موسوعة أصول الفقه

المَسألةُ الثَّانيةُ: الجُمَلُ المُتَعاطِفةُ إذا تَعَقَّبَها شَرطٌ


الجُمَلُ المُتَعاطِفةُ إذا تَعَقَّبَها شَرطٌ، فهَل يَرجِعُ إلى جَميعِ الجُمَلِ، أو يَرجِعُ إلى ما يَليه؟
اختَلَف الأُصوليُّونَ في هذه المَسألةِ، والرَّاجِحُ: أنَّ الجُمَلَ المُتَعاطِفةَ إذا تَعَقَّبَها شَرطٌ فإنَّه يَرجِعُ إلى الجَميعِ، حتَّى يَقومَ دَليلٌ على إرادةِ بَعضِ المعطوفاتِ.
وهو مَنقولٌ عنِ الأئِمَّةِ الأربَعةِ [2075] يُنظر: ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/938). : أبي حَنيفةَ [2076] يُنظر: ((الردود والنقود)) للبابرتي (2/244)، ((فصول البدائع)) للفناري (2/139). ، ومالكٍ [2077] يُنظر: ((المقدمة)) لابن القصار (ص: 129)، ((تقريب الوصول)) لابن جزي (ص: 159). ، والشَّافِعيِّ [2078] يُنظر: ((المحصول)) للرازي (3/62)، ((الإحكام)) للآمدي (2/311). ، وأحمدَ [2079] يُنظر: ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/629). . وهو مَذهَبُ الحَنَفيَّةِ [2080] يُنظر: ((أصول السرخسي)) (2/44)، ((ميزان الأصول)) لعلاء الدين السمرقندي (ص: 316)، ((أصول الفقه)) للمشي (ص: 131)، ((التحرير لابن)) الهمام (ص: 105)، ((التقرير والتحبير)) لابن أمير الحاج (1/251). ، والشَّافِعيَّةِ [2081] يُنظر: ((الإبهاج)) لابن السبكي ووالده (4/1420)، ((نهاية السول)) للإسنوي (ص: 207). ، والحَنابِلةِ [2082] يُنظر: ((المسودة)) لآل تيمية (1/357)، ((المختصر)) لابن اللحام (ص: 121). ، وابنِ حَزمٍ [2083] يُنظر: ((الإحكام)) (4/25). .
قال تاجُ الدِّينِ السُّبكيُّ: (وهو -أيِ: الشَّرطُ- كالِاستِثناءِ اتِّصالًا، وأَولى بالعَودِ إلى الكُلِّ على الأصَحِّ) [2084] ((جمع الجوامع)) (ص: 50). .
ومَثَّل القَفَّالُ الشَّاشيُّ لتَخصيصِه ببَعضِ المعطوفاتِ بقَولِ اللهِ تعالى: وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ [النساء: 23] ؛ فإنَّ الشَّافِعيَّ قَصَرَ الشَّرطَ على الرَّبائِبِ دونَ أُمَّهاتِ النِّساءِ، لدَليلٍ قامَ عِندَه في ذلك، لا يَصلُحُ مَعَه رَدُّه إلى الأُمَّهاتِ؛ لأنَّ الشَّرطَ لَوِ اقتَرَنَ به لَم يَستَقِمْ، فلَو قيلَ: (وأُمَّهاتُ نِسائِكُمُ اللَّاتي دَخَلتُم بهنَّ) لَم يَكُنْ للكَلامِ مَعنًى؛ لأنَّ أُمَّهاتِ نِسائِنا أُمَّهاتُ أزواجِنا، وهيَ نِساؤُكُمُ اللَّاتي دَخَلتُم بهنَّ مِن أزواجِكُم، فكَيف تَرَونَ أُمَّهاتِ أزواجِنا مِن أزواجِنا اللَّاتي دَخَلتُم بهنَّ؟
وفي هذا بَيانُ أنَّ قَولَه: مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ وَصفٌ للرَّبيبةِ؛ إذ يَصلُحُ أن يُقالَ: هذه رَبيبةٌ لامرَأةٍ لي، قد دَخَلتُ بها. ولا يَصلُحُ أن يُقالَ: هذه أمُّ امرَأتي مِنِ امرَأةٍ لَم أدخُلْ بها؛ ولهذا بَطَلَ رُجوعُه إلى الأولى، وإنَّما يَرجِعُ الاستِثناءُ والشَّرطُ إلى جَميعِ ما سَبَقَ إذا صَلَحَ أن يُذكَرَ مقرونًا بكُلِّ واحِدٍ مِنهما كما سَبَقَ [2085] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/449). .
الأدِلَّةُ:
1- أنَّ الشَّرطَ يُؤَثِّرُ في الجُملةِ كُلِّها، حتَّى يَتَعَلَّقَ حُكمُها به على حَسَبِ ما يَتَّفِقُ مِن وُجودِ الشَّرطِ؛ ألَا تَرى أنَّه إذا لم يوجَدِ الشَّرطُ الذي عُلِّقَ به الحُكمُ لَم يَكُنْ للَّفظِ حَكمٍ؟ فلذلك جازَ تَعَلُّقُ جَميعِ المَذكورِ بوُجودِ الشَّرطِ [2086] يُنظر: ((الفصول)) للجصاص (1/269). .
2- أنَّ الشُّروطَ اللُّغَويَّةَ أسبابٌ، والأسبابُ مَظانُّ الحُكمِ والمَصالِحِ والمَقاصِدِ، فيَتَعَيَّنُ عُمومُ تَعَلُّقِه بجَميعِ الجُمَلِ؛ تكثيرًا للمَصلَحةِ والحِكمةِ [2087] يُنظر: ((العقد المنظوم)) (2/273)، ((نفائس الأصول)) (5/2056) كلاهما للقرافي. .
3- أنَّ حَرفَ العَطفِ يُصَيِّرُ المَعطوفَ والمَعطوفَ عليه كالجُملةِ الواحِدةِ، فيَعودُ الشَّرطُ عليهما كالجُملةِ الواحِدةِ [2088] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 250)، ((أسلوب الشرط بين النحويين والأصوليين)) لناصر كريري (ص: 363). .
4- أنَّ المُتَكَلِّمَ قد يَكونُ مُحتاجًا لذِكرِ الشَّرطِ مَعَ كُلِّ جُملةٍ، فإن ذَكَره عَقيبَ كُلِّ واحِدةٍ تَكَرَّر، وكان عَبَثًا، فيَتَعَيَّنُ أن يَذكُرَه عَقيبَ الكُلِّ؛ دَفعًا للحاجةِ ورَكاكةِ القَولِ [2089] يُنظر: ((شرح تنقيح الفصول)) للقرافي (ص: 250)، ((أسلوب الشرط بين النحويين والأصوليين)) لناصر كريري (ص: 363). .
وقيلَ: إنَّه يَرجِعُ إلى ما يَليه حتَّى يَقومَ الدَّليلُ على إرادةِ الجَميعِ؛ فإن كان مُتَأخِّرًا اختَصَّ بالجُملةِ الأخيرةِ، وإن كان مُتَقدِّمًا اختَصَّ بالجُملةِ الأولى.
وهو قَولُ بَعضِ النُّحاةِ [2090] يُنظر: ((منتهى السول)) للآمدي (ص: 144)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/629)، ((أصول الفقه)) لابن مفلح (3/939). ، وحَكاه الرَّازيُّ عن بَعضِ الأُدَباءِ [2091] يُنظر: ((المحصول)) (3/62). ، وحَكاه القَرافيُّ عن بَعضِ العُلَماءِ [2092] يُنظر: ((العقد المنظوم)) (2/272). .
وقيلَ بالتَّوقُّفِ. وهو قَولُ الباقِلَّانيِّ [2093] يُنظر: ((التقريب والإرشاد)) (3/155). ، والرَّازيِّ [2094] يُنظر: ((المحصول)) (3/62). ، وتَبِعَه سِراجُ الدِّينِ الأُرْمويُّ [2095] يُنظر: ((التحصيل)) (1/384). .
أمثِلةٌ تَطبيقيَّةٌ للمَسألةِ:
تَظهَرُ ثَمَرةُ الخِلافِ في هذه المَسألةِ في بَعضِ الفُروعِ الفِقهيَّةِ، منها:
1- إذا قال: امرَأتي طالِقٌ، وعَبدي حُرٌّ، ومالي صَدَقةٌ، إن شاءَ اللهُ.
فإنَّ الشَّرطَ يَرجِعُ إلى جَميعِ الجُمَلِ، فلا يَقَعُ الطَّلاقُ، ولا عِتقُ العَبدِ، ولا يَصيرُ المالُ صَدَقةً [2096] يُنظر: ((العدة)) لأبي يعلى (2/680)، ((شرح اللمع)) للشيرازي (1/413)، ((ميزان الأصول)) للسمرقندي (ص: 316)، ((تخريج الفروع على الأصول)) للزنجاني (ص: 380). .
2- إذا قال: أنتِ طالِقٌ واحِدةً، بَل ثَلاثًا إن دَخَلتِ الدَّارَ.
فالأصَحُّ: وُقوعُ واحِدةٍ بقَولِه: أنتِ طالِقٌ. وتَتَعَلَّقُ طَلقَتانِ بدُخولِ الدَّارِ.
والقَولُ الثَّاني: تَتَعَلَّقُ الثَّلاثُ بالدُّخولِ، كَذا ذَكَرَه الرَّافِعيُّ في بابِ تَعَدُّدِ الطَّلاقِ [2097] يُنظر: ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (3/283)، ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 402)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/421). .
3- لَو قال: أنتِ طالِقٌ، ثُمَّ طالِقٌ، إن دَخَلتِ الدَّارَ.
رَجَعَ الشَّرطُ إليهما، فإن كانت غَيرَ مَدخولٍ بها لَم يَقَعْ بالدُّخولِ إلَّا واحِدةٌ [2098] يُنظر: ((التمهيد)) للإسنوي (ص: 402). .

انظر أيضا: