موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ التَّاسِعةُ: لا يُترَكُ المَندوبُ إذا صارَ شِعارًا للمُبتَدِعةِ


وهو ما يَقومُ الدَّليلُ على أنَّه سُنَّةٌ، ثُمَّ يَتَهاونُ فيه النَّاسُ، ولا يُحافِظُ عليه إلَّا المُبتَدِعةُ.
وقد اختَلَف الأُصوليُّونَ في جَوازِ تَركِه في الحالِ على ثَلاثةِ أقوالٍ:
القَولُ الأوَّلُ: لا يَجوزُ تَركُ المَندوبِ لكونِه صارَ شِعارًا للمُبتَدِعةِ. وهو ما صَحَّحَه الزَّركشيُّ [484] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/387). .
واستَثنى ابنُ تيميَّةَ مِن ذلك بَعضَ المَواضِعِ، بحسبِ المصلحةِ الشَّرعيَّةِ الرَّاجحةِ؛ كما إذا صارَ المَندوبُ شِعارًا لأهلِ البدَعِ واختَلَطوا بأهلِ السُّنَّةِ، وصارَ في هذا الاختِلاطِ مَفسَدةٌ راجِحةٌ على مَصلَحةِ فِعلِ المَندوبِ؛ فقَد نَصَّ على أنَّه إذا كان في فِعلِ مُستَحَبٍّ مَفسَدةٌ راجِحةٌ لَم يَصِرْ مُستَحَبًّا.
وقال: (مِن هنا ذَهَبَ مَن ذَهَبَ مِنَ الفُقَهاءِ إلى تَركِ بَعضِ المُستَحَبَّاتِ إذا صارَت شِعارًا لَهم؛ فإنَّه لَم يَترُكْ واجِبًا بذلك، لَكِنْ قال: في إظهارِ ذلك مُشابَهةٌ لَهم، فلا يَتَميَّزُ السُّنِّيُّ مِنَ الرَّافِضيِّ، ومَصلَحةُ التَّميُّزِ عنهم لأجلِ هِجرانِهم ومُخالَفتِهم أعظَمُ مِن مَصلَحةِ هذا المُستَحَبِّ. وهذا الذي ذَهَبَ إليه يُحتاجُ إليه في بَعضِ المَواضِعِ إذا كان في الاختِلاطِ والاشتِباهِ مَفسَدةٌ راجِحةٌ على مَصلَحةِ فِعلِ ذلك المُستَحَبِّ، لَكِنَّ هذا أمرٌ عارِضٌ لا يَقتَضي أن يَجعَلَ المَشروعَ ليس بمَشروعٍ دائِمًا) [485] يُنظر: ((منهاج السنة النبوية)) (4/154). .
القَولُ الثَّاني: يَجوزُ تَركُ المَندوبِ؛ احتِراسًا مِنَ التَّشَبُّهِ بالمُبتَدِعةِ. وهو قَولُ ابنِ أبي هُرَيرةَ؛ ولهذا تُرِك التَّرجيعُ في الأذانِ، والجَهرُ بالبَسمَلةِ، والقُنوتُ في الصُّبحِ، والتَّخَتُّمُ في اليَمينِ، وتَسطيحُ القُبورِ [486] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/387). .
القَولُ الثَّالِثُ: التَّفصيلُ بينَ السُّنَنِ المُستَقِلَّةِ، وبينَ الهيئاتِ التَّابعةِ، فلا يُترَكُ القُنوتُ إذا صارَ شِعارًا للمُبتَدِعةِ، بخِلافِ التَّسطيحِ، والتَّخَتُّمِ في اليَمينِ ونَحوِهما؛ فإنَّها هيئاتٌ تابعةٌ. وهو قَولُ الغَزاليِّ [487] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (1/387). .
ولَعَلَّ الرَّاجِحَ هو القَولُ الأوَّلُ؛ لأنَّ مُحافَظةَ بَعضِ المُبتَدِعةِ على سُنَّةٍ حَتَّى تَصيرَ شِعارًا لَهم لا يُخرِجُها عن حَقيقةِ السُّنَّةِ، ولا يَزالُ خِطابُ الاقتِداءِ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيها مُتَوجِّهًا إلى أولَئِك الذينَ تَرَكوا السُّنَّةَ حَتَّى يَعودوا إليها؛ فالأصلُ الالتِزامُ بالسُّنَّةِ وإن صارَت شِعارًا لبَعضِ المُبتَدِعةِ، لَكِن قَد تَقتَضي بَعضُ الظُّروفِ والأحوالِ تَركَها بحسبِ المصلحةِ الشَّرعيَّةِ الرَّاجحةِ كما ذَكرَ ابنُ تَيميَّةَ [488] يُنظر: ((موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين)) (4/1/130). .

انظر أيضا: