موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ السَّادِسَ عَشَرَ: هَل أمرُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم واحِدًا مِنَ الصَّحابةِ أمرٌ لغَيرِه؟


اختَلَف الأُصوليُّونَ في أنَّ الأمرَ لأحَدٍ مِنَ الصَّحابةِ هَل هو أمرٌ لغَيرِه أو لا؟
والرَّاجِحُ: أنَّه إذا تَوجَّهَ الأمرُ إلى واحِدٍ مِنَ الصَّحابةِ فإنَّ غَيرَه يَدخُلُ في ذلك الأمرِ، ويَشمَلُهم حُكمُه.
وهذا مَذهَبُ عَدَدٍ مِنَ المالِكيَّةِ [1061] يُنظر: ((المقدمة)) لابن القصار (ص: 122)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (3/1406). ، مِثلُ الأبياريِّ [1062] يُنظر: ((التحقيق والبيان)) (2/66). ، والقَرافيِّ [1063] يُنظر: ((العقد المنظوم)) (1/539). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ كالسَّمعانيِّ [1064] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) (1/228). ، وأكثَرِ الحَنابِلةِ [1065] يُنظر: ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 31)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/862)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (2/509). ، ومِنهمُ المَرداويُّ [1066] يُنظر: ((التحبير)) (5/2467). .
الأدِلَّةُ:
1- قَولُ اللهِ تعالى: لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام: 19] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
ظاهرُه يُفيدُ أنَّ ما كان مِنَ الحُكمِ الخاصِّ لشَخصٍ بعَينِه في القُرآنِ، فجَميعُ النَّاسِ مُنذَرونَ به، ولا يَكونُ إلَّا مَعَ تَكليفِهم لَفظَه وإيقاعِه [1067] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/331). .
2- أنَّ الأُمورَ التي خَصَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بها الواحِدَ، قد بَيَّنَ عن وَجهِ التَّخصيصِ فيها، مِثلُ قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأبي بَردٍ عن ذَبحِ الجَذَعِةِ مِنَ الماعِزِ: ((اذبَحْها، ولَنْ تَجزِيَ عن أحَدٍ بَعدَك)) [1068] أخرجه البخاري (5545)، ومسلم (1961) باختِلافٍ يَسيرٍ. ، فالأصلُ اشتِراكُ الجَماعةِ في الحُكمِ، حتَّى يَثبُتَ للتَّخصيصِ فائِدةٌ في مَوضِعِه الذي ورَدَ فيه [1069] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/332)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/227). .
3- رُجوعُ الصَّحابةِ في أحكامِ الحَوادِثِ؛ حَيثُ إنَّهم بَعدَ وفاةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كانوا يَرجِعونَ إلى ما قَضى به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أشخاصٍ مِنهم، مِثلُ رُجوعِ ابنِ مَسعودٍ في المُفوَّضةِ إلى قِصَّةِ بِرْوَعَ بِنتِ واشِقٍ [1070] عنِ ابنِ مَسعودٍ أنَّه سُئِلَ عن رَجُلٍ تَزَوَّجَ امرَأةً ولَم يَفرِضْ لها صَداقًا ولَم يَدخُلْ بها حتَّى ماتَ، فقال ابنُ مَسعودٍ: لها مِثلُ صَداقِ نِسائِها، لا وَكسَ ولا شَطَطَ، وعليها العِدَّةُ، ولَها الميراثُ، فقامَ مَعقِلُ بنُ سِنانٍ الأشجعيُّ، فقال: قَضى رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في بِرْوَعَ بنتِ واشِقٍ امرَأةٍ مِنَّا مِثلَ ما قَضَيتَ! ففَرِحَ بها ابنُ مَسعودٍ. أخرجه مِن طُرُقٍ: أبو داوُد (2114)، والترمذي (1145) واللَّفظُ له، والنسائي (3524). صَحَّحه الترمذي، وابن حبان في ((صحيحه)) (4098)، وابن دَقيقِ العيدِ في ((الاقتِراح)) (92)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1145). . ورُجوعِهم في وَضعِ الجِزيةِ على مَجوسِ هَجَرَ [1071] عن سُفيانَ، قال: سَمِعتُ عَمرًا قال: كُنتُ جالِسًا مَعَ جابِرِ بنِ زَيدٍ، وعَمرِو بنِ أوسٍ، فحَدَّثَهما بَجالةُ -سَنةَ سَبعينَ، عامَ حَجَّ مُصعَبُ بنُ الزُّبَيرِ بأهلِ البَصرةِ عِندَ دَرَجِ زَمزَمَ- قال: كُنتُ كاتِبًا لجَزْءِ بنِ مُعاويةَ عَمِّ الأحنَفِ، فأتانا كِتابُ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ قَبلَ مَوتِه بسَنةٍ: فرِّقوا بَينَ كُلِ ذي مَحرَمٍ مِنَ المَجوسِ، ولَم يَكُنْ عُمَرُ أخَذَ الجِزيةَ مِنَ المَجوسِ حتَّى شَهدَ عَبدُ الرَّحمَنِ بنُ عَوفٍ أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخَذَها مِن مَجوسِ هَجَرَ. أخرجه البخاري (3156، 3157). . ولَم يَدَّعِ أحَدٌ تَخصيصَ الواحِدِ مِنَ الجَماعةِ التي خَرَجَ عليها الخِطابُ؛ فدَلَّ على تَساوي الجَميعِ في ذلك [1072] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/335)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/863)، ((شرح مختصر أصول الفقه)) للجراعي (2/509)، ((التحبير)) للمرداوي (5/2467). .
وقيلَ: إذا تَوجَّهَ الأمرُ إلى واحِدٍ مِنَ الصَّحابةِ لَم يَدخُلْ غَيرُه فيه بإطلاقِه، أي: أنَّ الحُكمَ يَختَصُّ بمَن توجَّه إليه الأمرُ، ولا يَدخُلُ غَيرُه فيه إلَّا بدَليلٍ يوجِبُ التَّعميمَ. وهو قَولُ الحَنَفيَّةِ [1073] يُنظر: ((بديع النظام)) للساعاتي (2/459)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (1/225)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/252). ، وبَعضِ المالِكيَّةِ كالباقِلَّانيِّ [1074] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) (2/243). ، وأكثَرِ الشَّافِعيَّةِ [1075] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/263)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/259). كالشِّيرازيِّ [1076] يُنظر: ((شرح اللمع)) (1/283). ، وبَعضِ الحَنابِلةِ، كأبي الحَسَنِ التَّميميِّ [1077] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (1/324). ، وأبي الخَطَّابِ الكَلْوَذانيِّ [1078] يُنظر: ((التمهيد)) (1/275). .
أثَرُ الخِلافِ في المَسألةِ [1079] يُنظر: ((التحبير)) للمرداوي (5/2469)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (3/1413). :
يَظهَرُ أثَرُ الخِلافِ هنا في أنَّ أصحابَ القَولِ الرَّاجِحِ قَصَدوا أنَّ دُخولَ بَقيَّةِ الصَّحابةِ في الخِطابِ الموجَّهِ إلى فردٍ مِنهم ثَبَتَ عن طَريقِ اللَّفظِ والنَّصِّ، ولا يَخرُجُ أحَدٌ مِنهم عن خِطابِ الآخَرِ إلَّا بدَليلٍ خارِجيٍّ.
أمَّا أصحابُ القَولِ الثَّاني فإنَّهم قَصَدوا أنَّ كُلَّ خِطابٍ مُختَصٌّ بمَن وُجِّهَ إليه، ولا يَدخُلُ غَيرُه إلَّا بدَليلٍ، كَقياسِ غَيرِ المُخاطَبِ على المُخاطَبِ.
فعلى القَولِ الرَّاجِحِ: يَكونُ دُخولُ غَيرِ المُخاطَبِ عن طَريقِ عُمومِ اللَّفظِ والنَّصِّ.
وعلى القَولِ الثَّاني: يَكونُ دُخولُ غَيرِ المُخاطَبِ عن طَريقِ القياسِ.
والفرقُ بَينَ ما ثَبَتَ عن طَريقِ النَّصِّ، وما ثَبَتَ عن طَريقِ القياسِ، مِن وجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّ الحُكمَ الثَّابِتَ عن طَريقِ عُمومِ اللَّفظِ والنَّصِّ أقوى مِنَ الحُكمِ الثَّابِتِ عن طَريقِ القياسِ.
الثَّاني: أنَّ الحُكمَ الثَّابِتَ عن طَريقِ عُمومِ اللَّفظِ والنَّصِّ يَنسَخُ ويُنسَخُ به، أمَّا الحُكمُ الثَّابِتُ عن طَريقِ القياسِ فلا يَنسَخُ ولا يُنسَخُ به؛ لأنَّه ثَبَتَ عن طَريقِ الاجتِهادِ، والنَّسخُ خاصٌّ بالنُّصوصِ.

انظر أيضا: