 320). .
2- أنَّ الاستِئذانَ لا يَصلُحُ قَرينةً تُخرِجُ الأمرَ عن مُسَمَّاه، فدَلَّ على أنَّه يَعودُ إلى ما كان عليه قَبلَ الاستِئذانِ [953] يُنظر: ((دلالة الأمر بعد الاستئذان في السنة)) للعتيق (ص: 361). .
وقيلَ: الأمرُ بَعدَ الاستِئذانِ يُفيدُ الوُجوبَ. وهو قَولُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ، كأبي الطَّيِّبِ الطَّبَريِّ [954] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (2/600)، ((الغيث الهامع)) لأبي زرعة العراقي (ص: 243). ، والرَّازيِّ [955] يُنظر: ((المحصول)) (2/96). .
وقيلَ: الأمرُ بَعدَ الاستِئذانِ يُفيدُ الإباحةَ. وهو قَولُ بَعضِ الحَنابِلةِ [956] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/262)، ((الواضح)) لابن عقيل (2/527)، ((المسودة)) (ص: 18)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (2/356). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
يَتَخَرَّجُ على هذه المَسألةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- جَوازُ النَّومِ للجُنُبِ قَبلَ أن يَغتَسِلَ:
فعن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه سَألَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: أيَرقُدُ أحَدُنا وهو جُنُبٌ؟ قال: ((نَعَم، إذا تَوضَّأ أحَدُكُم فليَرقُدْ وهو جُنُبٌ)) [957] أخرجه البخاري (287) واللفظ له، ومسلم (306). .
فقَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((نَعَم، إذا تَوضَّأ)) مِن بابِ الأمرِ بَعدَ الاستِئذانِ، ومَعناه: نَعَم، ليَرقُدْ، وهو يَدُلُّ على جَوازِ النَّومِ للجُنُبِ قَبلَ الاغتِسالِ، واستِحبابِ النَّومِ على وُضوءٍ كما كان قَبلَ الاستِئذانِ.
وقد نَقَلَ النَّوَويُّ الإجماعَ على جَوازِ النَّومِ للجُنُبِ قَبلَ الاغتِسالِ، فقال: (يَجوزُ للجُنُبِ أن يَنامَ ويَأكُلَ ويَشرَبَ ويُجامِعَ قَبلَ الاغتِسالِ، وهذا مُجمَعٌ عليه) [958] ((شرح مسلم)) (3/217). .
لَكِن يُستَحَبُّ للجُنُبِ الوُضوءُ إذا أرادَ النَّومَ، وهذا مَذهَبُ الشَّافِعيَّةِ [959] يُنظر: ((المجموع)) للنووي (2/156)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/63). ، والحَنابِلةِ [960] يُنظر: ((الإنصاف)) للمرداوي (1/260)، ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/157). ، واختارَه ابنُ حَزمٍ [961] ((المحلى)) (1/100). .
2- استِحبابُ أداءِ الحَجِّ عنِ العاجِزِ:
فعن عبدِ اللهِ بنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما في حَديثِ المَرأةِ الخَثعَميَّةِ التي جاءَت تَستَفتي النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفيه أنَّها قالت: ((يا رَسولَ اللهِ، إنَّ فريضةَ اللهِ على عِبادِه في الحَجِّ أدرَكَت أبي شَيخًا كَبيرًا لا يَستَطيعُ أن يَثبُتَ على الرَّاحِلةِ، أفأحُجُّ عنه؟ قال: نَعَم، وذلك في حَجَّةِ الوداعِ)) [962] أخرجه البخاري (1513)، ومسلم (1334) واللفظ له. .
وفي رِوايةٍ: عنِ ابنِ عَبَّاسٍ، عنِ الفَضلِ: أنَّ امرَأةً مَن خَثعَمٍ قالت: يا رَسولَ اللهِ، إنَّ أبي شَيخٌ كَبيرٌ عليه فريضةُ اللهِ في الحَجِّ، وهو لا يَستَطيعُ أن يَستَويَ على ظَهرِ بَعيرِه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فحُجِّي عنه)) [963] أخرجها مسلم (1335). .
فالِاستِئذانُ: قَولُها: أفأحُجُّ عنه؟ والأمرُ الوارِدُ بَعدَه: قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((نَعَم))، وقَولُه: ((فحُجِّي عنه)). وهو يَدُلُّ على استِحبابِ الحَجِّ عنِ الأبِ إذا كان لا يَستَطيعُ الحَجَّ عن نَفسِه لعَجزِه أو مَرَضِه [964] يُنظر: ((دلالة الأمر بعد الاستئذان في السنة)) للعتيق (ص: 375). .
قال القاضي عِياضٌ: (في قَولِه عليه السَّلامُ لها: ((نَعَم)) دَليلٌ على صِحَّةِ الرُّخصةِ في ذلك، وجَوازِ النِّيابةِ فيه على سَبيلِ التَّطَوُّعِ) [965] ((إكمال المعلم)) (4/440). .
وقال الزُّرقانيُّ: (قَولُه في رِوايةٍ: ((فحُجِّي عنه))... أمرُ نَدبٍ وإرشادٍ، ورُخصةٌ لها أن تَفعَلَ؛ لِما رَأى مِن حِرصِها على تَحصيلِ الخَيرِ لأبيها) [966] ((شرح الزرقاني على الموطأ)) (2/437). .
3- جَوازُ الرُّقيةِ ما لَم يَكُن فيها شِركٌ:
عن كُرَيبٍ الكِنديِّ، قال: أخَذَ بيَدي عَليُّ بنُ الحُسَينِ، فانطَلَقنا إلى شَيخٍ مِن قُرَيشٍ يُقالُ له ابنُ أبي حَثمةَ، يُصَلِّي إلى أُسطوانةٍ، فجَلَسنا إليه، فلَمَّا رَأى عَليًّا انصَرَف إليه، فقال له عليٌّ: حَدِّثْنا حَديثَ أُمِّك في الرُّقيةِ، فقال: حَدَّثَتني أُمِّي أنَّها كانت تَرقَي في الجاهليَّةِ، فلَمَّا جاءَ الإسلامُ قالت: لا أرَقي حتَّى أستَأذِنَ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأتَته فاستَأذَنَته، فقال لها رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "ارقِي ما لَم يَكُنْ فيها شِركٌ" [967] أخرجه ابن حبان (6092) واللفظ له، والحاكم (6889). صَحَّحه ابن حبان، والألباني في ((صحيح الجامع)) (906). .
فالأمرُ الوارِدُ بَعدَ الاستِئذانِ: قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ارقِي ما لَم يَكُنْ فيها شِركٌ))، وهو يَدُلُّ على الإباحةِ، وهو مِن بابِ التَّداوي المَأذونِ فيه شَرعًا.
والقَولُ بحَملِ الأمرِ في الحَديثِ على الإباحةِ هو رُجوعٌ بحُكمِ الرُّقيةِ إلى أصلِها، وهو الإباحةُ؛ لأنَّ الرُّقيةَ مِن بابِ التَّداوي [968] يُنظر: ((دلالة الأمر بعد الاستئذان في السنة)) للعتيق (ص: 398). .

انظر أيضا: