المَطلَبُ الرَّابِعُ: دَلالةُ العامِّ هَل هيَ ظَنِّيَّةٌ أو قَطعيَّةٌ؟
للعامِّ دَلالَتانِ: 1- دَلالةُ العامِّ على أصلِ المَعنى، وهيَ قَطعيَّةٌ بلا خِلافٍ، ومِمَّن حَكى ذلك: الزَّركَشيُّ
[1266] قال: (للعامِّ دَلالَتانِ؛ إحداهما: على أصلِ المَعنى، وهيَ قَطعيَّةٌ بلا خِلافٍ). ((تشنيف المسامع)) (2/653). ، وأبو زُرعةَ العِراقيُّ
[1267] قال: (دَلالةُ العامِّ على أصلِ المَعنى قَطعيَّةٌ بلا خِلافٍ). ((الغيث الهامع)) (ص: 273). ، والجراعيُّ
[1268] قال: (للعامِّ دَلالَتانِ؛ إحداهما: على أصلِ المَعنى، وهيَ قَطعيَّةٌ بلا خِلافٍ). ((شرح مختصر أصول الفقه)) (2/424). ، وابنُ النَّجَّارِ
[1269] قال: (دَلالةُ العُمومِ "على أصلِ المَعنى" دَلالةٌ "قَطعيَّةٌ"، وهذا بلا نِزاعٍ). ((شرح الكوكب المنير)) (3/114). . يَعني: أنَّ دَلالةَ العامِّ على أصلِ مَعناه، وهو فردٌ واحِدٌ قَطعيَّةٌ، والمُرادُ بالفردِ الواحِدِ ما ليس جَمعًا ولا تَثنيةً، والِاثنانِ في التَّثنيةِ، أوِ الثَّلاثةُ في الجَمعِ
[1270] يُنظر: ((نشر البنود)) لعبد الله الشنقيطي (1/212)، ((نثر الورود)) لمحمد الأمين الشنقيطي (1/200). 2- دَلالةُ العامِّ على استِغراقِ الأفرادِ، أي: على كُلِّ فردٍ بخُصوصِه، هَل هيَ ظَنِّيَّةٌ أو قَطعيَّةٌ؟
اختَلَف الأُصوليُّونَ في صِفةِ دَلالةِ العامِّ على استِغراقِه لجَميعِ أفرادِه: هَل هيَ قَطعيَّةٌ أم ظَنِّيَّةٌ؟
والرَّاجِحُ: أنَّ دَلالةَ العامِّ على جَميعِ أفرادِه ظَنِّيَّةٌ، ولا تَدُلُّ على القَطعِ إلَّا بالقَرائِنِ، فإنِ اقتَرَنَ به ما يَدُلُّ على التَّعميمِ فدَلالَتُه على الأفرادِ قَطعيَّةٌ، وإذا خُصَّ العامُّ كان ظَنِّيَّ الدَّلالةِ أيضًا على ما بَقيَ مِن أفرادِه بَعدَ التَّخصيصِ، فهو ظَنِّيُّ الدَّلالةِ قَبلَ التَّخصيصِ وبَعدَه. وهو قَولُ الشَّافِعيِّ
[1271] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1217)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/35). ، وبه قال مَشايِخُ سَمَرقَندَ مِنَ الحَنَفيَّةِ
[1272] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (1/280)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/304). ، وجُمهورُ الأُصوليِّينَ مِنَ المالِكيَّةِ
[1273] يُنظر: ((نفائس الأصول)) للقرافي (5/2101)، ((نشر البنود)) لعبد الله الشنقيطي (1/212)، ((نثر الورود)) لمحمد الأمين الشنقيطي (1/201). ، والشَّافِعيَّةِ
[1274] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (2/653)، ((الغيث الهامع)) لأبي زرعة العراقي (ص: 273)، ((الدرر اللوامع)) للكوراني (2/254). ، والحَنابِلةِ
[1275] يُنظر: ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 106)، ((التحبير)) للمرداوي (5/2338)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/114). ، وهو قَولُ جُمهورِ الفُقَهاءِ
[1276] يُنظر: ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 187)، ((التلويح)) للتفتازاني (1/69). .
الأدِلَّةُ:1- أنَّ كُلَّ عامٍّ يَحتَمِلُ التَّخصيصَ، مَعَ شُيوعِ التَّخصيصِ فيه، حتَّى كَرَّرَ العُلَماءُ عِبارَتَهم: "ما مِن عامٍّ إلَّا وقد خُصَّ"، فلا يَخلو منه إلَّا القَليلُ بقَرينةٍ، مِثلُ قَولِ اللهِ تعالى:
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن: 26]، وهذا يورِثُ الشُّبهةَ والِاحتِمالَ في دَلالَتِه، فتَكونُ ظَنِّيَّةً
[1277] يُنظر: ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/ 53-54). .
2- أنَّ صيَغَ العُمومِ تَرِدُ تارةً باقيةً على عُمومِها، وتارةً يُرادُ بها بَعضُ الأفرادِ، وتارةً يَقَعُ فيها التَّخصيصُ، ومَعَ الاحتِمالِ لا يَكونُ قَطعٌ
[1278] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (2/653)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (3/1289)، ((التحبير)) للمرداوي (5/2339). .
3- أنَّه يَجوزُ تَأكيدُ العامِّ بكُلٍّ وأجمَعينَ؛ لدَفعِ احتِمالِ التَّخصيصِ، فالِاحتِمالُ وارِدٌ في العامِّ، فكان ظنِّيًّا، ولَولا ذلك لَما جازَ تَأكيدُ الصِّيَغِ العامَّةِ؛ إذ لا فائِدةَ فيه، وقد قال اللهُ تعالى:
فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر: 30] [1279] يُنظر: ((تشنيف المسامع)) للزركشي (2/653)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (3/1289). .
وقيلَ: إنَّ دَلالةَ العامِّ على أفرادِه قَطعيَّةٌ إذا لم يُخَصَّ، فإذا خُصَّ منه البَعضُ صارَت دَلالَتُه على ما بَقيَ بَعدَ التَّخصيصِ ظَنِّيَّةً. وهو رِوايةٌ عن أحمَدَ
[1280] يُنظر: ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 106). ، وهو مَذهَبُ جُمهورِ الحَنَفيَّةِ
[1281] يُنظر: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 96)، ((أصول السرخسي)) (1/132)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/267). ، وبَعضِ الحَنابِلةِ
[1282] يُنظر: ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 106)، ((التحبير)) للمرداوي (5/2339). .
وقيلَ بالتَّوقُّفِ حتَّى يَتَبَيَّنَ المُرادُ مِنه
[1283] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/132)، ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (1/278)، ((التلويح)) للتفتازاني (1/69). .
أثَرُ الاختِلافِ في المَسألةِ:يَتَرَتَّبُ على الاختِلافِ بَينَ الأُصوليِّينَ في دَلالةِ العامِّ: اختِلافُهم في بَعضِ المَسائِلِ الأُصوليَّةِ، ومِنها:
1- وُجوبُ اعتِقادِ عُمومِ العامِّ قَبلَ البَحثِ عنِ المُخَصِّصِ:فعلى القَولِ الرَّاجِحِ يَجِبُ التَّوقُّفُ في العَمَلِ بالعامِّ قَبلَ البَحثِ عن مُخَصِّصٍ حتَّى يُنظَرَ في الأُصولِ التي يَتَعَرَّفُ فيها الأدِلَّةَ، فإن دَلَّ الدَّليلُ على تَخصيصِه خُصَّ به، وإن لَم يَجِدْ دليلًا يَدُلُّ على التَّخصيصِ اعتَقدَ عُمومَه، وعَمِل بموجِبِه
[1284] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 119)، ((التلخيص)) لإمام الحرمين (2/163)، ((إحكام الفصول)) للباجي (1/248)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/38). .
وعِندَ الحَنَفيَّةِ: يَجِبُ التَّمَسُّكُ بالعُمومِ، واعتِقادُه في الحالِ قَبلَ البَحثِ عن مُخَصِّصٍ
[1285] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/132)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/304)، ((فواتح الرحموت)) للكنوي (1/254). .
2- تَخصيصُ العُمومِ بالدَّليلِ الظَّنِّيِّ:فعلى القَولِ الرَّاجِحِ: يَجوزُ تَخصيصُ اللَّفظِ العامِّ الظَّنِّيِّ بالدَّليلِ الظَّنِّيِّ، كخَبَرِ الآحادِ، والقياسِ، مِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى:
وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء: 24] ؛ فإنَّه مُخَصَّصٌ بما رَواه أبو هرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال:
((لا تُنكَحُ المَرأةُ على عَمَّتِها، ولا على خالَتِها)) [1286] أخرجه البخاري (5110)، ومسلم (1408) واللفظ له. .
وعلى قَولِ الحَنَفيَّةِ: لا يَجوزُ تَخصيصُ العامِّ ابتِداءً بدَليلٍ ظَنِّيٍّ، كَخَبَرِ الآحادِ والقياسِ
[1287] يُنظر: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 96)، ((أصول السرخسي)) (1/132)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (1/304)، ((سلاسل الذهب)) (ص: 246)، ((البحر المحيط)) (4/38) كلاهما للزركشي. .
3- تَعارُضُ العامِّ والخاصِّ:فعلى القَولِ الرَّاجِحِ: لا يَتَحَقَّقُ التَّعارُضُ بَينَ العامِّ والخاصِّ، ويُعمَلُ بالخاصِّ فيما دَلَّ عليه، ويُعمَلُ بالعامِّ فيما وراءَ ذلك؛ لأنَّ الخاصَّ قَطعيُّ الدَّلالةِ، والعامَّ ظَنِّيُّ الدَّلالةِ، ولا تَعارُضَ بَينَهما؛ لأنَّ شَرطَ تَحَقُّقِ التَّعارُضِ بَينَ الدَّليلَينِ أن يَكونا في قوَّةٍ واحِدةٍ، كالقَطعيَّينِ، والظَّنِّيَّينِ.
وعلى قَولِ الحَنَفيَّةِ: يَتَحَقَّقُ التَّعارُضُ بَينَ العامِّ الذي لم يُخَصَّصْ، وبَينَ الخاصِّ؛ لأنَّهما قَطعيَّانِ، ويَكونُ التَّعارُضُ في القَدرِ الذي دَلَّ عليه الخاصُّ فقَط لتَساويهما في القَطعيَّةِ، ويَجِبُ اللُّجوءُ إلى دَفعِ التَّعارُضِ إمَّا بالتَّوقُّفِ، وإمَّا بالتَّخصيصِ، وإمَّا بالنَّسخِ مِنَ المُتَأخِّرِ للمُتَقدِّمِ.
ومِثالُه: قَولُ اللهِ تعالى:
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا [البقرة: 234] ، فهيَ عامَّةٌ في كُلٍّ متوفًّى عنها زَوجُها، سَواءٌ كانت حامِلًا أم لا، مَعَ قَولِ اللهِ تعالى:
وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: 4] ، فعِدَّةُ الحامِلِ بوَضعِ الحَملِ، ولا تَعارُضَ بَينَهما عِندَ الجُمهورِ، ويُعمَلُ بكُلٍّ مِنهما، وعِندَ الحَنَفيَّةِ يَتَحَقَّقُ التَّعارُضُ، والآيةُ الثَّانيةُ مُتَراخيةٌ عنِ الأولى، فتَكونُ ناسِخةً لها في الحامِلِ المُتَوفَّى عنها زَوجُها
[1288] يُنظر: ((إحكام الفصول)) للباجي (1/261)، ((التوضيح لمتن التنقيح)) لصدر الشريعة (1/71)، ((الوجيز)) لمحمد الزحيلي (2/56). .