المَطلَبُ الثَّامِنَ عَشَرَ: العامُّ بَعدَ التَّخصيصِ هَل هو حَقيقةٌ في الباقي؟
أي: اللَّفظُ العامُّ إذا خُصَّ منه أفرادٌ هَل يَكونُ حَقيقةً في الباقي، أو يَصيرُ مَجازًا فيما بَقيَ بَعدَ التَّخصيصِ؟
وهذا بخِلافِ العامِّ الذي أُريدَ به الخُصوصُ؛ فإنَّه مَجازٌ قَطعًا
[1593] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/355)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (4/1501). .
والرَّاجِحُ: أنَّ العامَّ إذا دَخَلَه التَّخصيصُ فإنَّه حَقيقةٌ فيما بَقيَ بَعدَ التَّخصيصِ مُطلَقًا، سَواءٌ خُصَّ بدَليلٍ مُتَّصِلٍ كالِاستِثناءِ، أو مُنفصِلٍ كدَليلِ العَقلِ والقياسِ. وهو مَنقولٌ عنِ الشَّافِعيِّ
[1594] يُنظر: ((المنخول)) للغزالي (ص: 227)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/349)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (4/1497)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/338). ، وأحمدَ
[1595] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/533)، ((الواضح)) لابن عقيل (3/365). ، وهو مَذهَبُ مَشايِخِ سَمَرقَندَ مِنَ الحَنَفيَّةِ
[1596] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 288)، ((جامع الأصول)) لركن الدين السمرقندي (1/139). ، وبَعضِ المالِكيَّةِ
[1597] يُنظر: ((إحكام الفصول)) للباجي (1/251). ، وكَثيرٍ مِنَ الشَّافِعيَّةِ
[1598] يُنظر: ((الوصول إلى الأصول)) لابن برهان (1/235)، ((الإحكام)) للآمدي (2/227)، ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (4/1471)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1340)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/349). ، وأكثَرِ الحَنابِلةِ
[1599] يُنظر: ((الواضح)) لابن عقيل (3/365)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/60). ، وهو قَولُ جُمهورِ الفُقَهاءِ
[1600] يُنظر: ((التلخيص)) لإمام الحرمين (2/41)، ((فواتح الرحموت)) للكنوي (1/314). ، وصَحَّحه ابنُ العَرَبيِّ
[1601] يُنظر: ((المحصول)) (ص: 81). .
الأدِلَّةُ:1- أنَّ لَفظَ العُمومِ يَتَناولُ جَميعَ الجِنسِ بلَفظِه، ويَعُمُّ الكُلَّ بنُطقِه، فإذا دَخَلَ التَّخصيصُ في بَعضِه فقد بَقيَ تَحتَ اللَّفظِ بَعضُ ما تَناولَه، فاقتَضاه وأخرَج منه البَعضَ؛ فوجَبَ أن يَبقى حَقيقةً فيه؛ لأنَّه استُعمِلَ في بَعضِ ما تَناولَه
[1602] يُنظر: ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/345). .
2- أنَّ لَفظَ العُمومِ يَتَناولُ ما عَدا المَخصوصَ بأصلِ وَضعِه، فلا يَكونُ مَجازًا فيه؛ لأنَّ الواضِعَ لمَّا وضَعَه للجَميعِ، وخَرَجَ بَعضُ الأفرادِ مِنَ الحُكمِ بدَليلٍ، لَم تَتَأثَّرْ دَلالةُ اللَّفظِ على الباقي حَقيقةً كما كانت كذلك؛ فإنَّ اسمَ المُشرِكينَ يَقَعُ حَقيقةً على مَن بَقيَ بَعدَ التَّخصيصِ؛ فوجَبَ أن تَكونَ دَلالةُ اللَّفظِ قائِمةً بَعدَ التَّخصيصِ كهيَ قَبلَ التَّخصيصِ
[1603] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/542)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/177)، ((الفوائد السنية)) للبرماوي (4/1497). .
3- أنَّ الأصلَ في الاستِعمالِ الحَقيقةُ، واستِعمالُ الاستِثناءِ والشَّرطِ والغايةِ في كَلامِ أهلِ اللُّغةِ أكثَرُ مِن أن يُعَدَّ ويُحصى، وكَثرةُ استِعمالِ اللَّفظِ في مَعنًى على وجهٍ لا يُعارِضُه غَيرُه فيه دَليلٌ على كَونِه حَقيقةً فيه، فلا يَجوزُ وَصفُه بأنَّه مَجازٌ
[1604] يُنظر: ((التبصرة)) (ص: 123)، ((شرح اللمع)) (1/344) كلاهما للشيرازي. .
4- قياسُ اللَّفظِ العامِّ بَعدَ التَّخصيصِ على اللَّفظِ قَبلَ التَّخصيصِ؛ لأنَّ تَناوُلَه للباقي قَبلَ التَّخصيصِ كان حَقيقةً، وذلك التَّناوُلُ باقٍ، فيَكونُ استِعمالُه في الباقي بَعدَ التَّخصيصِ حَقيقةً كذلك؛ لوُجودِ المُقتَضي للحَقيقةِ، وهو اللَّفظُ المُتَناوِلُ لهما
[1605] يُنظر: ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 197)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (4/1559). .
وقيلَ: العامُّ إذا خُصَّ فإنَّه يَكونُ شَبيهًا بالمَجازِ، ويُسَمَّى حَقيقةً قاصِرةً، بمَعنى أنَّه يَبقى حُجَّةً فيما وراءَ المَخصوصِ، إلَّا أنَّ فيه شُبهةً، فلا يَكونُ موجِبًا قَطعًا ويَقينًا. وهو قَولُ العِراقيِّينَ مِنَ الحَنَفيَّةِ
[1606] يُنظر: ((جامع الأصول)) لركن الدين السمرقندي (1/140). ، وتابَعَهمُ الدَّبوسيُّ
[1607] يُنظر: ((تقويم الأدلة)) (ص: 105). ، والسَّرَخسيُّ
[1608] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (1/144). ، والبَزْدَويُّ
[1609] يُنظر: ((أصول البزدوي)) (ص: 240). .
وقيلَ: العامُّ إذا دَخَلَه التَّخصيصُ فإنَّه يَصيرُ مَجازًا فيما بَقيَ بَعدَ التَّخصيصِ مُطلَقًا، سَواءٌ كان المُخَصِّصُ متَّصلًا أو منفَصِلًا؛ لأنَّ العامَّ حَقيقةٌ في الاستِغراقِ، فلَو كان حَقيقةً في البَعضِ لَزِمَ الاشتِراكُ، والمَجازُ خَيرٌ مِنه. وهو قَولُ بَعضِ الحَنَفيَّةِ
[1610] يُنظر: ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 289)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (1/274)، ((تيسير التحرير)) لأمير بادشاه (1/308). ، وحَكاه الهِنديُّ وابنُ السُّبكيِّ عن جُمهورِ الشَّافِعيَّةِ
[1611] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (4/1471)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1339). ، وهو قَولُ كَثيرٍ مِنَ المالِكيَّةِ
[1612] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) للباقلاني (3/66)، ((إحكام الفصول)) للباجي (1/251). ، وبَعضِ الحَنابِلةِ
[1613] يُنظر: ((المسودة)) لآل تيمية (ص: 115). ، وحَكاه إمامُ الحَرمَينِ عن كَثيرٍ مِنَ الفُقَهاءِ
[1614] يُنظر: ((التلخيص)) (2/40). .
وقيلَ: إنَّ المُخَصِّصَ إن كان مُستَقِلًّا، سَواءٌ أكان عَقليًّا، كالدَّليلِ الدَّالِّ على أنَّ غَيرَ القادِرِ غَيرُ مُرادٍ مِنَ الخِطابِ في العِباداتِ. أو لَفظيًّا، كما إذا قال المُتَكَلِّمُ بالعامِّ: أرَدتُ به البَعضَ الفُلانيَّ- فهو مَجازٌ.
وإن لَم يَكُنْ مُستقِلًّا فهو حَقيقةٌ، وذلك كالِاستِثناءِ، مِثلُ: قَولِ القائِلِ: مَن دَخَلَ داري يُكرَمُ إلَّا زَيدًا. والشَّرطُ، مِثلُ: مَن دَخَلَ أكرَمتُه إن كان عالِمًا. والتَّقييدُ بالصِّفةِ، مِثلُ: مَن دَخَلَ داري مِن طِوالِ القامةِ أكرَمتُه. وهو قَولُ بَعضِ الأُصوليِّينَ
[1615] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (4/1471)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1340). ، ومِنهمُ الكَرخيُّ مِنَ الحَنَفيَّةِ
[1616] يُنظر: ((تقويم الأدلة)) للدبوسي (ص: 105)، ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 289). ، والباقِلَّانيُّ
[1617] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) (3/67). ، والرَّازيُّ
[1618] يُنظر: ((المحصول)) (3/14). .
فائِدةُ الخِلافِ في المَسألةِ:تَظهَرُ فائِدةُ الخِلافِ في هذه المَسألةِ في الاحتِجاجِ بالعامِّ بَعدَ التَّخصيصِ، فمَن يَقولُ: هو حَقيقةٌ؛ فإنَّه يَحتَجُّ به في الأفرادِ الباقيةِ. ومَن يَقولُ: هو مَجازٌ؛ فإنَّه لا يُحتَجُّ به إلَّا بقَرينةٍ تَدُلُّ على بَقاءِ الحُكمِ فيه
[1619] يُنظر: ((الفوائد السنية)) للبرماوي (4/1501). .
ويَظهَرُ ذلك في المَطلَبِ التَّالي.