موسوعة أصول الفقه

الفرعُ الثَّالِثُ: التَّخصيصُ بالصِّفةِ


المُرادُ بالصِّفةِ هنا: الصِّفةُ المَعنَويَّةُ، لا مُجَرَّدُ النَّعتِ المَذكورِ في عِلمِ النَّحوِ، ومَعناها: ما أشعَرَ بمَعنًى يُنعَتُ به أفرادُ العامِّ، نَحوُ: "أكرِمِ العُلَماءَ الزُّهَّادَ"؛ فإنَّ التَّقييدَ بالزُّهَّادِ يُخرِجُ غَيرَهم [2099] يُنظر: ((البحر المحيط)) للزركشي (4/355)، ((التحبير)) للمرداوي (6/2626)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/377). .
قال إمامُ الحَرَمَينِ: (الوَصفُ عِندَ أهلِ المَعرِفةِ مَعناه التَّخصيصُ، فإذا قُلتَ: "رَجُلٌ" شاعَ هذا في جِنسِ الرِّجالِ، وإذا قُلتَ "طَويلٌ" اقتَضى ذلك تَخصيصًا، فلا تَزالُ تَزيدُ وصفًا ليَزدادَ المَوصوفُ اختِصاصًا، وكُلَّما يَزيدُ الوصفُ قَلَّ المَوصوفُ) [2100] ((نهاية المطلب)) (18/522). .
مِثالُ التَّخصيصِ بالصِّفةِ: حَديثُ أنَّ في سائِمةِ الغَنَمِ زَكاةً [2101] عن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنه: أنَّ أبا بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه كَتَبَ له هذا الكِتابَ لَمَّا وجَّهَه إلى البَحرَينِ: (بسمِ اللهِ الرَّحمَنِ الرَّحيمِ، هذه فريضةُ الصَّدَقةِ التي فرَضَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على المُسلِمينَ، والتي أمَرَ اللهُ بها رَسولَه، فمَن سُئِلَها مِنَ المُسلِمينَ على وَجهِها فليُعطِها، ومَن سُئِلَ فوقَها فلا يُعطِ:... وفي صَدَقةِ الغَنَمِ في سائِمَتِها إذا كانت أربَعينَ إلى عِشرينَ ومِئةٍ: شاةٌ...). أخرجه البخاري (1454). ؛ حَيثُ خَصَّ وُجوبَ الزَّكاةِ بالغَنَمِ السَّائِمةِ، ولَولا ذِكرُ "السَّائِمةِ" لَوجَبَتِ الزَّكاةُ في جَميعِ الغَنَمِ: السَّائِمةِ والمَعلوفةِ [2102] يُنظر: ((البرهان)) لإمام الحرمين (1/167). .
وقَولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ألَا لا يَحِلُّ لَكُمُ الحِمارُ الأهليُّ)) [2103] أخرجه أبو داود (4604)، وأحمد (17174)، والطبراني (20/283) (670) واللَّفظُ له من حديثِ المِقدامِ بنِ مَعدِيكَرِبَ رَضِيَ اللهُ عنه. صَحَّحه الألبانيُّ في ((صحيح سنن أبي داود)) (4604)، وحَسَّنه لغيره الوادعي في ((صحيح دلائل النبوة)) (591)، وصَحَّحَ إسنادَه ابنُ القيم في ((تهذيب السنن)) (10/286)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4604). .
فالتَّخصيصُ بالصِّفةِ في قَولِه: "الحِمارُ الأهليُّ" لنَفيِ عُمومِ الحُكمِ؛ لأنَّ البَرِّيَّ حَلالٌ [2104] يُنظر: ((شرح المصابيح)) لابن الملك (1/169)، ((مرقاة المفاتيح)) للقاري (1/247). .
وقَولُ القائِلِ: "أكرِمِ النَّاسَ الطِّوالَ" فقَصَرَتِ الصِّفةَ -وهيَ: "الطُّولُ"- العامَّ -وهو "النَّاسُ"- على بَعضِ أفرادِه، وهو الطِّوالُ؛ فإنَّ الصِّفةَ تَقتَضي قَصرَ الإكرامِ على المُتَّصِفِ، ولَو لَم يَقُلِ: "الطِّوالَ" لَزِمَ إكرامُ جَميعِ النَّاسِ [2105] يُنظر: ((التمهيد)) للكلوذاني (2/72)، ((شرح العضد)) (3/67)، ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (3/297). .
أحكامُ التَّخصيصِ بالصِّفةِ:
الصِّفةُ: إمَّا أن تَكونَ مَذكورةً عَقيبَ جُملةٍ واحِدةٍ، أو عَقيبَ جُمَلٍ كَثيرةٍ:
فإن كانت مَذكورةً عَقيبَ جُملةٍ واحِدةٍ: فإمَّا أن تَكونَ واحِدةً أو كَثيرةً:
فإن كانت واحِدةً فلا نِزاعَ في عَودِها إليها وتَخصيصِها بها، كقَولِ: "أكرِمِ العُلَماءَ الزُّهَّادَ"؛ فإنَّه يَخرُجُ بسَبَبِ هذا الوصفِ غَيرُ الزُّهَّادِ مِنهم. ولَولاه لدَخَل تَحتَه الزُّهَّادُ وغَيرُ الزُّهَّادِ مِنهم.
وإن كانت كَثيرةً: فإمَّا أن يَكونَ على الجَمعِ، كقَولِ: "أكرِمِ العُلَماءَ الزُّهَّادَ والعُبَّادَ"، وحُكمُه: تَقييدُه بمَجموعِها.
وإمَّا أن يَكونَ على البَدَلِ، كقَولِ: "أكرِمِ العُلَماءَ الزُّهَّادَ أوِ العُبَّادَ"، وحُكمُه: تَقييدُه بأحَدِها، أيَّ واحِدٍ كان [2106] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (4/1601). .
وإن كانتِ الصِّفةُ مَذكورةً عَقيبَ جُمَلٍ كَثيرةٍ: كقَولِ: "أكرِمِ العُلَماءَ والتُّجَّارَ والطُّلَّابَ الطِّوالَ"؛ فإنَّ الصِّفةَ تَعودُ إلى الجُمَلِ كُلِّها، أي: أكرِمِ الطِّوالَ مِنَ العُلَماءِ، والطِّوالَ مِنَ التُّجَّارِ، والطِّوالَ مِنَ الطُّلَّابِ.
وقيلَ: تَرجِعُ الصِّفةُ إلى أقرَبِ مَذكورٍ، وهيَ الجُملةُ الأخيرةُ، فيَكونُ المُرادُ: أكرِمْ جَميعَ العُلَماءِ والتُّجَّارِ، والطَّوالَ مِنَ الطُّلَّابِ.
وحُكمُ الصِّفةِ حُكمُ الاستِثناءِ في وُجوبِ الاتِّصالِ، وعَودِها إلى الجُمَلِ، فإذ وقَعَت بَعدَ جُمَلٍ مُتَعاطِفةٍ بالواوِ، فالخِلافُ فيه كالخِلافِ في الاستِثناءِ هَل يَرجِعُ إلى الجُملةِ الأخيرةِ، أو جَميعِ الجُمَلِ فيما لَو قال: "أكرِمِ العُلَماءَ والتُّجَّارَ والطُّلَّابَ إلَّا الطِّوالَ" [2107] يُنظر: ((نهاية الوصول)) لصفي الدين الهندي (4/1601)، ((شرح مختصر الروضة)) للطوفي (2/629)، ((بيان المختصر)) لشمس الدين الأصفهاني (2/305)، ((شرح العضد)) (3/67)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (4/1659). .
والصِّفةُ المُتَقدِّمةُ كالمُتَأخِّرةِ في عَودِ الخِلافِ، فإن وقَعَتِ الصِّفةُ قَبلَ جُمَلٍ، كقَولِ: "أكرِمِ الطِّوالَ مِنَ العُلَماءِ والتُّجَّارِ"؛ فإنَّها تَرجِعُ إلى الجَميعِ، فيَكونُ المُرادُ: أكرِمِ الطِّوالَ مِنَ العُلَماءِ والطَّوالَ مِنَ التُّجَّارِ فقَط.
وإذا تَوسَّطَتِ الصِّفةُ بَينَ جُمَلٍ، مِثلُ: "أكرِمِ العُلَماءَ الطِّوالَ والتُّجَّارَ"، فالرَّاجِحُ أنَّ الصِّفةَ تَكونُ لِما قَبلَها لا لِما بَعدَها؛ لعَدَمِ جَوازِ تَقَدُّمِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، والتَّقديرُ: أكرِمِ العُلَماءَ الطِّوالَ، أمَّا التُّجَّارُ فأكرِمْهم جَميعًا طِوالَهم وقِصارَهم.
وقيلَ: إنَّ الصِّفةَ تَرجِعُ إلى الجُملَتَينِ: إلى ما قَبلَها وإلى ما بَعدَها [2108] يُنظر: ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (3/297)، ((البحر المحيط)) للزركشي (4/456)، ((إرشاد الفحول)) للشوكاني (1/378)، ((المهذب)) لعبد الكريم النملة (4/1660). .
ومِنَ الأمثِلةِ التَّطبيقيَّةِ للمَسألةِ:
لو قال: وَقَفتُ على مُحتاجي أولادي وأولادِهم، يُشتَرَطُ الحاجةُ في أولادِ الأولادِ على الصَّحيحِ؛ لأنَّ الصِّفةَ المُتَقدِّمة كالمُتَأخِّرةِ [2109] يُنظر: ((رفع الحاجب)) لابن السبكي (3/297)، ((الدرر اللوامع)) للكوراني (2/358)، ((شرح الكوكب المنير)) لابن النجار (3/348). .

انظر أيضا: