موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ الخامِسُ: هَلِ الجَمعُ المُنَكَّرُ في غَيرِ سياقِ النَّفيِ يُفيدُ العُمومَ؟


يَنقَسِمُ الجَمعُ إلى: جَمعِ قِلَّةٍ، وجَمعِ كَثرةٍ. وجَمعُ القِلَّةِ مَوضوعٌ للعَشَرةِ فما دونَها، وجَمعُ الكَثرةِ مَوضوعٌ للزِّيادةِ على ذلك [1289] يُنظر: ((اللمع في العربية)) لابن جني (ص: 171)، ((المفصل في صنعة الإعراب)) للزمخشري (ص: 235). .
والخِلافُ هنا في جَمعِ الكَثرةِ، أمَّا جَمعُ القِلَّةِ فقد ذَهَبَ عامَّةُ الأُصوليِّينَ إلى أنَّه لا يُفيدُ العُمومَ.
قال عَلاءُ الدِّينِ البخاريُّ: (عامَّةُ الأُصوليِّينَ على أنَّ جَمعَ القِلَّةِ إذا كان مُنَكَّرًا ليس بعامٍّ؛ لكَونِه ظاهرًا في العَشَرةِ فما دونَها، وإنَّما اختَلَفوا في جَمعِ الكَثرةِ إذا كان مُنَكَّرًا) [1290] ((كشف الأسرار)) (2/2). .
والرَّاجِحُ أنَّ جَمعَ الكَثرةِ إذا كان مُنكَّرًا: لا يُفيدُ العُمومَ، بَل هو مَحمولٌ على أقَلِّ الجَمعِ، كما سَيَأتي بَيانُه.
وهو قَولُ أحمَدَ [1291] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/774). ، وهو مَذهَبُ عامَّةِ المالِكيَّةِ [1292] يُنظر: ((العقد المنظوم)) للقرافي (1/453)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (3/152). ، والشَّافِعيَّةِ [1293] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/179)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (3/1382). ، والحَنابِلةِ [1294] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/774). ، وهو قَولُ أكثَرِ الفُقَهاءِ [1295] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (4/1331)، ((التلويح)) للتفتازاني (1/100). ، وحَكاه الشَّوكانيُّ عن جُمهورِ المُحَقِّقينَ [1296] يُنظر: ((إرشاد الفحول)) (1/308). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّ الجَمعَ المُنكَّرَ لا يَتَبادَرُ منه الاستِغراقُ عِندَ إطلاقِه عن قَرينةِ العُمومِ، نَحوُ "رَأيتُ رِجالًا"، فلا يَتَبادَرُ منه استِغراقُ الرِّجالِ، كما أنَّ "رجُلًا" عِندَ الإطلاقِ لا يَتَبادَرُ منه الاستِغراقُ لأفرادِ مَفهومِه، ولَو كان للعُمومِ لتَبادَر منه ذلك، فليس الجَمعُ المُنكَّرُ عامًّا، كما أنَّ "رَجُلًا "كذلك [1297] يُنظر: ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/309). .
2- أنَّ أهلَ اللُّغةِ سَمَّوا هذه الألفاظَ عِندَ حَذفِ الألِفِ واللَّامِ منها نَكِرةً، ولَو كان يَتَناولُ جَميعَ الجِنسِ لَما سَمَّوه نَكِرةً، بَل كان مَعرِفةً؛ لأنَّ جَميعَ الجِنسِ مَعرِفةٌ [1298] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/524)، ((الواضح)) لابن عقيل (3/359)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/179). .
3- أنَّه يَصِحُّ تَأكيدُه بـ (ما)، فتَقولُ: رَأيتُ رجالًا ما، ولَو كان يَقتَضي الجِنسَ لَما حَسُنَ تَأكيدُه بما؛ لأنَّ قَولَ القائِلِ: عِندي دَراهِمُ، وجاءَني رِجالٌ ما، يُريدُ به التَّقليلَ، والتَّقليلُ يُنافي الاستِغراقَ؛ ولهذا قال اللهُ تعالى: لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ [ص: 24] ، فصَرَّحَ بالقِلَّةِ في حَرفِ (ما)؛ ولذلك فإنَّه إذا دَخَلَ الألِفُ واللَّامُ عليه لَم يَحسُنْ دُخولُ (ما)، فلا يُقالُ: الرِّجالُ ما [1299] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 118)، ((التمهيد)) للكلوذاني (2/51)، ((الواضح)) لابن عقيل (3/359). .
وقيلَ: إنَّه يُفيدُ العُمومَ. وهو مَذهَبُ جُمهورِ الحَنَفيَّةِ [1300] يُنظر: ((بديع النظام)) للساعاتي (2/435)، ((بذل النظر)) للأسمندي (ص: 183)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/3)، ((فصول البدائع)) للفناري (2/67). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ [1301] يُنظر: ((التبصرة)) للشيرازي (ص: 118)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/179). ، ووجهٌ عِندَ الحَنابِلةِ [1302] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (2/50)، ((الواضح)) لابن عقيل (3/358)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/774). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
1- إذا أقَرَّ أحَدٌ لرَجُلٍ بشَيءٍ بصيغةِ الجَمعِ المُنكَّرِ، مِثلُ: "لَه عليَّ دَراهِمُ"، فعلى القَولِ الرَّاجِحِ: له ثَلاثةُ دَراهمَ، وهيَ أقَلُّ الجَمعِ المُطلَقِ مِنَ الأعدادِ [1303] يُنظر: ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 317)، ((رفع النقاب)) للشوشاوي (3/153). .
قال الماوَرديُّ: (قال الشَّافِعيُّ رَضِيَ اللهُ عنه: وسَواءٌ قال: له عليَّ دَراهِمُ كَثيرةٌ أو عَظيمةٌ، أو لَم يَقُلْها: فهيَ ثَلاثةٌ) [1304] يُنظر: ((الحاوي الكبير)) (7/16). .
2- لَو قال الرَّجُلُ لغُلامِه: "أكرِمْ رجالًا"؛ فإنَّه بناءً على المَذهَبِ الرَّاجِحِ: يُكرِمُ ثَلاثةً، وتَبرَأُ ذِمَّتُه، ولا يُشتَرَطُ أن يُكرِمَ جَميعَ الرِّجالِ، فإذا أكرَمَ ثَلاثةَ رِجالٍ فقد خَرَجَ عن عُهدةِ التَّكليفِ [1305] يُنظر: ((رفع النقاب)) للشوشاوي (3/152)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (4/1508). .

انظر أيضا: