موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الرَّابِعُ عَشَرَ: الأمرُ بإتمامِ الشَّيءِ هَل يَتَضَمَّنُ الأمرَ بالشُّروعِ؟


اختَلَف الأُصوليُّونَ في الأمرِ بإتمامِ الشَّيءِ، هَل يُعَدُّ أمرًا بالشُّروعِ فيه، أو لا؟
والرَّاجِحُ: التَّفصيلُ؛ فإن كان الأمرُ بالإتمامِ بَعدَ الشُّروعِ فلا يَكونُ أمرًا بالشُّروعِ؛ لأنَّه تَحصيلُ حاصِلٍ. وإن كان قَبلَ الشُّروعِ فهو أمرٌ بالأصلِ وعُبِّرَ عنه بالإتمامِ، كما في: أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: 187] ، لا مِن حَيثُ إنَّ الأمرَ بالإتمامِ تَضمَّنه.
ولهذا قال بَعضُ الشَّافِعيَّةِ: قَولُ اللهِ تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: 196] فيه دَليلٌ على أنَّ وُجوبَ الحَجِّ كان في السَّنةِ السَّادِسةِ في الحُدَيبيَةِ؛ لأنَّ الأمرَ ورَدَ ونَزَلَت آيَتُه حينَئِذٍ، ولَم يَكونوا في حَجٍّ حتَّى يُؤمَروا بالإتمامِ؛ فتَعَيَّنَ أن يَكونَ أمرًا بأصلِ الحَجِّ، وعَبَّرَ فيه بالإتمامِ.
وأمَّا العُمرةُ فإن كانتِ الآيةُ نَزَلَت وقد أحرَموا بها فلا دَليلَ على وُجوبِ العُمرةِ؛ لأنَّ الشُّروعَ هنا تَحصيلُ حاصِلٍ، والإتمامُ واجِبٌ وإن كان الابتِداءُ تَطَوُّعًا؛ لأنَّ هذا حُكمُ الحَجِّ والعُمرةِ باتِّفاقٍ [1021] قال ابنُ القَيِّمِ: (إنَّ اللَّهَ سُبحانَه أمَر بإتمامِ الحَجِّ والعُمرةِ؛ فعلى مَن شَرَعَ فيهما أن يَمضيَ فيهما، وإن كان مُتَطَوِّعًا بالدُّخولِ باتِّفاقِ الأئِمَّةِ). ((إعلام الموقعين)) (2/305). . وإن لَم يَكونوا عِندَ نُزولِ الآيةِ مُحرِمينَ بالعُمرةِ فالأمرُ لأصلِ العُمرةِ كما في الحَجِّ، ولَكِن عَبَّرَ بالإتمامِ فيهما [1022] يُنظر: ((الفوائد السنية)) (3/1205). .
قال الشَّاطِبيُّ: (قَولُ اللهِ تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ إنَّما أمَر بالإتمامِ دونَ الأمرِ بأصلِ الحَجِّ؛ لأنَّهم كانوا قَبلَ الإسلامِ آخِذينَ به، لَكِن على تَغييرِ بَعضِ الشَّعائِرِ، ونَقصِ جُملةٍ منها؛ كالوُقوفِ بعَرَفةَ، وأشباهِ ذلك مِمَّا غَيَّروا، فجاءَ الأمرُ بالإتمامِ لذلك، وإنَّما جاءَ إيجابُ الحَجِّ نَصًّا في قَولِه تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران: 97] ) [1023] ((الموافقات)) (4/154). .
وقيلَ: الأمرُ بالإتمامِ يَتَضَمَّنُ الأمرَ بالشُّروعِ مُطلَقًا؛ إذ لا يُتَصَوَّرُ الإتمامُ إلَّا بَعدَ الشُّروعِ، قال الزَّركَشيُّ: (ولهذا احتَجَّ الشَّافِعيَّةُ على وُجوبِ العُمرةِ بقَولِ اللهِ تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة: 196] ) [1024] ((البحر المحيط)) (3/348). .
ووجهُ استِدلالِهم بالآيةِ: أنَّ اللَّهَ أمَرَ بإتمامِها، فإمَّا أن يَكونَ الأمرُ بالإتمامِ مُرادًا به الإتيانُ بهما تامَّينِ، أي: مُستَجمِعَي الشَّرائِطِ والأركانِ، فالمُرادُ بالإتمامِ: المَعنى الشَّرعيُّ؛ إذ ليس هنا كَلامٌ على الشُّروعِ حتَّى يُؤمَرَ بالإتمامِ، وإمَّا أن يَكونَ المُرادُ بالإتمامِ هنا الإتيانَ على آخِرِ العِبادةِ، فهو يَستَلزِمُ الأمرَ بالشُّروعِ؛ لأنَّ الإتمامَ يَتَوقَّفُ على الشُّروعِ، وما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلَّا به فهو واجِبٌ، فيَكونُ الأمرُ بالإتمامِ كِنايةً عنِ الأمرِ بالفِعلِ [1025] يُنظر: ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (2/220). .
قال الرَّازيُّ: (اللَّفظُ دَلَّ على وُجوبِ الإتمامِ جَزمًا، وظاهِرُ الأمرِ للوُجوبِ، فكان الإتمامُ واجِبًا جَزمًا، والإتمامُ مَسبوقٌ بالشُّروعِ، وما لا يَتِمُّ الواجِبُ إلَّا به، وكان مَقدورًا للمُكَلَّفِ فهو واجِبٌ، فيَلزَمُ أن يَكونَ الشُّروعُ واجِبًا في الحَجِّ وفي العُمرةِ) [1026] ((تفسير الرازي)) (5/297). .

انظر أيضا: