موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الثَّاني عَشَرَ: الأمرُ بالشَّيءِ هَل هو نَهيٌ عن ضِدِّه؟


هَكَذا ورَدَتِ المَسألةُ في أكثَرِ كُتُبِ الأُصولِ، وقال القَرافيُّ: (أحسَنُ مِن هذه العِبارةِ: الأمرُ بالشَّيءِ نَهيٌ عن جَميعِ أضدادِه؛ فإذا قال له: اجلِسْ في البَيتِ، فقد نَهاه عنِ الجُلوسِ في السُّوقِ، والحَمَّامِ، والطَّريقِ، والبَحرِ، وغَيرِ ذلك مِنَ المَواضِعِ التي يُضادُّ الجُلوسُ فيها الجُلوسَ في البَيتِ) [978] ((نفائس الأصول)) (4/1487). .
وقدِ اختَلَف الأُصوليُّونَ في هذه المَسألةِ، والرَّاجِحُ: أنَّ الأمرَ بالشَّيءِ المُعَيَّنِ نَهيٌ عن ضِدِّ ذلك الشَّيءِ المُعَيَّنِ مِن جِهةِ المَعنى، أي: مِن جِهةِ الالتِزامِ عقلًا لا مِنَ الصِّيغةِ، سَواءٌ كان له ضِدٌّ واحِدٌ، أو أضدادٌ كَثيرةٌ. وهو قَولُ مالِكٍ [979] يُنظر: ((إيضاح المحصول)) للمازري (ص: 222)، ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 411). ، ورِوايةٌ عن أحمَدَ [980] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/368)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/693). ، وهو مَذهَبُ عامَّةِ الحَنَفيَّةِ [981] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 143)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/328). ، وهو مَذهَبُ أكثَرِ المالِكيَّةِ [982] يُنظر: ((الإشارة) (ص: 181)، ((إحكام الفصول)) (1/234) كلاهما للباجي، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (2/486). ، وأكثَرِ الشَّافِعيَّةِ [983] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (3/989)، ((البحر المحيط)) للزركشي (3/354). ، والحَنابِلةِ [984] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/368)، ((الواضح)) لابن عقيل (3/152)، ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 49)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/690). ، وبه قال جُمهورُ الأُصوليِّينَ [985] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (2/330)، ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 407). ، وحَكاه المازَريُّ عن أكثَرِ الفُقَهاءِ [986] يُنظر: ((إيضاح المحصول)) (ص: 222). ، وقال السَّمعانيُّ: (هذا مَذهَبُ عامَّةِ العُلَماءِ) [987] ((قواطع الأدلة)) (1/123). .
فعلى هذا يَكونُ الأمرُ بالشَّيءِ نَهيًا عن جَميعِ أضدادِه؛ لانتِفاءِ حُصولِ المَقصودِ إلَّا بانتِفاءِ كُلِّ ضِدٍّ، فالأمرُ بالصَّلاةِ -مثلًا- نَهيٌ في المَعنى عنِ الأكلِ والشُّربِ والنَّومِ، والأمرُ بالجُلوسِ في البَيتِ يَكونُ نَهيًا في المَعنى عنِ الجُلوسِ في الطَّريقِ، وغَيرِ ذلك مِنَ المَواضِعِ التي يُضادُّ الجُلوسُ فيها الجُلوسَ في البَيتِ [988] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (2/330)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (1/309). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّه لا يُمكِنُ فِعلُ المَأمورِ به إلَّا بتَركِ سائِرِ أضدادِه، فوجَبَ أن يَكونَ الأمرُ مُتَضَمِّنًا النَّهيَ عن ضِدِّه، فلَو قال: "قُمْ" لا يُمكِنُه فِعلُ القيامِ إلَّا بتَركِ القُعودِ، فوجَبَ أن يَكونَ نَهيًا عنِ القُعودِ، والِاضطِجاعِ، والرُّكوعِ، ونَحوِ ذلك، قياسًا على الأمرِ بالصَّلاةِ؛ فإنَّه لمَّا لم يُمكِنْه فِعلُ الصَّلاةِ إلَّا بما يُتَوصَّلُ به إليها، كالطَّهارةِ، واستِقبالِ القِبلةِ، وإحضارِ الماءِ، وغَيرِ ذلك، كان الأمرُ بالصَّلاةِ مُتَضَمِّنًا للأمرِ بكُلِّ ما يُتَوصَّلُ به إليها، فكذلك هاهنا [989] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 90)، ((الواضح)) لابن عقيل (3/152)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/381). .
2- أنَّ مَن أَذِنَ لغَيرِه في دُخولِ الدَّارِ، ثُمَّ قال له: "اخرُجْ" تضَمَّن هذا القَولُ مَنعَه مِنَ المُقامِ فيها، واللَّفظُ إنَّما هو أمرٌ بالخُروجِ، وقد عُقِلَ منه المَنعُ مِنَ المُقامِ الذي هو ضِدُّه [990] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/371). .
3- أنَّ الرَّجُلَ لَو قال لغُلامِه: "قُمْ" فقَعَدَ، حَسُن تَوبيخُه ولَومُه على القُعودِ، فيَقولُ له: "لمَ قَعَدتَ؟"، ولَو لَم يَكُنِ الأمرُ بالقيامِ اقتَضى النَّهيَ عن ضِدِّه، وهو القُعودُ، لَما حَسُنَ تَوبيخُه على القُعودِ [991] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/371)، ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 91). .
وقيلَ: إنَّ الأمرَ بالشَّيءِ هو بعَينِه النَّهيُ عن ضِدِّه مِن حَيثُ اللَّفظُ والمَعنى، فهو طَلَبٌ واحِدٌ، يَكونُ بالإضافةِ إلى جانِبِ الفِعلِ أمرًا، ويَكونُ بالإضافةِ إلى جانِبِ التَّركِ نَهيًا. فالسُّكونُ هو عَينُ تَركِ الحَرَكةِ، وطَلَبُ السُّكونِ هو عَينُ طَلَبِ تَركِ الحَرَكةِ، فالأمرُ بالسُّكونِ طَلَبٌ واحِدٌ، هو بالإضافةِ إلى السُّكونِ أمرٌ، وبالإضافةِ إلى الحَرَكةِ نَهيٌ. وهو قَولُ أبي الحَسَنِ الأشعَريِّ [992] يُنظر: ((البحر المحيط)) (3/353)، ((تشنيف المسامع)) (2/619) كلاهما للزركشي، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (3/1214). ، والباقِلَّانيِّ [993] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) (2/198). ، وبَعضِ الأُصوليِّينَ [994] يُنظر: ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 49)، ((التلويح)) للتفتازاني (1/430). قال مُحَمَّدٌ الأمينُ الشِّنقيطيُّ: (الذي يَظهَرُ -واللهُ أعلَمُ- أنَّ قَولَ المُتَكَلِّمينَ ومَن وافقَهم مِنَ الأُصوليِّينَ أنَّ الأمرَ بالشَّيءِ هو عَينُ النَّهيِ عن ضِدِّه، مَبنيٌّ على زَعمِهمُ الفاسِدِ أنَّ الأمرَ قِسمانِ: نَفسيٌّ، ولَفظيٌّ، وأنَّ الأمرَ النَّفسيَّ هو المَعنى القائِمُ بالذَّاتِ المُجَرَّدُ عنِ الصِّيغةِ، وبقَطعِهمُ النَّظَرَ عنِ الصِّيغةِ، واعتِبارِهمُ الكَلامَ النَّفسيَّ، زَعَموا أنَّ الأمرَ هو عَينُ النَّهي عنِ الضِّدِّ، مَعَ أنَّ مُتَعَلِّقَ الأمرِ طَلَبٌ، ومُتَعَلِّقَ النَّهيِ تَركٌ، والطَّلَبُ استِدعاءُ أمرٍ مَوجودٍ، والنَّهيُ استِدعاءُ تَركٍ؛ فليس استِدعاءَ شَيءٍ مَوجودٍ، وبهذا يَظهَرُ أنَّ الأمرَ ليس عَينَ النَّهيِ عنِ الضِّدِّ، وأنَّه لا يُمكِنُ القَولُ بذلك إلَّا على زَعمِ أنَّ الأمرَ هو الخِطابُ النَّفسيُّ القائِمُ بالذَّاتِ المُجَرَّدُ عنِ الصِّيغةِ). ((مذكرة أصول الفقه)) (ص: 37). ويُنظر: ((معالم أصول الفقه)) للجيزاني (ص: 403). .
وقيلَ: غَيرُ ذلك [995] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 90)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (2/331). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
يَتَخَرَّجُ على هذه المَسألةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- إذا قال لزَوجَتِه: "إن خالَفتِ نَهيي فأنتِ طالِقٌ"، ثُمَّ قال لها: "قُومي" فقَعَدَت؛ فإنَّ العُلَماءَ اختَلَفوا في ذلك، وكان سَبَبُ خِلافِهم هو خِلافَهم في هذه القاعِدةِ.
قال إمامُ الحَرَمَينِ: (ولَو قال لها: "إن خالَفتِ نَهيي فأنتِ طالِقٌ"، ثُمَّ قال لها: "قومي"، فقَعَدَت؛ فقد ذَهَبَ الفُقَهاءُ إلى أنَّ الأمرَ بالشَّيءِ نَهيٌ عن أضدادِ المَأمورِ به، وقالوا على حَسَبِ مُعتَقدِهم: إذا قَعَدَت فقد خالَفت نَهيَه؛ فيَقَعُ الطَّلاقُ) [996] ((نهاية المطلب)) (14/324). .
وقيلَ: إنَّها لا تُطَلَّقُ؛ بناءً على أنَّ الأمرَ بالشَّيءِ ليس نَهيًا عن ضِدِّه [997] يُنظر: ((نهاية المطلب)) لإمام الحرمين (14/324)، ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 97)، ((مذكرة أصول الفقه)) لمحمد الأمين الشنقيطي (ص: 39). .
2- إذا سَجَدَ على مَكانٍ نَجِسٍ فقدِ اختَلَف الفُقَهاءُ في حُكمِ صَلاتِه؛ بناءً على القاعِدةِ السَّابِقةِ:
فذَهَبَ الجُمهورُ إلى أنَّ صَلاتَه باطِلةٌ، فيَجِبُ أن يُعيدَها كُلَّها؛ لأنَّه مَأمورٌ بالسُّجودِ على مَكانٍ طاهرٍ، والأمرُ بالشَّيءِ نَهيٌ عن ضِدِّه، فالسُّجودُ على مَكانٍ نَجِسٍ مَنهيٌّ عنه، فوجَبَ أن تَبطُلَ صَلاتُه؛ لفِعلِه ما نُهيَ عنه.
وقيلَ: يُؤمَرُ بإعادةِ السُّجودِ على مَكانٍ طاهرٍ ويُجزِئُه؛ لأنَّ المَأمورَ به السُّجودُ على مَكانٍ طاهرٍ، وقد أتى به، أمَّا السُّجودُ على مَكانٍ نَجِسٍ فليس مَقصودًا بالنَّهيِ، وإنَّما المَقصودُ بالأمرِ فِعلُ السُّجودِ على مَكانٍ طاهرٍ؛ بناءً على أنَّ الأمرَ بالشَّيءِ ليس نَهيًا عن ضِدِّه [998] يُنظر: ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/337)، ((مفتاح الوصول)) للتلمساني (ص: 409). .

انظر أيضا: