موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الثَّالِثَ عَشَرَ: الأمرُ بالأمرِ بالشَّيءِ هَل هو أمرٌ بذلك الشَّيءِ أو لا؟


مَعنى المَسألةِ: أنَّ الشَّارِعَ إذا أمَرَ مُبَلِّغًا بشَيءٍ، فهَل هو أمرٌ للمَأمورِ الثَّاني بذلك كما لَو توجَّه نَحوَه الأمرُ مِن غَيرِ واسِطةٍ [999] يُنظر: ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (2/77)، ((الردود والنقود)) للبابرتي (2/80)، ((البحر المحيط)) للزركشي (3/347)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (2/555). ؟
كقَولِ الآمِرِ لزَيدٍ: مُرْ عَمرًا بأن يَبيعَ هذه السِّلعةَ. هَل يَكونُ ذلك أمرًا منه للثَّالِثِ -وهو عَمرٌو- ببَيعِها [1000] يُنظر: ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 274). ؟ في ذلك خِلافٌ، والرَّاجِحُ: أنَّ الأمرَ المُتَعَلِّقَ بأمرِ المُكَلَّفِ لغَيرِه بفِعلٍ مِنَ الأفعالِ لا يَكونُ أمرًا لذلك الغَيرِ بذلك الفِعلِ.
وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [1001] يُنظر: ((بذل النظر)) للأسمندي (ص: 116)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (2/79)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/361). ، والمالِكيَّةِ [1002] يُنظر: ((نفائس الأصول)) للقرافي (4/1607)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (2/554). ، والشَّافِعيَّةِ [1003] يُنظر: ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (2/557)، ((البحر المحيط)) للزركشي (3/345). ، والحَنابِلةِ [1004] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/717)، ((التحبير)) للمرداوي (5/2263). ، وبه قال جُمهورُ الأُصوليِّينَ [1005] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (3/347)، ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 102)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (3/1201)، ((التحبير)) للمرداوي (5/2263)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (2/557). ، وصَحَّحه الإسنَويُّ [1006] يُنظر: ((نهاية السول)) (ص: 177). ، والزَّركَشيُّ [1007] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) (2/612). ، وقال القَرافيُّ: (هذا هو الحَقُّ) [1008] ((نفائس الأصول)) (4/1607). .
الأدِلَّةُ:
1- قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مُروا أبناءَكُم بالصَّلاةِ لسَبعٍ)) [1009] أخرجه أبو داود (495)، وأحمد (6756) واللَّفظُ له من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما. صَحَّحه ابنُ الملقن في ((البدر المنير)) (3/238)، وابن باز في ((مجموع الفتاوى)) (29/186)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (495). .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّه لَو كان الأمرُ بالأمرِ أمرًا لَكان قَولُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ((مُروا أبناءَكُم بالصَّلاةِ لسَبعٍ)) أمرًا منه للصِّبيانِ، ولَو كان ذلك أمرًا للصِّبيانِ لَكانوا مُكَلَّفينَ بأمرِ الشَّارِعِ، وهم لَيسوا كذلك، والإجماعُ قائِمٌ على أنَّ الصِّبيانَ غَيرُ مَأمورينَ بالصَّلاةِ بأمرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المَذكورِ لفَقدِ شَرطِ التَّكليفِ، وهو التَّمَكُّنُ مِن فهمِ خِطابِ الشَّارِع، ويَدُلُّ عليه قَولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((رُفِع القَلَمُ عن ثَلاثةٍ: عنِ الصَّبيِّ حتَّى يَبلُغَ...)) [1010] لَفظُه: عن عَليِّ بنِ أبي طالِبٍ: لَقد عَلِمتُ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((رُفِع القَلَمُ عن ثَلاثةٍ: عنِ الصَّبيِّ حتَّى يَبلُغَ، وعنِ النَّائِمِ حتَّى يَستَيقِظَ، وعنِ المَعتوهِ حتَّى يَبرَأَ)). أخرجه أبو داوُد (4402) واللَّفظُ له، وأحمد (1328) بنحوه صَحَّحه ابنُ حزم في ((المحلى)) (9/206)، والنووي في ((المجموع)) (6/253)، والسخاوي في ((الأجوبة المرضية)) (2/767)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4402)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4402). ، وإنَّما الأمرُ واجِبٌ على الوَليِّ؛ ولذلك يُذَمُّ الوَليُّ بتَركِه شَرعًا [1011] يُنظر: ((المستصفى)) للغزالي (ص: 217)، ((روضة الناظر)) للطوفي (1/582)، ((الإحكام)) للآمدي (2/182)، ((بديع النظام)) للساعاتي (2/413)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (3/997). .
2- قَولُ اللهِ تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة: 103] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
أنَّ أمرَ اللهِ تعالى لنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأخذِ المالِ مِنَ الأُمَّةِ لا يَكونُ أمرًا للأُمَّةِ بإعطاءِ الصَّدَقةِ إليه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولَو كان الأمرُ بالأخذِ أمرًا بالإعطاءِ لَعُدَّ ذلك مُناقِضًا، كما لَو قال: أوجَبتُ عليك الإعطاءَ، وجَوَّزتُ لَك أن لا تُعطيَ.
وبَيانُ ذلك أنَّ قَولَ اللهِ تعالى لنَبيِّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: 103] المُرادُ منه الطَّلَبُ والأمرُ بالأداءِ، لا حَقيقةُ الأخذِ، فكان أمرًا بالأداءِ، ولَكِنَّه ليس أمرَ أداءٍ مِنَ اللهِ تعالى للأُمَّةِ، ولا يَجِبُ الأداءُ بمَجرَّدِه، وإنَّما بدَلالةٍ أُخرى، وهيَ أنَّ أمرَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واجِبُ الطَّاعةِ، والإذنُ بتَركِ ما أمَرَ به إخلالٌ بغَرَضِ الرِّسالةِ، فهذا هو الموجِبُ لفِعلِ ما أمَرَ به، لا ذاتُ الأمرِ بالأمرِ [1012] يُنظر: ((بذل النظر)) للأسمندي (ص: 116)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (3/999). .
قال ابنُ قُدامةَ: (إذا كان المَأمورُ بالأمرِ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، كان واجِبًا بأمرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؛ لقيامِ الدَّليلِ على وُجوبِ طاعةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتَحريمِ مُخالَفتِه، أمَّا إذا كان المَأمورُ بالأمرِ غَيرَه، فلا يَبعُدُ أن يَجِبَ عليه الأمرُ؛ لحِكمةٍ فيه مُختَصَّةٍ به) [1013] ((روضة الناظر)) (1/583). .
وقيلَ: إنَّ الأمرَ بالأمرِ بالشَّيءِ أمرٌ بذلك الشَّيءِ، فإذا أمَرَ اللهُ رَسولَه بأن يَأمُرَ بالشَّيءِ يُفهَمُ كَونُنا مَأمورينَ بذلك الأمرِ. وكَذا إذا أمَرَ الرَّسولُ واحِدًا أن يَأمُرَ النَّاسَ بكَذا، فُهمَ كَونُ النَّاسِ مَأمورينَ بذلك الأمرِ. وهو قَولُ بَعضِ الأُصوليِّينَ [1014] يُنظر: ((بذل النظر)) للأسمندي (ص: 116)، ((بديع النظام)) للساعاتي (2/412)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/717)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/361). ، ونُقِلَ عن بَعضِ الشَّافِعيَّةِ [1015] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (3/345). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
يَتَخَرَّجُ على هذه المَسألةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- مُراجَعةُ المُطَلَّقةِ الحائِضِ؛ فقد قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لعُمَرَ بنِ الخَطَّابِ لمَّا طَلَّقَ ابنُه عَبدُ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما امرَأتَه في الحَيضِ: ((مُرْه، فليُراجِعْها حتَّى تَطهُرَ، ثُمَّ تَحيضَ ثُمَّ تَطهُرَ، ثُمَّ إن شاءَ طَلَّقَها، وإن شاءَ أمسَكَها، فتلك العِدَّةُ التي أمَرَ اللهُ أن تُطَلَّقَ لها النِّساءُ)) [1016] أخرجه البخاري (5251)، ومسلم (1471) باختِلافٍ يَسيرٍ، ولَفظُ البخاريِّ: عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه طَلَّقَ امرَأتَه وهيَ حائِضٌ، على عَهدِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فسَألَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: مُرْه فليُراجِعْها، ثُمَّ ليُمسِكْها حتَّى تَطهُرَ، ثُمَّ تَحيضَ ثُمَّ تَطهُرَ، ثُمَّ إن شاءَ أمسَكَ بَعدُ، وإن شاءَ طَلَّقَ قَبلَ أن يَمَسَّ؛ فتلك العِدَّةُ التي أمَرَ اللهُ أن تُطَلَّقَ لها النِّساءُ. . فلَم تَكُنِ المُراجَعةُ واجِبةً على عَبدِ اللَّهِ لمَّا كان الأمرُ له بذلك مِن أبيه، بخِلافِ ما لَو قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أخبِرْه أنَّ اللَّهَ يَأمُرُه، أو أنِّي آمُرُه بها، فلا يُصارُ إلى أنَّه أمرٌ إلَّا بدَليلٍ. فمُراجَعةُ المُطَلَّقةِ في الحَيضِ لا تَجِبُ، بناءً على أنَّ الأمرَ بالأمرِ ليس أمرًا؛ إذ لم يَثبُتْ أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم باشَرَ ابنَ عُمَرَ بالأمرِ. وإن كانتِ الأُمَّةُ قد أجمَعَت على أنَّ ذلك كان واجِبًا على ابنِ عُمَرَ، إلَّا أنَّ هذا الوُجوبَ ليس هو مُقتَضى صيغةِ الأمرِ الصَّادِرِ مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بَل فَهِم عُمَرُ وابنُه أنَّ مَقصودَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التَّبليغَ لعَبدِ اللَّهِ، لا لأنَّ أباه يَأمُرُه مِن قِبَلِ نَفسِه [1017] يُنظر: ((نفائس الأصول)) للقرافي (4/1608)، ((تشنيف المسامع)) للزركشي (2/613). .
قال القَرافيُّ: (مُقتَضى هذه القاعِدةِ: أنَّ ابنَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما لا تَجِبُ عليه المُراجَعةُ؛ لأنَّ الأمرَ بالأمرِ لا يَكونُ أمرًا، ولَكِن عُلِمَ مِنَ الشَّريعةِ أنَّ كُلَّ مَن أمَرَه رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بأن يَأمُرَ غَيرَه إنَّما هو على سَبيلِ التَّبليغِ، ومَتى كان على سَبيلِ التَّبليغِ صارَ الثَّالِثُ مَأمورًا إجماعًا) [1018] ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 149). .
وقيلَ بوُجوبِ مُراجَعَتِها، إمَّا بناءً على أنَّ الأمرَ بالأمرِ أمرٌ، وإمَّا بناءً على أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمرَ ابنَ عُمَرَ مُباشَرةً، أو أفتى فنَقَلَ عُمَرُ الفتوى لابنِه [1019] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (3/346)، ((أصول الفقه)) لعياض السلمي (ص: 252). .
2- لَو أوجَبَ الآمِرُ على المَأمورِ أن يَأخُذَ مِن غَيرِه مالًا لا يَكونُ ذلك إيجابًا للإعطاءِ على ذلك الغَيرِ، كما في قَولِ اللهِ تعالى لنَبيِّه: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة: 103] ؛ فإنَّه لا يَدُلُّ على إيجابِ إعطاءِ الصَّدَقةِ على الأُمَّةِ بنَفسِ ذلك الإيجابِ، بَل إن وجَبَ فإنَّما يَجِبُ بدَليلٍ آخَرَ موجِبٍ لطاعةِ الرَّسولِ فيما يَحكُمُ به؛ تَعظيمًا له، ونَفيًا لِما يَلزَمُ مِن مُخالَفتِه مِن تَحقيرِه وهَضمِه في أعيُنِ النَّاسِ المَبعوثِ إليهم، المُفضي إلى الإخلالِ بمَقصودِ البَعثةِ [1020] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/183)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (3/1205)، ((التحبير)) للمرداوي (5/2264). .

انظر أيضا: