موسوعة أصول الفقه

الفرعُ الثَّاني: دُخولُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أمرِ الأُمَّةِ


اختَلَف الأُصوليُّونَ في أنَّ الأمرَ للأُمَّةِ هَل هو أمرٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أو لا؟
والرَّاجِحُ: أنَّ الأمرَ للأُمَّةِ هو أمرٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فإذا تَوجَّهَ الخِطابُ بالأمرِ إلى الأُمَّةِ فإنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَدخُلُ فيه، كقَولِ اللهِ تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقةً [التَّوبة: 103] ، وقَولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((يا أيُّها النَّاسُ قد فرَضَ اللهُ عليكُمُ الحَجَّ فحُجُّوا)) [1045] أخرجه مسلم (1337) من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وهو قَولُ أحمَدَ [1046] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/339). ، وهذا مَذهَبُ المالِكيَّةِ [1047] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 197). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ [1048] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/272)، ((غاية الوصول)) لزكريا الأنصاري (ص: 69). ، وأكثَرِ الحَنابِلةِ [1049] يُنظر: ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 31)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/859). ، وحَكاه المازَريُّ عن مَشاهيرِ الأُصوليِّينَ [1050] يُنظر: ((إيضاح المحصول)) (ص: 287). ، وحَكاه الشَّوكانيُّ عن أكثَرِ الأُصوليِّينَ [1051] يُنظر: ((إرشاد الفحول)) (1/323). .
الأدِلَّةُ:
1- عن حَفصةَ رَضِيَ اللهُ عنها أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمرَ أزواجَه أن يَحلِلنَ عامَ حَجَّةِ الوداعِ، قالت حَفصةُ: فقُلتُ: ما يَمنَعُك أن تَحِلَّ؟ قال: ((إنِّي لَبَّدتُ رَأسي، وقَلَّدتُ هَدْيي؛ فلا أَحِلُّ حتَّى أنحَرَ هَدْيي)) [1052] أخرجه البخاري (4398)، ومسلم (1229) واللفظ له. .
فلَولا أنَّه داخِلٌ في الأمرِ لَم يَطلُبنَ الفِعلَ مِنه، ولَم يُقِرَّهنَّ على ذلك، ويَعتَذِرْ إليهنَّ بعُذرٍ مَنَعَه مِن دُخولِه فيه [1053] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/344). .
2- أنَّ إفرادَه بما أُفرِدَ به مِنَ الحُكمِ إنَّما يُعلَمُ بخِطابٍ مَوضوعٍ له دونَ غَيرِه، كقَولِ اللهِ سُبحانَه: خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب: 50] ، وقَولِ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ [الأنفال: 64] ، وأمثالِ ذلك، فيَجِبُ دُخولُه مَعَ الأُمَّةِ في الخِطابِ العامِّ فيه وفيهم، أوِ الصَّالِحِ لاشتِمالِه عليه وعليهم [1054] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (2/180). .
3- قياسُ مُشارَكةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للصَّحابةِ على مُشارَكَتِهم له؛ حَيثُ إنَّه قد ثَبَتَ بالأدِلَّةِ أنَّ الأُمَّةَ يُشارِكونَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحُكمِ الذي وُجِّهَ إليه كما سَبَقَ، فكذلك يُقاسُ عليه أنَّه يُشارِكُ أُمَّتَه في الأحكامِ الموجَّهةِ إليهم، ولا فَرقَ؛ لأنَّه لَو ثَبَتَ حُكمٌ في حَقِّ الصَّحابةِ انفرَدوا به دونَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَلَزِمَ مِن ذلك أن يَثبُتَ حُكمٌ خاصٌّ به دونَ الصَّحابةِ، وقد ثَبَتَ بُطلانُ الأخيرِ - وهو ثُبوتُ حُكمٍ خاصٍّ به دونَ الصَّحابةِ- بالأدِلَّةِ السَّابِقةِ، وإذا بَطَلَ هذا فقدَ بَطَلَ الأوَّلُ، وهو ثُبوتُ حُكمٍ في حَقِّ الصَّحابةِ انفرَدوا به دونَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. وبذلك ثَبَتَ أنَّ الخِطابَ الموجَّهَ إلى الصَّحابةِ يَدخُلُ فيه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم [1055] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (3/1408). .
وقيلَ: إذا تَوجَّهَ الأمرُ إلى الأُمَّةِ لَم يَدخُلِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فيه بإطلاقِه، أي: أنَّ الحُكمَ يَختَصُّ بمَن توجَّه إليه الأمرُ، ولا يَدخُلُ غَيرُه فيه إلَّا بدَليلٍ يوجِبُ التَّعميمَ. وهو مَذهَبُ بَعضِ الشَّافِعيَّةِ [1056] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/272)، ((غاية الوصول)) لزكريا الأنصاري (ص: 69). ، وبَعضِ الحَنابِلةِ، كأبي الحَسَنِ التَّميميِّ [1057] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/324)، ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 31)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/859). ، وأبي الخَطَّابِ [1058] يُنظر: ((التمهيد)) (1/272). ، وحَكاه أبو يَعلى والكَلْوَذانيُّ عن أكثَرِ الفُقَهاءِ [1059] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/343)، ((التمهيد)) للكلوذاني (1/272). .
أثَرُ الخِلافِ في المَسألةِ [1060] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (5/2469)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (3/1413). :
يَظهَرُ أثَرُ الخِلافِ هنا في أنَّ أصحابَ القَولِ الرَّاجِحِ قَصَدوا أنَّ دُخولَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الخِطاباتِ الموجَّهةِ إلى الأُمَّةِ ثَبَتَ عن طَريقِ اللَّفظِ والنَّصِّ، ولا يَخرُجُ عنها إلَّا بدَليلٍ خارِجيٍّ.
أمَّا أصحابُ القَولِ الثَّاني فإنَّهم قَصَدوا أنَّ كُلَّ الخِطابِ مُختَصٌّ بمَن وُجِّهَ إليه، ولا يَدخُلُ غَيرُه إلَّا بدَليلٍ، كقياسِ غَيرِ المُخاطَبِ على المُخاطَبِ.
فعلى القَولِ الرَّاجِحِ: يَكونُ دُخولُ غَيرِ المُخاطَبِ عن طَريقِ عُمومِ اللَّفظِ والنَّصِّ.
وعلى القَولِ الثَّاني: يَكونُ دُخولُ غَيرِ المُخاطَبِ عن طَريقِ القياسِ.
والفرقُ بَينَ ما ثَبَتَ عن طَريقِ النَّصِّ، وما ثَبَتَ عن طَريقِ القياسِ، مِن وجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّ الحُكمَ الثَّابِتَ عن طَريقِ عُمومِ اللَّفظِ والنَّصِّ أقوى مِنَ الحُكمِ الثَّابِتِ عن طَريقِ القياسِ.
الثَّاني: أنَّ الحُكمَ الثَّابِتَ عن طَريقِ عُمومِ اللَّفظِ والنَّصِّ يَنسَخُ ويُنسَخُ به، أمَّا الحُكمُ الثَّابِتُ عن طَريقِ القياسِ فلا يَنسَخُ ولا يُنسَخُ به؛ لأنَّه ثَبَتَ عن طَريقِ الاجتِهادِ، والنَّسخُ خاصٌّ بالنُّصوصِ.

انظر أيضا: