موسوعة أصول الفقه

الفرعُ الخامِسُ: التَّخصيصُ بدليلِ العقلِ.


مَعنى التَّخصيصِ بدليلِ العقلِ: أنَّ الصِّيغةَ العامَّةَ إذا ورَدَت، واقتَضى العَقلُ امتِناع تَعميمِها، فنَعلَمُ مِن جِهةِ العَقلِ أنَّ المُرادَ بها خُصوصُ ما لا يُحيلُه العَقلُ، وليس المُرادُ به أنَّ العَقلَ صِلةٌ للصِّيغةِ نازِلةٌ له مَنزِلةَ الاستِثناءِ المُتَّصِلِ بالكَلامِ، ولَكِنَّ المُرادَ به أنَّا نَعلَمُ بالعَقلِ أنَّ مُطلَقَ الصِّيغةِ لَم يُرَدْ تَعميمُها [1930] يُنظر: ((التلخيص)) لإمام الحرمين (2/100)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/472)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/383). .
قال ابنُ قُدامةَ: (نُريدُ بالتَّخصيصِ: الدَّليلَ المُعَرِّفَ إرادةَ المُتَكَلِّمِ، وأنَّه أرادَ باللَّفظِ المَوضوعِ للعُمومِ مَعنًى خاصًّا، والعَقلُ يَدُلُّ على ذلك) [1931] ((روضة الناظر)) (2/61). .
وقدِ اختَلَف الأُصوليُّونَ في جَوازِ تَخصيصِ العُمومِ بالعَقلِ، والرَّاجِحُ جَوازُ ذلك. وهو مَذهَبُ جُمهورِ الأُصوليِّينَ [1932] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/548)، ((قواطع الأدلة)) للسمعاني (1/183)، ((بديع النظام)) لابن الساعاتي (2/470)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (2/307)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/382). ، مِنهمُ الجَصَّاصُ [1933] يُنظر: ((الفصول)) (1/146). ، وإمامُ الحَرَمَينِ [1934] يُنظر: ((التلخيص)) (2/100). ، والسَّمعانيُّ [1935] يُنظر: ((قواطع الأدلة)) (1/183). ، والكَلْوَذانيُّ [1936] يُنظر: ((التمهيد)) (2/101). ، وابنُ عَقيلٍ [1937] يُنظر: ((الواضح)) (3/373). ، والشَّاطِبيُّ [1938] يُنظر: ((الموافقات)) (4/18). . وقال الباجيُّ: (هذا قَولُ كافَّةِ النَّاسِ) [1939] ((إحكام الفصول)) (1/267). .
الأدِلَّةُ:
1- القياسُ على الكِتابِ والسُّنَّةِ المُتَواتِرةِ والإجماعِ؛ فإنَّ العَقلَ يُفضي بنا إلى العِلمِ، كالكِتابِ والسُّنَّةِ المُتَواتِرةِ والإجماعِ؛ فلَمَّا جازَ تَخصيصُ العُمومِ بالكِتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ جازَ كذلك تَخصيصُه بدَليلِ العَقلِ [1940] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/548)، ((الواضح)) لابن عقيل (3/374). .
2- الوُقوعُ؛ فإنَّه قد وقَعَ أنَّ العَقلَ خَصَّصَ وأخرج بَعضَ أفرادِ العامِّ، وبَيَّن أنَّهم غَيرُ داخِلينَ في عُمومِ اللَّفظِ، وهذا هو التَّخصيصُ، والوُقوعُ دَليلُ الجَوازِ، ومِن ذلك:
- قَولُ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء: 1] ؛ فإنَّ لَفظَ النَّاسُ صيغةُ عُمومٍ؛ حَيثُ إنَّها جَمعٌ مَعَرَّفٌ بـ"أل"، فيَدخُلُ فيه كُلُّ الأفرادِ، ولَكِنَّ العَقلَ اقتَضى بنَظَرِه عَدَمَ دُخولِ الصَّبيِّ والمَجنونِ؛ لعَدَمِ فَهمِهما، بَل هما مِن جُملةِ الذينَ لا يُخاطَبونَ بخِطابِ التَّكليفِ؛ لأنَّ المَجانينَ والأطفالَ لا يُمكِنُهم فَهمُ المُرادِ بالخِطابِ لا مُجمَلًا ولا مُفَصَّلًا، وإرادةُ الفهمِ مِمَّن لا يَتَمَكَّنُ منه: تَكليفٌ بما لا يُطاقُ؛ فصارَتِ الآيةُ مَخصوصةً بالعَقلِ [1941] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (1/146)، ((العدة)) لأبي يعلى (2/548)، ((التمهيد)) للكلوذاني (2/103). .
- وقَالَ اللهُ سُبحانَه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمران: 97] ؛ فإنَّ قَولَه: عَلَى النَّاسِ يُفيدُ وُجوبَ الحَجِّ على كُلِّ مَن هو إنسانٌ؛ لأنَّ النَّاسِ يَتَناولُ جَميعَ أفرادِ الإنسانِ؛ لأنَّ اللَّامَ فيه للِاستِغراقِ، والعَقلُ مَنَع وُجوبَ الحَجِّ على الصِّبيانِ والمَجانينِ؛ لعَدَمِ تَمَكُّنِهما مِن مَعرِفةِ الوُجوبِ؛ فيَكونُ العَقلُ مُخَصِّصًا للعُمومِ [1942] يُنظر: ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (2/307)، ((شرح العضد)) (3/68)، ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1451). .
وقيلَ: إنَّه لا يَجوزُ التَّخصيصُ بالعَقلِ. وهو قَولُ طائِفةٍ شاذَّةٍ [1943] يُنظر: ((الإحكام)) للآمدي (2/314)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (2/307)، ((فصول البدائع)) للفناري (2/139)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/382). .

انظر أيضا: