موسوعة أصول الفقه

المَطلَبُ العاشِرُ: هَل نَفيُ المُساواةِ بَينَ الشَّيئَينِ مِن جَميعِ الوُجوهِ يَقتَضي العُمومَ؟


مِثالُ نَفيِ المُساواةِ بَينَ الشَّيئَينِ: قَولُ اللهِ تعالى: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ [الحشر: 20] فهَل يَقتَضي العُمومَ، أي: يَدُلُّ على عَدَمِ جَميعِ وُجوهِ المُساواةِ [1391] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/247)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (4/1364)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (2/169)، ((شرح العضد)) (2/632). ؟
وإذا قُلنا: لا يَستَوي زَيدٌ وعُمَرُ، فهَل هذا يَقتَضي نَفيَ المُساواةِ في جَميعِ الوُجوهِ: في الكَرَمِ والعِلمِ، والخَلقِ، وغَيرِ ذلك. أو هو: يَقتَضي نَفيَ المُساواةِ مِن بَعضِ الوُجوهِ فقَط، كالكَرَمِ، أو نَحوِ ذلك [1392] يُنظر: ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (4/1509). ؟
اختَلَف الأُصوليُّونَ في هذه المَسألةِ، والرَّاجِحُ: أنَّ نَفيَ المُساواةِ بَينَ الشَّيئَينِ يَقتَضي العُمومَ، أي: تَنتَفي المُساواةُ بَينَهما مِن جَميعِ الوُجوهِ التي يُمكِنُ نَفيُها عنهما. وهو قَولُ الشَّافِعيِّ [1393] يُنظر: ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 303). ، وهو مَذهَبُ جُمهورِ الشَّافِعيَّةِ [1394] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/247)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (4/1364)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1288)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 189). ، والحَنابِلةِ [1395] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (2/826)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/207). .
فقَولُ اللهِ تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] ؛ فإنَّه يوجِبُ المَنعَ مِنَ التَّسويةِ بَينَهما في جَميعِ الحالاتِ [1396] يُنظر: ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 106). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّه نَكِرةٌ في سياقِ النَّفيِ؛ لأنَّ الجُملةَ نَكِرةٌ باتِّفاقِ النُّحاةِ؛ ولذلك يوصَفُ بها النَّكِرةُ دونَ المَعرِفةِ، فوجَبَ التَّعميمُ كَغَيرِه مِنَ النَّكِراتِ، وبَيانُه: أنَّ حَرفَ النَّفيِ إذا دَخَلَ على الفِعلِ يَقتَضي نَفيَ جِنسِ المَصدَرِ الذي تَضَمَّنَه الفِعلُ، فيَكونُ نَفيًا وارِدًا على نَكِرةٍ، فيَكونُ مُقتَضيًا للعُمومِ، كالنَّفيِ الدَّاخِلِ على غَيرِ الفِعلِ مِنَ النَّكِراتِ [1397] يُنظر: ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (2/169)، ((شرح العضد)) (2/632)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (3/149). .
2- أنَّ النَّفيَ لا يَقتَضي الاختِصاصَ بوجهٍ مِن وُجوهِ المُساواةِ دونَ وَجهٍ، فيَعُمُّ؛ إذ ليس تَخصيصُه ببَعضِ الوُجوهِ دونَ البَعضِ أَولى مِنَ العَكسِ؛ ولهذا قيلَ: إنَّ النَّكِرةَ في سياقِ النَّفيِ تَعُمُّ [1398] يُنظر: ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 303). .
3- أنَّ مَفهومَ قَولِ القائِلِ: (يَستَويانِ) أعَمُّ مِن أن يَكونَ في بَعضِ الأُمورِ أو في كُلِّها، بدَليلِ صِحَّةِ انضِمامِه إلى كُلِّ واحِدٍ مِنهما مِن غَيرِ تَناقُضٍ؛ إذ يَصِحُّ أن يُقالَ: يَستَويانِ في بَعضِ الأُمورِ، ويَصِحُّ أيضًا أن يُقالَ: يَستَويانِ في كُلِّها، ومَورِدُ التَّقسيمِ يَجِبُ أن يَكونَ مُشتَرَكًا، ونَفيُ المَفهومِ العامِّ يَنفي كُلَّ فردٍ مِن أفرادِه؛ فإنَّ نَفيَ الحَيَوانِ يَقتَضي نَفيَ كُلِّ واحِدٍ مِن أفرادِه، مِنَ الإنسانِ، والفرَسِ، والحِمارِ، وغَيرِها مِن أفرادِ أنواعِه، فإذا قيلَ: لا يَستَويانِ، اقتَضى ذلك نَفيَ كُلِّ فردٍ مِن أفرادِ (يَستَويانِ) [1399] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (4/1365). .
وقيلَ: إنَّ نَفيَ المُساواةِ بَينَ الشَّيئَينِ لا يَقتَضي العُمومَ، فلا تَنتَفي المُساواةُ بَينَهما في كُلِّ شَيءٍ، بَل في بَعضِها، وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [1400] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (1/72)، ((أصول السرخسي)) (1/143)، ((الكافي)) للسغناقي (2/850)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/103)، ((فصول البدائع)) للفناري (2/80). ، وبَعضِ المالِكيَّةِ، كالقَرافيِّ [1401] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) (ص: 186). ، وبَعضِ الشَّافِعيَّةِ [1402] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (4/1365). كالغَزاليِّ [1403] يُنظر: ((المستصفى)) (ص: 242). ، والرَّازيِّ [1404] يُنظر: ((المحصول)) (2/377). ، والبَيضاويِّ [1405] يُنظر: ((المنهاج)) (ص: 123). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
يَتَخَرَّجُ على الخِلافِ في المَسألةِ بَعضُ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، ومِنها:
1- إذا قَتَلَ المُسلِمُ الكافِرَ الذِّمِّيَّ فهَل يُقتَلُ المُسلِمُ به؟
والرَّاجِحُ: أنَّ المُسلِمَ لا يُقتَلُ بالكافِرِ الذِّمِّيِّ؛ لأنَّ جَرَيانَ القِصاصِ بَينَهما يَقتَضي الاستِواءَ، واللهُ تعالى قد نَفاه بقَولِه: لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ [الحشر: 20] ، ونَفيُ الاستِواءِ يَقتَضي نَفيَه مِن جَميعِ الوُجوهِ، فلَو قُتِلَ المُسلِمُ بالكافِرِ لَحَصَلَ بَينَهما استِواءٌ في القِصاصِ، والذِّمِّيُّ غَيرُ مُساوٍ للمُسلِمِ، بَل هو أقَلُّ منه في العِصمةِ.
وقيلَ: إنَّ المُسلِمَ يُقتَلُ بالكافِرِ الذِّمِّيِّ، واستَدَلُّوا بآثارٍ فيها قَتلُ المُسلِمِ بالذِّمِّيِّ [1406] منها: عن عَبدِ الرَّحمَنِ بنِ البَيْلَمانيِّ أنَّ رَجُلًا مِنَ المُسلِمينَ قَتَلَ رَجُلًا مِن أهلِ الكِتابِ، فرُفِعَ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أنا أحَقُّ مَن وفى بذِمَّتِه، ثُمَّ أمَرَ به فقُتِلَ. أخرجه ابنُ أبي شيبة (28031)، والدارقطني (4/157)، والبيهقي (16017) واللفظ له. قال الإمام الشافعي في ((الأم)) (9/128)، وابن المنذر في ((الأوسط)) (13/55): منقطع، وقال الإمام أحمد كما في ((شرح الزركشي على الخرقي)) (6/65): ليس له إسناد، وقال البَيهَقيّ: مُنقَطِع وراويه غَير ثِقة. .
ولمَّا قيلَ لهم: إنَّ ما استَدلَلتُم به يُنافي نَصَّ الآيةِ التي نَفتِ المُساواةَ بَينَهما، وهذا النَّفيُ عامٌّ للدُّنيا والآخِرةِ.
قالوا: إنَّ نَفيَ المُساواةِ قد حَصَلَ بحُكمٍ آخَرَ، فالتَّسويةُ بَينَهما في هذا الحُكمِ لا تَمنَعُ مَدلولَ النَّصِّ، والمُرادُ بنَفيِ المُساواةِ في الآيةِ هو نَفيُ المُساواةِ مِن وجهٍ واحِدٍ، وهو نَفيُها في الفوزِ بالجَنَّةِ، بدَليلِ قَولِه: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر: 20] .
فعِندَ أصحابِ القَولِ الثَّاني: أنَّ المُساواةَ مُتَحَقِّقةٌ بَينَ المُسلِمِ والكافِرِ الذِّمِّيِّ في الدُّنيا؛ فالذِّمِّيُّ دَمُه مَعصومٌ كالمُسلِمِ، فمَن قَتلَه قُتِلَ به، ولَو كان مُسلِمًا [1407] يُنظر: ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 303)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (4/1364)، ((كشف الأسرار)) لعلاء الدين البخاري (2/103)، ((شرح العضد)) (2/632)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (3/148)، ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 339)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (4/1510). .
2- أنَّ ديةَ الذِّمِّيِّ والمُستَأمَنِ لا تَبلُغُ ديةَ المُسلِمِ على الرَّاجِحِ. وقيلَ: تُساوي ديةَ المُسلِمِ [1408] يُنظر: ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 304). .

انظر أيضا: