موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الثَّامِنةُ: حُكمُ تَركِ المُداوَمةِ على المَندوبِ لخَوفِ اعتِقادِ العامَّةِ وُجوبَه


اختَلَف الأُصوليُّونَ في هذه المَسألةِ على قَولينِ:
القَولُ الأوَّلُ: لا يُترَكُ المَندوبُ لخَوفِ اعتِقادِ العامَّةِ وُجوبَه [468] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/388)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (1/226). ، وهو قَولُ الجُمهورِ [469] يُنظر: ((موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين)) (4/1/131). .
الأدِلَّةُ:
1- صُنعُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه حينَ قَبَّلَ الحَجَرَ الأسودَ، وقال: ((إنِّي أعلَمُ أنَّك حَجَرٌ لا تَضُرُّ ولا تَنفعُ، ولَولا أنِّي رَأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُقَبِّلُك ما قَبَّلتُك)) [470] أخرجه البخاري (1597) واللفظ له، ومسلم (1270). .
فقَد جَمَعَ رَضِيَ اللهُ عنه بينَ الأخذِ بالسُّنَّةِ، ودَفعِ ما عَساه يَخطُرُ في أذهانِ العامَّةِ مِنِ اعتِقادٍ فاسِدٍ [471] يُنظر: ((موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين)) (4/1/131). .
2- أنَّ القَولَ بتَركِه لئَلَّا يَعتَقِدَ العامَّةُ وُجوبَه مُخالِفٌ للأحاديثِ الوارِدةِ، ويَلزَمُ عليه تَركُ أكثَرِ السُّنَنِ [472] يُنظر: ((إعانة الطالبين)) للدمياطي (1/177). .
القَولُ الثَّاني: يَجوزُ تَركُ المَندوبِ أحيانًا لخَوفِ اعتِقادِ العامَّةِ وُجوبَه، وهو قَولُ مالِكٍ [473] يُنظر: ((الموافقات)) (4/105). ، ووافقَه مِنَ الشَّافِعيَّةِ أبو إسحاقَ المَرْوَزيُّ، فقال: (لا أُحِبُّ أن يُداوِمَ الإمامُ على مِثلِ أن يَقرَأَ كُلَّ يَومِ جُمُعةٍ بالجُمُعةِ ونَحوِه؛ لئَلَّا يَعتَقِدَ العامَّةُ وُجوبَه) [474] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/388)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (1/226). .
وذَهَبَ ابنُ تَيميَّةَ أيضًا إلى أنَّه لا يَنبَغي المُداومةُ على قِراءةِ سورَتَي السَّجدةِ والإنسانِ في صَلاةِ الفَجرِ يَومَ الجُمُعةِ؛ حَتَّى لا يَتَوهَّمَ العَوامُّ أنَّها واجِبةٌ وأنَّ تارِكَها مُسيءٌ، بَل يَنبَغي تَركُها أحيانًا؛ لعَدَمِ وُجوبِها [475] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (24/205). .
واستدَلُّوا على ذلك: بأنَّ المَندوبَ لا يَنبَغي أن يُسَوَّى بينَه وبينَ الواجِبِ، لا في القَولِ، ولا في الفِعلِ، كما لا يُسَوَّى بينَهما في الاعتِقادِ، فإن سُوِّيَ بينَهما في القَولِ أوِ الفِعلِ فعلى وَجهٍ لا يُخِلُّ بالاعتِقادِ، وبيانُ ذلك بأُمورٍ:
1- أنَّ التَّسويةَ في الاعتِقادِ باطِلةٌ باتِّفاقٍ، بمَعنى أن يَعتَقِدَ فيما ليس بواجِبٍ أنَّه واجِبٌ، والقَولُ أوِ الفِعلُ إذا كان ذَريعةً إلى مُطلَقِ التَّسويةِ وجَبَ أن يُفرَّقَ بينَهما، ولا يُمكِنُ ذلك إلَّا بالبيانِ القَوليِّ، والفِعلِ المَقصودِ به التَّفرِقةُ، وهو تَركُ الالتِزامِ في المَندوبِ [476] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (4/97). .
2- أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَترُكُ العَمَلَ وهو يُحِبُّ أن يَعمَلَ به؛ خَشيةَ أن يَعمَلَ به النَّاسُ فيُفرَضَ عليهم، فعن زيدِ بنِ ثابتٍ رَضِيَ اللهُ عنه ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اتَّخَذَ حُجرةً في المَسجِدِ مِن حَصيرٍ، فصَلَّى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيها لياليَ حَتَّى اجتَمَعَ إليه ناسٌ، ثُمَّ فقَدوا صَوتَه ليلةً، فظَنُّوا أنَّه قَد نامَ، فجَعَلَ بَعضُهم يَتَنَحنَحُ ليَخرُجَ إليهم، فقال: ما زالَ بكُمُ الذي رَأيتُ مِن صَنيعِكُم، حَتَّى خَشيتُ أن يُكتَبَ عليكُم، ولَو كُتِبَ عليكُم ما قُمتُم به، فصَلُّوا أيُّها النَّاسُ في بُيوتِكُم؛ فإنَّ أفضَلَ صَلاةِ المَرءِ في بيتِه إلَّا الصَّلاةَ المَكتوبةَ [477]قال الشَّاطِبيُّ: (يَحتَمِلُ وَجهَينِ: أحَدُهما: أن يُفرَضَ بالوَحيِ، وعلى هذا جُمهورُ النَّاسِ. والثَّاني: في مَعناه، وهو الخَوفُ أن يَظُنَّ فيها أحَدٌ مِن أُمَّتِه بَعدَه -إذا داومَ عليها- الوُجوبَ، وهو تَأويلٌ مُتَمَكِّنٌ). ((الموافقات)) (4/102). ) [478] أخرجه البخاري (7290) واللفظ له، ومسلم (781). .
3- أنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم عَمِلوا على هذا الاحتياطِ في الدِّينِ لمَّا فَهِموا هذا الأصلَ مِنَ الشَّريعةِ، وكانوا أئِمَّةً يُقتَدى بهم؛ فتَرَكوا أشياءَ، وأظهَروا ذلك ليُبيِّنوا أنَّ تَركَها غيرُ قادِحٍ وإن كانت مَطلوبةً [479] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (4/102). .
ومِن ذلك قَولُ حُذَيفةَ بنِ أَسَيدٍ: (شَهِدتُ أبا بَكرٍ وعُمَرَ وكانا لا يُضَحِّيانِ؛ مَخافةَ أن يَرى النَّاسُ أنَّها واجِبةٌ) [480] أخرجه وكيع في ((أخبار القضاة)) (3/41)، والطبراني (3/182) (3058)، والبيهقي (19508) باختِلافٍ يَسيرٍ، ولَفظُ الطَّبَرانيِّ: عن حُذيفةَ بنِ أَسَيدٍ، قال: (رَأيتُ أبا بَكرٍ وعُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما وما يُضَحِّيانِ مَخافةَ أن يُستَنَّ بهما، فحَمَلَني أهلي على الجَفاءِ بَعدَ أن عَلِمتُ مِنَ السُّنَّةِ، حَتَّى إنِّي لأُضَحِّي عن كُلٍّ). صحَّحه ابنُ حزم في ((المحلى)) (7/19)، وصحَّح إسناده ابن كثير في ((مسند الفاروق)) (1/332)، والألباني في ((إرواء الغليل)) (4/355). .
ولا خِلافَ في أنَّ الأُضحيَّةَ مَطلوبةٌ.
4- أنَّ أئِمَّةَ المُسلمينَ استَمَرُّوا على هذا الأصلِ على الجُملةِ وإنِ اختَلَفوا في التَّفاصيلِ؛ فقَد كرِهَ مالِكٌ صيامَ سِتٍّ مِن شَوَّالٍ، وذلك للعِلَّةِ المُتَقَدِّمةِ، مَعَ أنَّ التَّرغيبَ في صيامِها ثابتٌ صَحيحٌ [481] لَفظُه: عن أبي أيُّوبَ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه حَدَّثَه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن صامَ رَمَضانَ ثُمَّ أتبَعَه سِتًّا مِن شَوَّالٍ، كان كصيامِ الدَّهرِ)). أخرجه مسلم (1164). ؛ لئَلَّا يُعتَقَدَ ضَمُّها إلى رَمَضانَ [482] يُنظر: ((الموافقات)) للشاطبي (4/105). .
والرَّاجِحُ: أنَّه يُمكِنُ الجَمعُ بينَ القَولينِ، فيُؤخَذُ بالقَولِ الأوَّلِ في حالِ المُداوَمةِ على تَركِ المَندوبِ لخَوفِ اعتِقادِ العامَّةِ وُجوبَه، فلا يُترَك؛ لأنَّه يُؤَدِّي إلى تَركِ أكثَرِ السُّنَنِ.
والتَّبِعةُ في مِثلِ هذا على أهلِ العِلمِ؛ إذ همُ المُطالَبونَ بتَعليمِ النَّاسِ آدابَ دينِهم، وهدايَتِهم إلى سَبيلِ رَبِّهم.
وأمَّا تَركُ المَندوبِ أحيانًا في بَعضِ الأحوالِ فلا حَرَجَ فيه؛ لثُبوتِ ذلك عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه رَضِيَ اللهُ عنهم [483] يُنظر: ((الفوائد السنية)) للبرماوي (1/224). .

انظر أيضا: